يمكن تعريف الدولة العميقة بأنها
عبارة عن شبكة الأشخاص الذين ينتمون الى تنظيم غير رسمي له مصالحه الواسعة وامتداداته العريضة في
الداخل والخارج. ونجد هذه الشبكة في مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة المدنية والعسكرية
والسياسية والإعلامية والأمنية الأمر الذي يوفر لتلك العناصر فرصة توجيه انشطة
مؤسسات الدولة الرسمية والتأثير في القرار السياسي . وكما يرى العديد من الباحثين
فإن للدولة العميقة وجهان : وجه معلن وظاهر يتمثل في رجالها الذين يتبوؤون مواقع
متقدمة في مؤسسات الدولة المختلفة . أما الوجه الآخر فهو خفي غير معلن يتولى تحريك
الأطراف المعنية في مؤسسات الدولة لتنفيذ المخططات المرسومة .(1)
نشأة الدولة العميقة
تشير
البحوث إلى أن الدولة العميقة قد نشأت في تركيا والتي هي عبارة عن شبكة سرية
إنشأها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 والتي عرفت بالدولة العميقة حيث تتألف هذه
الشبكة من عدة مجموعات من الشرطة وضباط القوات المسلحة وبعض من رجال القضاء
والبيروقراطيين ومجموعات أخرى للقيام بأعمال سرية الهدف منها المحافظة على علمانية
الدولة التركية التي أنشأها مصطفى أتاتورك وقمع أي أفكار أو حركات أو أحزاب أو أعضاء
الحكومة التي من شأنها تهديد العلمانية . (2).
أما
في العراق , فيمكن القول أن الدولة العميقة في العراق تضم شبكة لأشخاص وقوى سياسية
ومافيات فساد تلتقي مصالحهم معا . وبعد 2003 تم تهديم الدولة العراقية وانتهاء
المرتكزات الرئيسة لها. ( 3) . وأصبحت الميليشيات المسلحة وخاصة تلك المرتبطة
بإيران تتحكم بالدولة وقراراتها وحتى في تعيين رئيس الوزراء والكابينة الوزارية وأصحاب
الدرجات الخاصة والمدراء العامون, ووصل الأمر بها أنها قامت بتهديد رئيس الجمهورية
والتهديد بإخراجه من بغداد في حالة عدم امتثاله لتوجيهاتها الإيرانية بتعيين رئيس
الوزراء . كذلك قيامها بتهديد رئيس الوزراء المكلف محمد علاوي بالتصفية ومحاصرة
المنطقة الخضراء في حالة عدم الإمتثال لتوجيهاتها الإيرانية , إضافة إلى دورها في
قتل المتظاهرين السلميين وخطفهم وحرق خيامهم في ساحات الإعتصام تنفيذا للتوجيهات
الإيرانية لكون الميليشيات تدين بالولاء لإيران أكثر من ولائها للعراق . ولن تنتهي
الدولة العميقة في العراق إلا بسحب كل السلاح من المواطنين والعصابات والفصائل
المسلحة والعشائر , مع إصدار قانون صارم يمنع حمل السلاح خارج القانون واستخدامه
من أي طرف كان والعمل على حل الفصائل المسلحة من الحشد الشعبي بعد إنتهاء دورها في
محاربة داعش وتحرير المدن التي احتلها داعش وسبق وإن صدر أمر ديواني بدمج فصائل
الحشد الشعبي مع القوات المسلحة الرسمية إلا أن الميليشيات إمتنعت عن التنفيذ
للحفاظ على مصالحها .
تسعى
الدولة العميقة إلى الإبقاء على مصالحهم وإمتيازاتهم الخاصة وإستثناؤهم من أية
محاسبة أو مساءلة وعدم تعرضهم لأية متابعة قضائية إن اهتز النظام القائم . ولشبكة
الدولة العميقة امتدادات اقليمية ودولية. ( 4) , واليوم نجد الدولة العميقة في
تركيا وفي الولايات المتحدة من خلال الدور الذي تقوم به وكالة الأمن المركزي
واللوبيات وخاصة اللوبي الصهيوني , وكذلك نجدها في مصر من خلال الجيش وكبار رجال
الأعمال ونجدها في العراق من خلال تحكم الميليشيات الإيرانية المسلحة بالحكومة
العراقية وغيرها .
حصر السلاح بيد الدولة
كثيرا
ما يدور الحديث عن ضرورة حصر السلاح بيد الدولة العراقية , غير أن الواقع يشير إلى
عكس ذلك , حيث هناك العديد من الجماعات
المسلحة التابعة لأحزاب سياسية تمتلك آلاف القطع غير المرخصة حيث تعتبر هذا السلاح
داعما لنفوذها وسيطرتها , فكيف ستتخلى عن نفوذها ؟ (5) .
حسب
دراسة أعدتها الأمم المتحدة فإن العراق أصبح اليوم من أكثر الدول العربية التي
تنتشر فيها الأسلحة المنفلتة وأصبح السلاح المنفلت يستهدف العراقيين ويقتل
المتظاهرين السلميين الذين يطالبون بإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والخدمية , وتظاهرهم حق مكفول بموجب الدستور العراقي الذي تم ركنه على
الرفوف . فما تقوم به القوات الأمنية والميليشيات المسلحة المنفلتة ضد المتظاهرين
السلميين في ساحات الاعتصام مخالف لمبادئ حقوق الإنسان التي كفلت حقوق السلامة
الشخصية وأمن الإنسان وحريته , حيث إن لكل إنسان حق في الحياة والحرية وفي التمتع
بالأمان على شخصه ,كما لا يجوز تعذيب أحد أو اعتقاله تعسفا كما يجري اليوم في
ساحات الإحتجاج بعيدا عن القانون وفي ظل عجز الحكومة عن فرض القانون وحماية
المواطنين .
الدستور العراقي
نصت
المادة (7) / ثانيا من الدستور العراقي النافذ على : (( تلتزم الدولة محاربة الإرهاب
بجميع أشكاله وتعمل على حماية أراضيها من أن تكون مقرا أو ممرا أو ساحة لنشاطه ))
. واليوم نلاحظ أن الدولة نفسها تمارس الإرهاب ضد مواطنيها حيث يتم قتل المتظاهرين
السلميين بالرصاص الحي والغازات القاتلة إضافة إلى الخطف والاعتقال غير القانوني
والتعذيب , وتحويل أراضي العراق من قبل الميليشيات المسلحة المنفلتة المدعومة من
إيران إلى منطقة صراع من خلال قصفها السفارة الأمريكية في بغداد خلافا للمواثيق
الدولية وقصفها للقواعد العراقية التي يتواجد فيها الأمريكان بموجب الاتفاقية الإستراتيجية
مع العراق .
أما
المادة (9) / أولا / أ / من الدستور فقد
نصت على : (( تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب
العراقي بما يراعى توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء وتخضع لقيادة السلطة المدنية
وتدافع عن العراق ولا تكون أداة لقمع الشعب العراقي ولا تتدخل في الشؤون السياسية ولا دور لها في تداول
السلطة )) , بينما نجد هناك العديد من المخالفات الدستورية حيث تحولت القوات
المسلحة إلى أداة لقمع الشعب العراقي واستخدامها القوة المفرطة في قتل وتفريق
المتظاهرين السلميين. في حين نصت المادة ( 9 ) / أولا /ب / على : (( يحظر تكوين
ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة ..))
( 6 ) , بينما يشير الواقع إلى وجود نحو ( 57 ) فريقا
مسلحا, وبحسب رئيس القيادة المركزية للقوات الأمريكية الجنرال ( ستيفن فوتيل ) فإن
أكثر من 100 ألف مسلح ينتمون لفصائل شيعية ينشطون في الأراضي العراقية , وهذا ما
يعده الجنرال الأمريكي ( قلقا كبيرا ) . وقد أصبح العراق اليوم أمام أزمة كبيرة
تهدد سلمه المجتمعي بسبب السلاح المنفلت الخارج عن سيطرة الحكومة الضعيفة . وفيما
يتعلق بالمادة ( 15 ) من الدستور العراقي فقد نصت المادة على :(( لكل فرد الحق في
الحياة والأمن والحرية ولا يجوز الحرمات من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقا
للقانون وبناء على قرار صادر من جهة قضائية مختصة )) , غير أننا نجد أن السلطات
العراقية وميليشياتها المسلحة المنفلتة قد حرمت أكثر من 600 من الشباب والفتية من
الحياة وأصابت وعوقت أكثر من 25 ألف من الشباب
والمئات من الشباب المختطفين والمعتقلين
بدون أمر قضائي كما نص على ذلك الدستور العراقي الذي أصبح في ظل الحكومات
المتعاقبة حبرا على ورق .
كيف انتشر السلاح في
العراق ؟
أدى
ظهور داعش واحتلاله لثلث الأراضي العراقية إلى تولد ردة فعل عن ذلك وتسلح أغلب
القواعد الشعبية وكم كبير من الأفراد وخاصة بعد دعوة الرجعية الدينية , لأجل مجابهة
الإحتلال والإرهاب , ما أدى إلى ظهور
قيادات عسكرية قامت بتنظيم هذه المجاميع والأفراد والتي أصبحت تمتلك الأسلحة ,
وحتى أن بعض الكتل الحزبية أو الدينية أجبرتها مرحلة داعش على تأسيس جناح عسكري
لأجل مجابهة هذا الخطر المحدق . كما إحتاجت بعض القيادات العسكرية غير النظامية إلى
دعم خارجي وأصبحت أغلب التكتلات العسكرية مرتبطة بقوى خارجية وخاصة مع إيران ,
وكان للقيادات العسكرية غير النظامية أهدافا ومصالح تختلف عن بعضها البعض بل قد
تتضارب وتتعارض في بعض الأهداف وهنا تكمن أشد المخاطر حيث من السهل لأي جهة أن
تشعل حربا داخلية , علما أن وجود عدة قيادات وجيوش في بلد واحد كالعراق هو تقويض
لسلطة الدولة خاصة في ظل وجود جيش نظامي ضعيف وحكومة ضعيفة عاجزة عن فرض القانون
وتنفيذ برنامجها كما لاحظنا ذلك في حكومة
العبادي التي أقرت بحصر السلاح بيد الدولة لكنها لم تستطع فعل ذلك . وكذلك الحال بالنسبة
لحكومة عبد المهدي التي أصدرت قرارا بدمج الميليشيات العسكرية مع القوات المسلحة
العراقية الرسمية ولكنها لم تمتثل لهذا الأمر . ويلاحظ أن ولاء الميليشيات المسلحة
يكون لقياداتها العقائدية أكبر من ولائها للدولة العراقية, فالدولة العميقة تدار
من جهات اقليمية وخارجية ,(7) وما على بيادقها في العراق إلا تحقيق أجندة هذه
الجهات وأصدق تعبير على ظاهرة الدولة العميقة هو ما صرح به ( المرشد الإيراني علي
خامنئي ) مدير الدولة العميقة في إيران في خطاب له أعطى فيه الضوء الأخضر لبيادقه
في العراق وإيران بالتحرك لسفك دماء الشبيبة المطالبة بالإصلاح وإنها حراكهم .
فالدولة العميقة في العراق اليوم لا تخضع ولا تدار من قبل القوانين العراقية
السارية , لذلك من الصعب حصر السلاح بيد الدولة كون أغلب الميليشيات المسلحة
مرتبطة عقائديا بالمرشد الإيراني وهذا يتطلب وجود حكومة عراقية قوية تستطيع فرض
القانون وتحصر السلاح بيد الدولة وتغادر نهج المحاصصة والطائفية , حكومة تستطيع وضع حد لظاهرات وجود جماعات
مسلحة وميليشيات تعمل خارج إطار الدولة وضوابطها حسب الدستور العراقي . ومن
الضروري اتخاذ الخطوات الرادعة لأي تمرد على سلطة الدولة وهيبتها ولأي مسعى يستهدف
إضعافها بما في ذلك التصدي بحزم وبقوة لجماعات الجريمة المنظمة وعصابات السطو
المسلح واختطاف المواطنين والتدخلات العشائرية في شأن ومهام مؤسسات الدولة .
من
الضروري تأطير عمل الحشد الشعبي الذي قدم
التضحيات والشهداء في سبيل الدفاع عن الوطن و ضمان حقوق منتسبيه كمؤسسة مؤقتة
خاضعة لإمرة القائد العام للقوات المسلحة تنتهي مهماتها مع استكمال دحر داعش الإرهابي
مع عزل العناصر المسيئة والمثيرة للنعرات
الطائفية والتصدي بحزم لأفعالها الخارجة
عن القانون . إضافة إلى المعالجة الجادة
والمسؤولة لقضية التشكيلات المسلحة والميليشيات غير النظامية وفقا لما نص عليه
الدستور وتفعيل القرارات والأوامر الصادرة في هذا الشأن واتخاذ كل الإجراءات
الفعالة التي تؤدي في النهاية إلى حصر السلاح والعمليات المسلحة بيد الدولة
وأجهزتها المخولة
موقف المرجعية الدينية في العراق
وبشأن
حصر السلاح بيد الدولة فقد أكد ممثل المرجعية ( علي السيستاني ) على أن استقرار
البلاد رهن بحصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية وأن تظل القوات المسلحة العراقية
مهنية وموالية للدولة وبعيدة عن النفوذ الأجنبي .
موقف الأمم المتحدة
أكدت
الأمم المتحدة على أن من الأولويات المطلوبة من العراق بعد إعلانه على النصر على
داعش هو حصر السلاح بيد الدولة مشددة على أنه لا يمكن أن تكون الدولة ديمقراطية
مستقرة دون عدالة ومساءلة واحترام لحقوق الإنسان , ويجب أن تكون سيادة القانون فوق
الجميع لحمايتهم وتعزيز حقوقهم , ولا يمكن لعراق المستقبل أن يتمتع بالاستقرار
الكامل والنزاهة والسيادة دون وضع السلاح في يد الدولة وتحت سيطرتها حصرا . ( 8 )
تعتبر
الدولة العراقية هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن فوضى السلاح وتدفقه من خلال
المنافذ الحدودية مع إيران وتركيا وعن طريق موانئ البصرة. وفي حالة بقاء الدولة
العميقة فإنها ستلتهم الدولة وتسيطر عليها, وستبقى الدولة العميقة تلعب دورا مؤثرا
في المجتمع العراقي مالم يتم نزع السلاح من جميع التشكيلات المسلحة التي تمتلك
سلاحا خارج سيطرة الدولة وما لم يتم مكافحة عصابات الإرهاب والإجرام من أجل ضمان
الأجواء الأمنية السليمة , وأن حصر السلاح بيد الدولة يعتبر أحد أهم عناصر الاصلاح
.
فهل ستتمكن الحكومة العراقية الجديدة بعد تشكيلها من الوقوف بوجه الميليشيات الإيرانية وحصر السلاح بيد الدولة ؟
الهوامش
1)
د. صالح ياسر / ملاحظات سريعة حول مفهوم الدولة العميقة
.
2)
سطور / مفهوم الدولة العميقة .
3)
زيد سالم / العربي الجديد / الدولة العميقة في العراق :
الحقيقة والمبالغات .
4)
نفس المصدر السابق :
د. صالح ياسر .
5)
رصيف 22 / حصر السلاح بيد الدولة العراقية ... لعبة ام
حقيقة ؟
6)
الدستور العراقي لعام 2005 .
7)
شفق / حصر السلاح بيد الدولة .
8) الانتخابات والمصالحة وحصر السلاح بيد الدولة وانهاء الفساد ... الأمم المتحدة تحدد اولويات ما بعد داعش .