توازن استراتيجي.... كيف تستفيد تركيا من التنافس الأمريكي الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي؟
مع تصاعد المنافسة بين الولايات
المتحدة والصين حول الذكاء الاصطناعي، تسعى تركيا إلى إيجاد طريق بين القوتين، وتحقيق
الاستقلال في سباق التكنولوجيا العالمي. لقد اتخذ التنافس بين الولايات المتحدة والصين
شكلاً جديداً، يركز على الذكاء الاصطناعي، وهي تقنية محورية للتأثير في المستقبل.
وتؤكد استراتيجية الأمن القومي للرئيس جو بايدن بشأن الذكاء الاصطناعي على إلحاح
هذه المنافسة، مما يضع الولايات المتحدة في موقع القائد في تطوير الذكاء الاصطناعي
الآمن والموثوق. وفي الوقت نفسه، تجد دول مثل تركيا نفسها تتنقل في هذا المشهد
المعقد، وتوازن العلاقات مع القوتين العظميين بينما تشكل أدوارها الخاصة في سباق
التكنولوجيا العالمي.
أولاً: التحول إلى الذكاء
الاصطناعي كضرورة أمنية وطنية
أصبح الذكاء الاصطناعي ضرورياً لتحقيق الأمن
القومي للولايات المتحدة، حيث يساعد الحكومات في جمع المعلومات الاستخباراتية ومواجهة
التهديدات وإظهار القوة، وتؤكد استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن على أهمية
تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي للحفاظ على ميزة تنافسية على منافسيها.
فالتركيز على الموهبة والابتكار يشكل
جوهر استراتيجية الولايات المتحدة، وهو أمر بالغ الأهمية لأنظمة الذكاء الاصطناعي
المتقدمة. وأصبح تأمين سلاسل التوريد والحفاظ على السيطرة على أجهزة الذكاء
الاصطناعي أمراً بالغ الأهمية للحفاظ على التفوق التكنولوجي والعسكري للولايات
المتحدة. وفي هذا السياق، يتم توجيه وكالات الاستخبارات والأمن الأمريكية لتطوير
تدابير مضادة تهدف لحماية الابتكارات الأمريكية في هذا الشأن من الاستغلال من قبل
الخصوم.
ثانياً: تشكيل تحالف تقني
سياسي للدول الديمقراطية
تحشد الولايات المتحدة تحالفاً تقنياً
سياسياً للدول الديمقراطية لموازنة نفوذ الصين المتزايد. ويهدف هذا التحالف إلى
وضع معايير عالمية للذكاء الاصطناعي تؤكد على القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولعبت الولايات المتحدة دوراً رئيسياً في تعزيز الذكاء الاصطناعي، ولا سيما من
خلال مدونة السلوك الدولية لمجموعة الدول السبع بشأن الذكاء الاصطناعي، ويؤكد قرار
الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير بشأن الذكاء الاصطناعي على أهمية الجهد
الجماعي لإنشاء أطر تحترم الحقوق لتطوير الذكاء الاصطناعي.
على الصعيد المحلي، يعمل معهد سلامة
الذكاء الاصطناعي كحلقة وصل رئيسية، لتسهيل التعاون بين الوكالات الحكومية
والمبتكرين من القطاع الخاص ومجتمع الاستخبارات. ويهدف معهد سلامة الذكاء
الاصطناعي إلى تبسيط الجهود وتشجيع الخبرات المتنوعة ومعالجة المخاطر المرتبطة
بتطوير الذكاء الاصطناعي. وعلاوة على ذلك، يسلط إطلاق مشروع الموارد البحثية
الوطنية للذكاء الاصطناعي الضوء على التزام إدارة بايدن بإضفاء الطابع الديمقراطي
على ابتكارات الذكاء الاصطناعي من خلال توفير الموارد لمجموعة أوسع من الباحثين،
وبالتالي تقليل الاعتماد على شركات التكنولوجيا الكبرى.
ثالثاً: موقف تركيا من
التنافس الأمريكي الصيني
تتعامل تركيا، حليفة الولايات المتحدة
في حلف شمال الأطلسي، مع هذا التنافس التكنولوجي السياسي باستراتيجية أكثر تحفظاً؛
حيث يتشكل موقف تركيا في هذا التنافس من خلال تحقيق التوازن بين التحالف مع
الحلفاء الغربيين والحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الصين. ويعكس هذا النهج
المزدوج السياسة الخارجية الأوسع لتركيا، حيث تسعى إلى تحقيق الاستقلال من خلال
تجنب التحالف الصارم مع أي من الجانبين، وخاصة في مجال التكنولوجيا والاستثمارات
الاقتصادية.
ومن خلال هذا النهج، تحاول تركيا
الاستفادة من الفرص من كلتا القوتين، وموازنة التزامات حلف شمال الأطلسي والفوائد
الاقتصادية من الصين؛ حيث إن العلاقات المتعمقة التي تربط تركيا بالقوتين توضح
الرغبة في المشاركة دون الاصطفاف الكامل، وهو الأمر الذي يتضح من خلال استكشاف تركيا
الشراكات التكنولوجية مع الصين، وخاصة في مجالات مثل الجيل الخامس. ويظهر ذلك مدى
جدية تركيا بالتقدم في التقنيات الحرجة؛ حيث أعلن وزير النقل والبنية التحتية
التركي في مارس 2024 أن البلاد ستنتقل إلى شبكات الجيل الخامس في عام 2026.
فتكشف عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي
والعلاقات الدفاعية الطويلة الأمد مع الولايات المتحدة على الانحياز نحو الغرب في
المسائل الأمنية؛ حيث يتم تنسيق تكنولوجيا الدفاع التركية، وخاصة الطائرات بدون
طيار، بشكل وثيق مع معايير الناتو. وفي الوقت نفسه، تتوخى تركيا الحذر بشأن
الاعتماد بشكل مفرط على أي دولة واحدة في التكنولوجيا الحرجة.
وفي الوقت ذاته، تركز تركيا بشكل
متزايد على بناء قدراتها التكنولوجية الخاصة لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا
الأجنبية؛ حيث تشكل الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الدفاع والقدرات
السيبرانية أولوية، بهدف تعزيز المرونة الوطنية لتركيا وكسبها مستوى من الاستقلال
في سباق التكنولوجيا العالمي. وتهدف استراتيجية الذكاء الاصطناعي الوطنية في
تركيا، التي أطلقت في عام 2021، إلى جعل تركيا واحدة من أفضل 20 دولة في مؤشرات
الذكاء الاصطناعي الدولية، مع التركيز على التعليم والبحث والتطوير في تقنيات
الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، تطمح تركيا إلى أن
تكون دولة رائدة إقليمياً في المجال التكنولوجي، من خلال التركيز على تأسيس مبادرات
لتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي المحلية والبنية التحتية الرقمية. وتتضمن الخطة
الاستراتيجية لوزارة الخارجية التركية 2024-2028 أهدافاً مثل تطوير نموذج لغوي
مشترك مع الدول التركية، ومن الجدير بالذكر أن الرقمنة مدرجة ضمن قيمها الأساسية. وتسعى
تركيا إلى ترسيخ نفسها كمركز للتكنولوجيا في أوراسيا، من خلال الانفتاح على المزيد
من التعاون الدولي في لوائح الذكاء الاصطناعي عبر الاستفادة من كافة القوى الشرقية
والغربية.
وفي النهاية: يمكن القول إن نموذج الذكاء الاصطناعي الذي تتبناه إدارة
بايدن يمثل ركيزة أساسية في التنافس بين الولايات المتحدة والصين بشأن الذكاء
الاصطناعي. ومن خلال تحالف من الدول ذات التفكير المماثل، تهدف الولايات المتحدة
ليس فقط إلى تأمين الزعامة التكنولوجية، بل وأيضاً إلى إرساء أسس أخلاقية للذكاء
الاصطناعي. ومع تكثيف هذا التنافس، يتردد صدى التزام الولايات المتحدة بنهج
ديمقراطي يحترم الحقوق في تطوير الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد لدى الحلفاء. ولا
تزال نتيجة هذه الاستراتيجية غير معروفة، لكن الولايات المتحدة وضعت نصب عينيها
القيادة برؤية تجمع بين التقدم التكنولوجي والمرونة الديمقراطية.
وفي هذا المشهد، يعكس دور تركيا عملاً
متوازنًا دقيقاً. فمن خلال رعاية العلاقات مع كل من الولايات المتحدة والصين
والتركيز على تطوير قدراتها التكنولوجية الخاصة، تسعى تركيا إلى الحفاظ على
الاستقلال الاستراتيجي والمرونة. في الوقت الحالي، يتيح هذا النهج لتركيا تعزيز
قطاعها التكنولوجي وتأمين نفوذها الإقليمي، وترسيخ مكانتها كلاعب هام دون الاصطفاف
بشكل كامل مع أنظمة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة أو الصين.