ما إن أعلنت "إدارة العمليات
العسكرية" في إدلب شمال سوريا انطلاق عملية "ردع العدوان" في
السابع والعشرين من نوفمبر حتى تهاوت الخطوط الأمامية للقوات الموالية لإيران،
وشيئًا فشيئًا تراجع الإيرانيون وحلفاؤهم لا يلوون على شيء تاركين المجال مفتوحا
لتقدم الفصائل القادمة من إدلب حتى دخلوا دمشق وأعلنوا نهاية عهد بشار الأسد
وبداية حقبة جديدة ليس لإيران فيها نفوذ ولا وجود في سوريا.
في خلال أيام انهار ما بنته طهران في سوريا
خلال سنوات طويلة بشكل أذهل الجميع، وهذا يثير تساؤلًا رئيسيًا: ما موقف إيران من
التطورات الأخيرة في سوريا؟
انسحاب مفاجئ
بمجرد سريان الهدنة في لبنان بين حزب الله
وإسرائيل، وجد الإيرانيون أنفسهم وسط معركة غير متوقعة مع بداية الهجوم الذي انطلق
من إدلب في فجر السابع والعشرين من نوفمبر، فأُخذوا على حين غِرة، وقٌتل قائدهم،
البريجادير جنرال كيومارس بورهاشمي بالحرس الثوري الإيراني، ومع انكسار قواتهم في
سراقب تهاوت مواقعهم في الشمال بسرعة كقطع الدومينو المتراصة.
ورغم التهديدات والتعهدات الرسمية الإيرانية
على أعلى مستوى، تبخرت القوات الموالية لطهران من أكثر من خمسمائة موقع في أنحاء
البلاد، وتقدم المهاجمون إلى حلب ثم حماة ثم حمص حتى وصلوا إلى دمشق ودخلوها فجأة.
ورغم المعارك العنيفة على مدينتي حماة وحمص،
فإن معظم القوات الموالية لطهران لم تكن في الصفوف الأمامية، وهو ما بثه
التليفزيون الحكومي الإيراني، على لسان المحلل السياسي، سهيل كريمي، في برنامج
إخباري اتهم فيه وزير الخارجية بأن تصريحاته بدعم الحكومة السورية لم تكن سوى أمل
كاذب، مضيفا: "الواقع في الميدان ليس كما يقول، رجالنا ليسوا في ساحة المعركة
في سوريا الآن، لم يُسمح لهم"، مستشهداً باتصالاته في سوريا.
وقبل مغادرة بشار بيوم، الجمعة، بدأت طهران
في تسفير قادتها العسكريين والموظفين الدبلوماسيين، وانتشر ، في نفس اليوم، مقطع
فيديو على منصات التواصل الاجتماعي التابعة للحرس الثوري، يظهر ضريح السيدة زينب قرب
دمشق فارغًا تقريبًا، وشخص يقول "قد تكون هذه آخر صور تراها للضريح، غادر
الجميع سوريا، وتم إجلاء كل الإيرانيين"، ثم يجهش بالبكاء. رغم أن الدفاع عن
هذا الضريح تحديدا كان من أبرز مبررات التدخل الإيراني في سوريا.
وأرسلت هيئة تحرير الشام، الجماعة الرئيسية
في الفصائل المقاتلة، إلى إيران رسالة دبلوماسية وعدت فيها بأنها ستحمي المواقع
الدينية الشيعية والأقليات الشيعية وطلبت من إيران عدم محاربة قواتها، فطلبت طهران
من الهيئة السماح بخروج آمن لقواتها من سوريا وحماية الأضرحة، بحسب ما قال مسؤولون
إيرانيون لنيويورك تايمز.
وقال المتحدث باسم الحكومة الإيرانية محمد
مهاجراني إن 4 آلاف مواطن إيراني عادوا إلى بلادهم من سوريا على متن 10 رحلات
نظمتها شركة ماهان الإيرانية منذ الإطاحة بالأسد.
وفر المقاتلون الموالون لطهران في الشرق إلى
العراق وأخلوا مواقعهم في دير الزور وغيرها وعبروا الحدود شرقا إلى العراق وسلموا
مواقعهم الحصينة لقوات قسد الكردية، وبعد سقوط الأسد استمر تدفق العائلات
الإيرانية والعراقية واللبنانية عبر معبر المصنع إلى لبنان.
فقد بدأ الهجوم في وقت كان حزب الله
اللبناني في قمة إنهاكه وانهياره، وكشفت تقارير عن أن وزير الخارجية الإيراني عباس
عراقجي أبلغ نظام الأسد أن طهران لا يمكنها تقديم مزيد من الدعم العسكري.
علاقة إيران بسوريا الجديدة
قبلت طهران سقوط الأسد وفقدت إرادة المقاومة
بشكل أذهل الجميع، لكن مع السرعة التي استوعبت بها طهران الواقع المستجد في سوريا
فإنها بدأت مبكرا في محاولة إعادة صياغة علاقتها بالنظام الجديد
فالتلفزيون الحكومي الإيراني تحول من وصف
الفصائل السورية السنية بأنهم إرهابيون تكفيريون، وأصبح يسمهم "الجماعات
المسلحة" وأفاد بأنهم حتى الآن يعاملون الأقليات الشيعية بشكل جيد.
وبعد ساعات من سقوط الأسد، قالت طهران إنها
تتوقع استمرار العلاقات مع دمشق على أساس "النهج البعيد النظر والحكيم"
للدولتين، ودعت إلى إنشاء حكومة شاملة تمثل كل شرائح المجتمع السوري.
وصرح مسؤول إيراني كبير لرويترز، الاثنين،
إن إيران فتحت خط اتصال مباشر مع مقاتلي المعارضة في القيادة الجديدة في سوريا منذ
الإطاحة ببشار الأسد بهدف "منع مسار عدائي" بين الدولتين.
وقال مسؤول إن بلاده تسعى إلى إيجاد سبل
دبلوماسية للاتصال مع أشخاص "داخل المجموعات الحاكمة الجديدة في سوريا الذين
تقترب آراؤهم من إيران".
وقال جواد ظريف، نائب الرئيس الإيراني، إن
طهران أقامت اتصالات مع مجموعتين داخل القيادة الجديدة وسيتم تقييم مستوى التفاعل
في الأيام المقبلة بعد اجتماع في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني وهو هيئة
أمنية عليا.
ولما دمرت إسرائيل معدات الجيش السوري
بغارات مكثفة، قالت إيران في بيان لها مساء الاثنين إنها "ستستخدم كل قدراتها
الإقليمية والدولية لوقف جرائم النظام الصهيوني ضد سوريا"، دون توضيح كيفية
هذا الاستخدام.
تعيش إيران حالة انكشاف غير مسبوقة بعد
انهيار جهود إقامة عمق استراتيجي في سوريا، وتدمير قدرات حزب الله في لبنان، مما
يعني حرمان حزب الله من طريق إمدادها البري الوحيد، وحرمان إيران من الوصول للبحر
المتوسط، وبالتالي تحاول التشبث ببقايا النفوذ المتمثل في العلاقات الاقتصادية
والثقافية لتكون بوابتها إلى دمشق بعد خسارتها أدواتها العسكرية.
فقد أنفقت طهران عشرات المليارات من
الدولارات لبناء نفوذها في سوريا، وسوف تحاول استعادة ما يمكن استعادته من هذه
الأموال التي سلمتها لسوريا بعضها على شكل قروض.
كما تمثل الجهود الثقافية في نشر التشيع
وتغيير الهوية المذهبية لبعض الأماكن مدخلا آخر تتمسك به طهران لتكون بمثابة مسمار
جحا الإيراني في سوريا.
وختاماً: يمكن القول إنه في حين يبدو
أن إيران خرجت من سوريا وفقدت وجودها هناك بعد سقوط نظام الأسد وفراره خارج
البلاد، لكن ما يزال النظام الإيراني يحاول صياغة علاقة جديدة مع سوريا ما بعد
الأسد يمكنه من خلالها الحفاظ على الحد الأدنى من المكتسبات التي حققها خلال
الحقبة الماضية.
فرغم السرعة المذهلة التي استوعبت بها إيران نهاية عهد تدخلها العسكري في سوريا، إلا أنها تحاول التصرف ببراجماتية وتنقذ ما يمكن إنقاذه من بقايا نفوذ كان يتكئ على عرش قد زال وسيف قد كُسر.