الانفصال الكردي: صراعات القوى الدولية والإقليمية في العراق
يبدو
أن تداعيات غزوة "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) لن تتوقف،
فزعيم هذا التنظيم أبو بكر البغدادي، أعلن أن الأراضي التي يسيطر عليها في محافظات
العراق والشام دولة الخلافة الإسلامية أو هي نواتها، ودعا المسلمين في كل أنحاء
العالم بالهجرة إلى هذه الدولة باعتبارها دولتهم، وعلى الجانب الآخر كان الكُرد
يتربصون بالعراق لتحقيق خطوات من شأنها تحقيق "الحلم الكردي" بإقامة
الدولة الكردية الكبرى، لذلك لم يكن مستغربًا موقف قوات البيشمرجة الكردية من
"غزوة داعش" لمحافظة الأنبار والوصول إلى محافظة صلاح الدين والتمدد نحو
كركوك والموصل ونينوى، فقد سارعت قوات البيشمرجة إلى احتلال المناطق التي انسحبت
منها قوات الجيش العراقي، لكنها عادت وتراجعت بعد ذلك إلا أنها أحكمت سيطرتها على
"كركوك" الغنية بالنفط والمتنازَع عليها.
كانت "كركوك" هي البداية للإعلان عن النيّات الانفصالية الكردية على لسان كبار المسئولين الكُرد، وعلى رأسهم مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق الذي تعمّد أن يجاهر بإعلان التحدي للدولة العراقية الموحدة، وأن ينكر وجود شعب عراقي ودولة عراقية، وأن يرفع لواء تقسيم العراق الذي وضع الأمريكيون بذرته سواء في الدستور عندما أقروا للكُرد بحقهم في إقليم يتمتع بالحكم الذاتي، أو عندما فرضوا المحاصصة السياسية كأساس للحكم في العراق.
فللمرة الأولى يتحدث مسعود برزاني عن أن الاستفتاء على استقلال "كردستان" سيكون خلال الأشهر المقبلة، وأن هناك مباحثات تجرَى مع برلمان كردستان لتحديد موعد إجراء هذا الاستفتاء.
برزاني
أرجع مشروعه للاستقلال بإقليم كردستان عن العراق إلى التصدعات التي أحدثتها غزوة
"داعش" بالكيان العراقي، وكأنه لم يكن يرتب لذلك، أو كأنه بعيد تمامًا
عن خفايا هذه الغزوة. ففي مقابلة مع إذاعة (بي بي سي البريطانية) قال: "إن ما
حدث أخيرًا يظهر أنه من حق الكُرد تحقيق استقلالهم، ومن الآن فصاعدًا لن نخفي أن
هذا هو هدفنا.. العراق بالفعل منقسم الآن".
هذا التوجه لم يقتصر على رئيس إقليم كردستان، بل دخل برلمان كردستان هو الآخر طرفًا في المخطط الكُردي للاستقلال عن العراق. فقد أكدت لجنة العلاقات الخارجية بهذا البرلمان أن "إقليم كردستان لا ينتظر الإشارة من أي دولة من دول العالم لاتخاذ قرار الاستقلال.. هذا القرار يصدر للشعب الكُردي، وبرلمان الإقليم ورئيسه، فهم الذين يقررون مصير إقليم كردستان وليس أي جهة أخرى".
وجاء إخفاق البرلمان العراقي في إكمال جدول أعمال جلسة انعقاده الأولى (1/7/2014) بانتخاب رئيس المجلس ونائبيه تمهيدًا لتكليف صاحب أكبر كتلة انتخابية فائزة في الانتخابات بتشكيل الحكومة الجديدة، وكذلك المشادة العنيفة التي وقعت بين النواب وخاصة توجيه أحد النواب اتهامات بالخيانة والعمالة لمسعود برزاني، ما أدى إلى إغلاق الجلسة وتعليق الاجتماع، ليفاقم من أزمة إقليم كردستان مع الحكم المركزي في بغداد، حيث صعد مسعود برزاني من تحديه لبغداد وللعراق ككل في حوار نشرته صحيفة "فيلت آم زونتاج" الألمانية قال فيه: "إنه لدينا هنا (في العراق) هوية كُردية وأخرى سُنية وثالثة شيعية ورابعة مسيحية، لكن ليست لدينا هوية عراقية" مشددًا على ضرورة استقلال إقليم كردستان باعتبار أن هذا الاستقلال "حق طبيعي لأي أمة".
هذا التوجه يلقَى الرفض الكامل في بغداد وخاصة من نوري المالكي رئيس الحكومة، الذي أعلن رفضه سياسة الأمر الواقع التي فرضتها أحداث العاشر من يونيو الماضي عندما دخلت قوات البيشمرجة الكُردية كركوك إثر احتلال تنظيم "داعش" محافظتي نينوى وصلاح الدين. رفْض نوري المالكي سيطرة البيشمرجة الكُردية على "كركوك" أرجعه إلى عدم إنجازه المادة 140 من الدستور التي تقضي بإجراء استفتاء للشعب في كركوك حول خياراتهم السياسية.
هذا الرفض من جانب المالكي للأمر الواقع لن يكون له، على الأرجح، أي مردود إيجابي في ظل الصراع الدائر الآن على منصب رئيس الحكومة، وبالذات بعد تراجع أسامة النجيفي، رئيس البرلمان السابق، عن تجديد ترشيح نفسه رئيسًا للبرلمان في مقابل أن يتراجع نوري المالكي عن عزمه على فرض نفسه رئيسًا للحكومة للمرة الثالثة منذ عام 2006، باعتباره صاحب أكبر ائتلاف انتخابي حائز على الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
النجيفي تراجع لكن المالكي لم يتراجع، وما زال مصرًّا على موقفه، الأمر الذي فاقم الأزمة وحال دون انعقاد مجلس النواب في جلسته الثانية التي كانت مقررة يوم الإثنين الماضي (7/7/2014).
ففي ظل أزمة الحكم الراهنة داخل بغداد، وفي ظل عجز الجيش العراقي عن تحرير المناطق المسيطر عليها من تنظيم "داعش" الذي يهدد بالهجوم على بغداد وإسقاط الحكم هناك، ستبقى الفرصة سانحة أمام إقليم كردستان لإكمال مشروعه الانفصالي والاستقلال عن العراق رغم كل المحاذير التي تواجه هذا التوجه لأسباب كثيرة من أبرزها:
-
وجود حالة من التعبئة الشعبية داخل إقليم كردستان ضد الحكومة المركزية في بغداد
بسبب توقف هذه الحكومة عن صرف رواتب الموظفين في الإقليم منذ شهر فبراير الماضي.
-
ثقة مسعود برزاني بعجز حكومة بغداد عن إحباط خطوة الاستقلال في ظل الوجود الفعلي
لحالة انقسام حقيقية داخل العراق فرضها تنظيم "داعش" الذي يعطي كل
المبررات أمام الكُرد في مسعاهم الانفصالي، لكن في حالة اندحار مخطط
"داعش" إذا ما نفذ الأمريكيون تهديداتهم بضرب معاقل "داعش" في
العراق وسوريا فإن التراجع الكُردي يبقى محتملاً.
-
وجود معلومات تؤكد توافر دعم دولي (أمريكا) وإقليمي (إسرائيلي وتركي) لهذه الخطوة
الانفصالية الكُردية. فعلى الرغم من كل الحجج التي تقول إن تركيا كانت وستبقى
رافضة بالمطلق قيام أي دولة كُردية، انطلاقًا من وجود قناعة لدى العقل الإستراتيجي
التركي بأن قيام مثل هذه الدولة في العراق أو سوريا سيحفز الشعب الكُردي في تركيا
على القيام بخطوة مماثلة، فإن هناك من يتحدثون عن "صفقة شاملة" تقضي
بدعم الكُرد في تركيا لترشيح رجب طيب أردوغان رئيسًا للجمهورية في تركيا، وحصول
الكُرد في تركيا على حقوق ثقافية وسياسية مقابل إعطاء ضوء أخضر بقيام دولة كُردية
في العراق.
الأهم من ذلك هو؛ تلك المعلومات التي كشفت عنها صحيفة "أوزوغور عونديم" الكُردية التركية التابعة لحزب العمال الكردستاني التركي المعارض والتي تقول: إن "غزوة داعش" خطط لها في اجتماع عقد بالعاصمة الأردنية عمّان حضره ممثلون أتراك وإسرائيليون برعاية أمريكية ومشاركة من دول عربية وممثلين عن فصائل عسكرية عراقية معارضة مثل "حزب البعث العراقي"، و"الحركة النقشبندية"، و"جيش أنصار السنة"، و"جيش الإسلام" و"شورى أنصار التوحيد" و"كتائب ثورة العشرين"، وهي كلها منظمات سبق أن انخرطت في المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي وقوات الأمن والجيش العراقي، إضافة إلى ممثلين لـ "داعش" بالطبع.
المعلومات التي كشفتها الصحيفة الكردية التركية المعارضة تقول: إن مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق، كان قد وصل إلى العاصمة الأردنية قبل أربعة أيام من انعقاد ذلك الاجتماع، وأن زيارته ساعدت على نجاح ذلك الاجتماع، ما يعني وجود تنسيق بين حكومة كردستان العراق وأطراف ذلك الاجتماع وخاصة الأمريكيين والأتراك والإسرائيليين على "غزوة داعش" التي تهدف إلى خلق المزيد من الفوضى في إقليم الشرق الأوسط.
-
إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو استعداده للاعتراف الفوري بدولة
كردستان العراق ودعمها، يعطي المزيد من الثقة لمسعود برزاني كي يستمر في موقفه من
انفصال كردستان العراق. هذا الموقف الإسرائيلي له أبعاده الاقتصادية وأيضًا له
أبعاده الإستراتيجية. بالنسبة للاقتصاد أخذت مؤشراته تتصاعد وأبرزها وصول شحنات من
نفط إقليم كردستان العراق إلى إسرائيل للمرة الأولى، أما الأهم فهو البُعد
الإستراتيجي. فوجود دولة كردية على حدود إيران تعتبرها إسرائيل موازنًا مهمًا في
مواجهة إيران باعتبارها أنها (الدولة الكردية) ستكون بمثابة رأس جسر لإسرائيل في
مواجهة إيران.
بعض هذه المعلومات وبالذات ما يتعلق بالدور الأمريكي، يتعارض مع معلومات أخرى تروّج لوجود توافق أمريكي – إيراني لإحداث تغيير جذري في الحكم العراقي لإنقاذ الموقف برمته في العراق. هذه المعلومات تستند إلى تقرير نشره يوم الإثنين الماضي (7/7/2014) معهد "ستراتفور" الأمريكي المعروف بقربه من الاستخبارات الأمريكية، ركز فيه على أن "شائعة" تدور حاليًا في بغداد ومن بينها ما ذكرته مصادر المعهد، وتفيد بأن انقلابًا يحضَّر له في العراق في حال عدم نجاح الطبقة السياسية في تشكيل حكومة جديدة، وأن قائد عمليات بغداد عبد الأمير الشمري هو المخطط لهذا الانقلاب الذي من المفترض أن يعلن عنه "كخطة طوارئ لمواجهة الانهيار الكامل"، تضع نهاية لحكم نوري المالكي وتعيد الاستقرار إلى بغداد، وأن كلا من إيران والولايات المتحدة متوافقتان على هذه الخطة.
كل هذا يعني أن العراق في خطر، وأن الحل يبدأ من بغداد، وأن الطموح الكردي والأطماع التركية والإسرائيلية مرتبطة بعجز الحكم العراقي الذي فتح الأبواب أمام داعش وأمام أطماع كردستان.