باتت إيران وتركيا معرضتان بشكل متزايد
لخطر الصدام من خلال وكلائهما في كردستان العراق، ولاسيما مع تصعيد أنقرة لعملياتها
ضد حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي يزيد من تعقيد الديناميكيات الإقليمية في ظل
الحرب على لبنان وغزة. وفي هذا السياق، صعدت القوات المسلحة التركية من ضرباتها
عبر الحدود ضد معاقل حزب العمال الكردستاني في الأشهر الأخيرة، حيث أفادت التقارير
أنها تقدمت لمسافة تصل إلى 15 كيلومتراً داخل إقليم كردستان العراق.
وفي حين يضع هذا حكومة إقليم كردستان
تحت الضغط، فإنه يضع أنقرة أيضًا في مواجهة المصالح الإيرانية، فضلاً عن إثارة
المخاوف بين الدول العربية بشأن طموحات تركيا التوسعية الإقليمية. ومثل سوريا
المجاورة، تظل كردستان العراق ساحة معركة رئيسية لتركيا وإيران، وقد تحركت طهران
في السنوات الأخيرة بشكل مطرد لتضخيم نفوذها في مواجهة أكراد العراق.
أولاً: عملية المخلب التركية
في العراق
أسفرت هجمات لحزب العمال الكردستاني في
22-23 ديسمبر 2023، عن مقتل 12 جنديًا تركيًا في منطقتي هاركوك ودهوك في شمال
العراق. ثم في 12 يناير 2024، قتل حزب العمال الكردستاني تسعة جنود أتراك وأصاب
أربعة آخرين في ضربات ضد قاعدة عسكرية تركية. وفي حين كانت العمليات عبر الحدود في
المنطقة حقيقة واقعية منذ عام 2018، مع وقوع إصابات دورية بين القوات التركية، فإن
قرب هذه الهجمات الأخيرة أثار أجراس الإنذار. فمنذ عام 2022، أجرت تركيا عملية
عسكرية تُعرف باسم عملية المخلب لتأمين منطقة دهوك الشمالية في العراق على طول
حدودها.
ورغم إعلان الرئيس التركي في أكثر من
مناسبة عن إنهاء التوترات في هذه المنطقة، فمن غير المرجح أن يعني هذا نهاية
الوجود العسكري التركي في هذه المنطقة، والذي يتضمن شبكة من القواعد ونقاط التفتيش
والطرق العسكرية المؤمنة لتقليل الاعتماد على الطائرات للنقل والحركة اللوجستية. فمنذ عام
2022، وسعت تركيا عملياتها ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، ووصلت إلى
مناطق بعيدة مثل ريف السليمانية وحتى المناطق الواقعة على طول الطريق إلى كركوك.
وأنشأت القوات التركية قواعد عديدة في المناطق التي أجريت فيها العمليات، الأمر الذي
تضمن عواقب وخيمة على المدنيين المحليين والأراضي الزراعية. وفي شمال شرق سوريا،
استهدفت القوات المسلحة التركية البنية التحتية الرئيسية، مع عدم التمييز بين
العراق وسوريا في حربها ضد الأعمال العدائية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني.
وبالتالي، فإن العملية التركية الحالية
في العراق، تهدف إلى إضعاف حزب العمال الكردستاني وحرمانه من القواعد الأمامية،
ومنع المتمردين من إعادة احتلال المناطق التي تم تطهيرها. وهذا يستلزم دفع مقاتلي
حزب العمال الكردستاني جنوبًا وبعيدًا عن الحدود، باستخدام سلسلة من العمليات التي
تستفيد من القدرات العسكرية التركية المتقدمة، مثل المراقبة والتفوق الجوي.
ثانياً: موقف حزب العمال
الكردستاني في العراق
تبرز ثلاث مناطق ذات أهمية استراتيجية لحزب
العمال الكردستاني: مخمور وسنجار وما يسمى مناطق الدفاع المشروع (ميديا)؛ حيث تمثل
هذه الجيوب أصولاً استراتيجية للمنظمة، بعد تحولها من قواعد في سوريا ولبنان إلى
شمال العراق. بمرور الوقت، توسع حزب العمال الكردستاني إلى المناطق المدنية من
خلال التوسع في المدن والبلدات والقرى من خلال الهياكل الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية، مما منحه إمكانية الوصول إلى الأصول المادية وطرق التهريب البرية في
المناطق الحدودية.
لقد جعلت الضغوط التركية والحقائق
المتغيرة على الأرض بغداد وأربيل أكثر مرونة بشأن مسألة حزب العمال الكردستاني في
السنوات الأخيرة. إن الحظر الرسمي الذي فرضته الحكومة المركزية على المجموعة -
والذي لا يرقى إلى التصنيف الإرهابي الذي تريده أنقرة - هو أكثر من مجرد لفتة
رمزية؛ حيث حذر المسؤولون العراقيون من احتمال وقوع هجمات مرتبطة بحزب العمال
الكردستاني على مصافي النفط والبنية التحتية الوطنية الحيوية الأخرى، وهو ما يشير
إلى أن أنقرة قطعت خطوات واسعة في إقناع بغداد بأن المنظمة تشكل خطراً على المصالح
الوطنية العراقية.
في الوقت نفسه، أدى التعدي البطيء
والثابت لحزب العمال الكردستاني على المناطق المدنية، وانتهاك السلطة الإقليمية
للحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم، إلى إثارة أزمة شرعية في وقت يتعرض فيه
الأخير بالفعل لضغوط من بغداد والمعارضين المحليين. ومع تنامي حرية حركة حزب
العمال الكردستاني في منطقة السليمانية، التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني
الكردستاني، اشتدت التوترات بين تركيا وإيران. وبالنسبة لأربيل، فإن تأثير تعاون
الاتحاد الوطني الكردستاني مع إيران ظهر في منح بغداد نفوذاً أكبر على الأكراد
العراقيين من خلال التدخلات الاقتصادية والقضائية والأمنية.
وفي هذا السياق، تنظر إيران إلى الوجود
العسكري التركي باعتباره تهديدًا لمناطق عمليات الحرس الثوري والميليشيات الشيعية
داخل شمال العراق والمناطق الحدودية. ولمنع تركيا من استعادة موطئ قدم في مناطق
مثل الموصل وكركوك، ولتقليص نفوذها الحالي في أربيل ودهوك، استهدفت إيران الحزب
الديمقراطي الكردستاني بطرق تعيد إلى الأذهان ديناميكيات تسعينيات القرن العشرين،
فضلاً عن الانخراط معه في الأشهر الأخيرة.
ثالثاً: الدور الإيراني
لقد أصبح العراق أكثر أهمية بالنسبة
لإيران على خلفية حرب غزة. فالعراق يشكل عقدة حاسمة في سلاسل الإمداد المتشابكة
للغاية للدعم اللوجستي والمالي التي تغذي ليس فقط الميليشيات هناك، بل وأيضاً حزب
الله وحماس والحوثيين والميليشيات في سوريا. وتعتبر كردستان العراق مهمة لإيران
لأنها تسعى إلى الحد من أنشطة الجماعات الكردية الإيرانية المسلحة مثل الحزب
الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وكومله وحزب الحياة الحرة، وتعزيز نفوذها في
البلاد، وممارسة الضغط على تركيا.
يتهم الحزب الديمقراطي الكردستاني حزب
الاتحاد الوطني الكردستاني بالانخراط في علاقات غامضة مع بغداد وطهران والجماعات
الشيعية، مع تزايد المخاوف من أن يؤدي النفوذ المتزايد للاتحاد الوطني الكردستاني
إلى هيمنة إيرانية متزايدة على حكومة إقليم كردستان. حاول الحزب الديمقراطي
الكردستاني في البداية موازنة التحالف بين الاتحاد الوطني الكردستاني والجماعات
الشيعية المرتبطة بإيران من خلال التقارب مع الفصائل العربية السنية ومقتدى الصدر،
لكن هذا فشل حيث نجحت إيران في خفض نفوذ الصدر وتقسيم التحالف العربي السني.
مع ترسيخه لقيادته للاتحاد الوطني
الكردستاني، أصبح بافل طالباني أقرب إلى إيران. لكنه ليس وحده؛ حيث قام رئيس إقليم
كردستان نيجيرفان بارزاني في أوائل مايو2024 بزيارة رسمية إلى طهران، في محاولة
للتعافي من ضربات يناير وموازنة المصالح بين تركيا وإيران. بعد وقت قصير من عودته،
أصدرت المحكمة الاتحادية العليا العراقية حكماً لصالح اعتراض مسرور بارزاني الرسمي
على قانون الانتخابات الذي غير توزيع المقاعد في البرلمان الكردي. وبالتالي، من
المتوقع أن يكون الحزب الديمقراطي الكردستاني حذراً في مواجهة الميليشيات المرتبطة
بإيران، لإنه قد يؤدي استعداء طهران إلى عواقب غير متوقعة تعمل ضد مطالبه بضمان البقاء
كحزب حاكم.
وفي النهاية: يمكن
القول إنه مع استعداد القوات الأمريكية للانسحاب من العراق، فإن التدافع لملء
الفراغ الحتمي جارياً منذ فترة طويلة. لذا، يجب قراءة النشاط المتزايد للجهات
الفاعلة المحلية والإقليمية في سياق الانسحاب الأمريكي في المستقبل، أو بالأحرى،
خفض القوات؛ حيث إن عدم الاستقرار في إقليم كردستان، والنفوذ الإيراني المتزايد
ليس في صالح المصالح الغربية الأوسع في الشرق الأوسط، وخاصة في ضوء حالة عدم
الاستقرار والهشاشة الأمنية في المنطقة.