«عندما ندمج
العقل والآلة، تتبدد الحدود التقليدية للذات»، على حد تعبير «دفيجا ميهتا» Dvija Mehta (الباحثة في الأخلاق العصبية وفلسفة العقل
والوعي والذكاء الاصطناعي بمركز ليفرهولم Leverhulme لمستقبل
الذكاء بكلية الملك King’s College، بجامعة
كامبريدج) في مقالها المنشور في أبريل الماضي تحت عنوان «لماذا تُعيد غرسة الدماغ
التي قامت بها شركة نيورالينك Neuralink صياغة أفكارنا حول الهوية الذاتية؟». فما قصة هذه
الغرسة، وكيف تؤثر على مفهوم الهوية؟
في مارس الماضي (2024)، أكد
شاب أمريكي ثلاثيني يُدعى «نولاند أربو» Noland Arbaugh أنه أصبح بإمكانه لعب الشطرنج باستخدام عقله
فقط، بعد أن عاني من الشلل لمدة ثماني سنوات إثر تعرضه لحادث سيارة سنة 2016، وأنه
اكتسب القدرة على أداء المهام التي لم يكن بإمكانه القيام بها في السابق بفضل غرسة
دماغية Brain
implant صممتها
شركة« نيوراليك» التي أسسها «إيلون ماسك» Elon Musk بمشاركة آخرين في سنة الحادث (شريحة إلكترونية تتم
زراعتها في قشرة الدماغ وتُمثل واجهة حاسوبية داعمة للعقل البشري).
وصف «أربو» تجربته
المثيرة في بث مباشر قائلاً: «لقد أصبح من البديهي بالنسبة لي أن أتخيل تحرك
المؤشر. أنا فقط أحدق في مكانٍ ما على الشاشة، ثم يتحرك المؤشر حيث أريده»!
صحيح أن شركة «نيورالينك» قد أعلنت في الثامن
من مايو (2024) أنها واجهت مشكلة في عملية الزرع لدى «أربو»، مما أدى إلى انخفاض
كمية البيانات التي يمكنها التقاطها من دماغه، حيث فُقدت بعض البيانات بسبب خروج
عدد من خيوط الغرسة التي وضعت في دماغ «أربو»، إلا أنها أكدت في الوقت ذاته أنها
بصدد معالجة هذه المشكلة، ولو بإعادة زرع الشريحة.
من المنظور الفلسفي، يُلمح
وصف «أربو» إلى إحساسه بفاعليته: فقد كان يشير إلى أنه كان مسؤولاً عن تحريك قطع
الشطرنج. ومع ذلك، لنا أن نتساءل: هل هو الذي قام بهذه الأفعال أم الغرسة؟
الحق أن تقنيات واجهة
الدماغ والحاسوب Brain-computer interface (BCI)، مثل تلك التي طورتها «نورالينك»، تشير بالفعل إلى
حقبة جديدة في تكنولوجيا تشابك الدماغ البشري والآلات، وتتطلب منا إعادة النظر في
حدسنا حول الهوية والذات والمسؤولية الشخصية. على المدى القريب، تُقدم التكنولوجيا
وعدًا بعديدٍ من الفوائد لأشخاص مثل «أربو»، لكن التطبيقات يمكن أن تذهب إلى ما هو
أبعد من ذلك، حيث تتمثل رؤية الشركة طويلة المدى في إتاحة مثل هذه الغرسات لعامة الناس
لزيادة وتعزيز قدراتهم أيضًا، ومن ثم نجد أنفسنا في مواجهة التساؤل: إذا كانت
الآلة قادرة على أداء أعمال كانت مخصصة للمادة الدماغية داخل جماجمنا، فهل تُعد
امتدادًا للعقل البشري، أم شيئًا منفصلاً عنه؟
لعقود من الزمن، ناقش
الفلاسفة حدود الشخصية: أين تنتهي أذهاننا، وأين يبدأ العالم الخارجي؟ على مستوى بسيط، قد تفترض أن عقولنا تقع داخل أدمغتنا
وأجسادنا، ومع ذلك، فقد اقترح بعض الفلاسفة أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.
في يناير من سنة 1998،
قدَّم الفيلسوفان: الاسترالي «ديفيد تشالمرز» David Chalmers والإنجليزي «آندي كلارك» Andy Clarke فرضية «العقل الممتد» The Extended Mind، في مقال مشترك لهما يحمل العنوان ذاته، ما
يشير إلى أن التكنولوجيا يمكن أن تصبح جزءًا منا. اقترح الفيلسوفان نظرية خارجية
نشطة، مؤداها أن البشر بإمكانهم تفويض جوانب من عمليات تفكيرهم إلى المصنوعات
الخارجية، وبالتالي دمج هذه المصنوعات اليدوية في العقل البشري نفسه. كان هذا قبل
ظهور الهاتف الذكي، لكنهما نجحا في التنبؤ بالطريقة التي نتخلص بها الآن من المهام
المعرفية بتفويضها إلى أجهزتنا، بدءًا من تحديد الطريق وحتى الذاكرة.
يقدم «تشالمرز» و«كلارك» تجربة فكرية
لتوضيح دور البيئة فيما يتعلق بالعقل. في هذه التجربة، يسافر كل من الشخصيتين
الخياليتين «أوتو» Otto
و«إنجا» Inga إلى أحد
المتاحف في وقت واحد؛ يعاني «أوتو» من مرض الزهايمر، لذا كتب كافة أفكاره وما
يريده في دفتر ملاحظات دعمًا لذاكرته، أما «إنجا» فهو قادرٌ على تذكر جميع أفكاره
وملاحظاته دماغيًا. الحجة هنا أن الاختلاف الوحيد في هاتين الحالتين هو أن ذاكرة «إنجا»
تتم معالجتها داخليًا بواسطة الدماغ، بينما تتم معالجة ذاكرة «أوتو» بواسطة دفتر
الملاحظات؛ وبمعنى آخر، لقد امتد عقل «أوتو» ليشمل الدفتر كمصدر لذاكرته. ويُعد
دفتر الملاحظات مؤهلاً على هذا النحو طالما كان بإمكان «أوتو» الوصول إليه بشكلٍ
دائمٍ وفوري، ويتم اعتماده تلقائيًا. يقترح المؤلفان أيضًا أن يُعد دفتر ملاحظات «أوتو»
امتدادًا لنفسه؛ أي يصبح دفتر الملاحظات بطريقة ما «طرفًا أو
عضوًا بيولوجيًا هشًا» Fragile Biological Limb or Organ يريد «أوتو» حمايته من الأذى!
منذ أن كتب «كلارك» و«تشالمرز»
مقاليهما،
تظورت تقنيات
الحوسبة بشكل كبير. ويبدو أن استخدام دفتر الملاحظات لتذكر المعلومات أصبح يُمثل مفارقة
تاريخية وغريبة لكلٍ منا؛ فنحن نعمد بالفعل إلى تخزين معظم المعلومات التي نحتاج
إلى تذكرها (مثل أرقام الهواتف والعناوين والمستندات) على هواتفنا أو حواسيبنا،
ومثل «أوتو»، غالبًا ما نجد أنفسنا في وضع لا يمكننا فيه تذكر المعلومات دون
استشارة كائن خارجي. لو سُئل أحدنا مثلاً عما يُخطط للقيام به يوم الثلاثاء
المقبل، فلن يتمكن غالبًا من تقديم إجابة دقيقة حتى يقوم بفحص جدول أعماله المحفوظ
إلكترونيًا؛ ولو سألته عن السنة التي تم فيها نشر ورقة «كلارك» و«تشالمرز»، أو
المجلة التي نشرتها، فسيحتاج أيضًا إلى البحث عنها. هنا نتساءل: هل يُعد الهاتف
والحاسوب جزءًا من ذهن كلٍ منا؟ نعم، فنحن نعتمد على هواتفنا الذكية وحواسيبنا لتذكر
الأشياء، بل ونادرًا ما نذهب إلى أي مكان دون هذه الأجهزة، وهي متاحة لنا باستمرار
وتم دمجها في عمليات تفكيرنا!
تتمثل إحدى طرق مقاومة
هذا الاستنتاج في إنكار أن حالتي «أوتو» و«إنجا» هما بعينهما في جميع النواحي ذات
الصلة. نستطيع القول – على سبيل المثال – أن ذاكرة «إنجا» البيولوجية تمنحه وصولًا أكثر موثوقية
إلى المعلومات التي تحتوي عليها. ومع ذلك، وعلى العكس من دفتر الملاحظات، لا يمكنك
ترك عقلك البيولوجي في المنزل، فالذكريات تذهب معك بالضرورة في كل مكان، ومن ثم
فهي أكثر أمانًا!
هذا من جهة، ومن جهة
أخرى تثير فكرة العقل الممتد تساؤلات فلسفية مثيرة للاهتمام حول الهوية الشخصية.
على سبيل المثال، إذا قمنا بتضمين كائنات خارجية بانتظام في أذهاننا، فما نوع
الكائن الذي نكون «نَحْنُ» عليه؟ إن امتداد عقولنا إلى العالم يجعل من كلٍ منا «سايبورج» Cyborg، أي نُصبح كائنات بيولوجية وتكنولوجية معًا.
وبالتالي، فسوف يسمح لنا العقل الممتد بتجاوز إنسانيتنا! وبغض النظر عن الجدل
الفلسفي والعلمي حول حالة «ما بعد الإنسانية» Transhumanism؛ يشير «آندي كلارك» في كتابه «السايبورج
المولود بشكلٍ طبيعي: العقول والتقنيات ومستقبل الذكاء البشري» Natural-Born Cyborgs: Minds,
Technologies, and the Future of Human Intelligence، المنشور سنة 2003، إلى أن ما يجعل البشر مختلفين إلى هذا
الحد عن كافة الأنواع الأخرى هو قدرتنا على دمج الأدوات والممارسات الثقافية
الداعمة بشكل كامل في وجودنا؛ فالتكنولوجيا البسيطة مثل الكتابة، والمألوفة مثل
جوجل أو الهاتف الخلوي، والثورية المحتملة مثل الغرسات العصبية الموسعة للعقل، ...
إلخ، جميعها تستثمر الطبيعة المرنة المذهلة لأدمغتنا. إن عقولنا مهيأة للبحث عن
الموارد غير البيولوجية ودمجها، حتى نتمكن من التفكير والشعور من خلال أفضل
تكنولوجياتنا. وبالاستعانة بخبرته في علم الإدراك، يبرهن «كلارك» على أن إحساسنا
بالذات والحضور الجسدي يمكن توسيعه إلى حدٍ كبير، وهو يستكشف الطرق التي تكيفنا
بها عبر مراحل تطورنا للاستفادة من التكنولوجيا (على سبيل المثال، أدى قياس الوقت
إلى تغييرات هائلة في الوجود البشري). ويرى «كلارك» أن عمليات الدمج بين
البيولوجيا والتكنولوجيا تتطور بسرعة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. ومع دخولنا عصر
الحواسيب القابلة للارتداء Wearable Computers (مثل ساعات اليد الذكية)، والتعزيز الحسي، والأجهزة
اللاسلكية، والبيئات الذكية، والأطراف الاصطناعية التي يتم التحكم فيها عن طريق
الفكر، والبحث السريع عن المعلومات واسترجاعها، فإن الخط الفاصل بين المستخدم
وأدواته يصبح أرق يومًا بعد يوم. إن هذا المزيج المزدوج من الأدمغة المرنة
والأدوات المستجيبة والملائمة بشكل متزايد يخلق فرصة غير مسبوقة لنوعٍ أكثر قربًا
من الاندماج بين الإنسان والآلة!
ثمة آثار أخرى مثيرة للاهتمام
لقبول أطروحة العقل الممتد، منها أنها تُتيح إمكانية توزيع أنفسنا عبر المكان. من
الطبيعي أن يُفكر كلٌ منا في ذاته على أنها موحدة في المكان؛ فإذا سألني شخصٌ ما: أين
أنت؟ فسأجيب بتحديد مكانٍ عيني واحد: أقف أمام مكتبي، أكتب على منضدة بجوار
النافذة، ... إلخ. ولكن إذا كانت الكائنات الخارجية مثل الهواتف الذكية والحواسيب
المحمولة يمكن أن تشكل جزءًا من عقولنا، فإن هذا يُتيح إمكانية أن تكون أجزاءٌ
مختلفة منا في أماكن مختلفة، فقد أكون جالسًا أمام مكتبي، لكن هاتفي لا يزال على
السرير أو على طاولة في غرفة أخرى. إذا كانت أطروحة العقل الممتدة صحيحة، فهذا
يعني أنني عندما سئلت: أين أنت؟ يجب أن أجيب بأنني أنتشر حاليًا في غرفتين!
تثير أطروحة العقل
الممتدة كذلك تساؤلات أخلاقية مُلحة، مما يجبرنا على إعادة تقييم أخلاقيات المستوى
الجديد من الوجود، وقد يكون من المفيد أن نطرح تجربة فكرية في هذا الصدد:
تخيل عالم رياضيات يدعى «زيد» يعمل على حل مسألة رياضية في غُرفة مكتبه. أدوات
«زيد» المفضلة هي القلم الرصاص والأوراق. لكن «زيدًا» فوضويٌ في بيته، إذ ينشر
أوراقه الهامة، والتي قد تكون مبللة أو مُتسخة بوضع قدح القهوة فوقها، في مواضع
متفرقه بغُرفته؛ بعضها فوق إحدى الطاولات، وبعضها مُلقى على الأرض، وبعضها فوق
مكتبه. وبعد أن قطع شوطًا كبيرًا في حل مسألته الرياضية، قرر الخروج لاستنشاق بعض
الهواء النقي بهدف تنشيط عقله، تاركًا أوراقه كما هي. وعقب مغادرته، لاحظ خادمٌ
جديد بالمنزل تلك الأوراق المتسخة المُبعثرة، فقام على الفور بجمعها والتخلص منها!
الآن، إذا كانت هذه الأوراق، حرفيًا، جزءًا من عقل «زيد»، فهل يكون الخادم قد أضر
بعقل «زيد» أو سبَّب له الأذى؟ الحق أنه بالنظر إلى أن إتلاف قدرة الناس على
التفكير يُمثل خطأ أخلاقيًا خطيرًا في حالات أخرى (كأن تتسبب في تلف جزء من ذاكرة
شخصٍ ما بضربه على رأسه)، فقد نقول أن الخادم قد فعل شيئًا خاطئًا بشكلٍ خطير لـ «زيد»!
ومع ذلك، يبدو من غير المعقول أن نُعد التخلص من أوراق شخصٍ بمثابة خطأ أخلاقي
خطير. وهكذا، فإذا قبلنا أطروحة العقل الممتدة، فقد يجبرنا ذلك على إعادة النظر في
بعض معتقداتنا الأخلاقية المستقرة!
بالإضافة إلى ذلك، تُتيح
لنا فكرة العقل الممتد إمكانيات أخرى مثيرة للاهتمام؛ فإذا كان بإمكان عقولنا دمج
الأشياء الخارجية، فهل يمكن أن يكون الآخرون جزءًا من عقولنا؟ يعتقد «كلارك» و«تشالمرز» أن هذا مُمكن. دعنا على سبيل
المثال نتخيل زوجين، «نهى» و«زياد»، يعيشان معًا لسنوات عديدة، ولكل منهما مهارة
ذهنية ليست لدى الآخر؛ «نهى» لديها قدرة ممتازة على تذكر الأسماء، أما «زياد»
فيتذكر التواريخ بمهارة فائقة. عندما يكون كل منهما بمفرده، غالبًا ما يُواجه
مشكلة في تذكر حكايةٍ ما كاملة؛ وعندما يكونان معًا، يغدو الأمر أسهل كثيرًا، إذ
يُساعد كل منهما الآخر في تذكر الأسماء أو التواريخ، وبالتالي تبدو الحكاية لكل
منهما متكاملة! في مثل هذه الحالات، يشير «كلارك» و«تشالمرز» إلى أن عقلي «نهى» و«زياد»
يمتدان إلى بعضها البعض؛ إن عقليهما ليسا شيئين مستقلين، بل مندمجين، حيث يعمل كلٍ
منهما كمستودع لمعتقدات الآخر.
على هذا النحو، يذهب «كلارك»
و«تشالمرز» إلى أن أطروحة العقل الممتدة هي أفضل تفسير للدور المعرفي الذي تؤديه
الكائنات في حياتنا. الكائنات مثل دفاتر الملاحظات والهواتف الحواسيب ليست مجرد
أدوات تساعدنا على التفكير، بل هي حرفيًا جزءٌ من عقولنا. ومع ذلك، فإن قبول هذه
الفكرة ، له آثار جذرية لفهم «مَنْ نَحنُ؟»، وإذا كان «كلارك» و«تشالمرز» مُحقين،
فإن أنفسنا ليست شيئًا موحدًا ومحدودًا بحدود أجسامنا!
نعود إلى «أوبو» سنة
2024، ففي لعبه للشطرنج، يتخيل ما يريد، مثل تحريك بيدق أو فيل، وتلتقط غرسته
الدماغية الأنماط العصبية لنيته، قبل فك تشفير الإجراءات ومعالجتها وتنفيذها. إذن، ما الذي يجب أن نفهمه من
هذا فلسفيًا بعد أن حدث بالفعل؟ هل الشريحة التي زرعها «أربو» جزء من عقله متشابك مع
نواياه؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فسوف نواجه تساؤلات
شائكة حول ما إذا كان لديه ملكية حقيقية لأفعاله.
لكي نفهم السبب، دعونا
نفكر في التمييز المفاهيمي بين الأحداث Happenings والأفعال Doings؛ الأحداث تشمل مجمل عملياتنا العقلية، مثل
أفكارنا، ومعتقداتنا، ورغباتنا، وتخيلاتنا، وتأملاتنا، ونوايانا؛ أما الأفعال فهي حركات
نقوم بها بناءً على الأحداث، مثل حركات الأصابع التي تستخدمها للتمرير لأسفل هذا
المقال الآن.
عادةً، لا توجد فجوة بين
الأحداث والأفعال؛ على سبيل المثال، لنأخذ حالة امرأة افتراضية تلعب الشطرنج. هذه
المرأة يمكنها تشكيل نية من خلال تنظيم أحداثها لتحريك البيدق إلى مربع بعينه، وتقوم بذلك ببساطة عن طريق
تحريك يدها؛ هنا «النية» و«الفعل» لا ينفصلان، وبالتالي يمكنها أن تنسب حركة تحريك البيدق إلى نفسها. لكن بالنسبة لـ «أربو»، عليه
أن يتخيل نيته، وهي الغرسة التي تؤدي الفعل في العالم الخارجي: هنا الأحداث
والأفعال منفصلة.
يثير هذا بعض المخاوف
الجدية، مثل ما إذا كان الشخص الذي يستخدم غرسة دماغية لزيادة قدراته يمكنه الحصول
على سيطرة تنفيذية على أفعاله المتكاملة مع واجهة التواصل بين الدماغ والحاسوب. في
حين أن أدمغة البشر وأجسادهم تنتج بالفعل كثيرًا من الأفعال اللاإرادية، من العطس
إلى الحماقة إلى اتساع حدقة العين، فهل يمكن للأفعال التي يتم التحكم فيها عن طريق
الغرسة أن تبدو غريبة؟ هل يمكن أن تبدو الغرسة وكأنها دخيل طفيلي يقوض قدسية إرادة
الشخص؟
تُعرف هذه المشكلة باسم معضلة
التأمل Contemplation
Conundrum ؛ ففي حالة «أربو»، نجد أنه يتخطى المراحل
الحاسمة من السلسلة السببية، مثل حركة يده التي تحفز نقلته في الشطرنج. ماذا يحدث
إذا فكَّر «أربو» أولاً في نقل بيدقه إلى مربع بعينه، لكنه غيَّر رأيه خلال جزء من الثانية وأدرك أنه
يفضل نقله إلى مربعٍ آخر؟ أو ماذا لو كانت تسيطر على خياله احتمالات، والزرع يفسّر
إحداها بالخطأ على أنها نية؟
لا شك أن المخاطر منخفضة على رقعة الشطرنج، ولكن إذا
أصبحت هذه الغرسات أكثر شيوعًا، فإن مسألة المسؤولية الشخصية تصبح أكثر خطورة؛ على
سبيل المثال، ماذا لو أن الأذى الجسدي الذي لحق بشخص آخر كان بسبب إجراء يتم
التحكم فيه بواسطة عملية الزرع؟
هذه ليست المشكلة
الوحيدة التي تثيرها هذه التقنيات. إن التسويق الروتيني دون حل كامل لمعضلة التأمل
وغيرها من القضايا يمكن أن يُمهد الطريق أمام عالم مرير يذكرنا بحكايات الخيال
العلمي. على سبيل المثال، سلطت رواية «نيورومانسر» Neuromancer للكاتب الأمريكي – الكندي «ويليام جيبسون» William Gibson (1984) الضوء على كيف يمكن أن
تؤدي عمليات زرع الأعضاء إلى فقدان الهوية، والتلاعب، وتآكل خصوصية الفكر.
السؤال الحاسم في لغز
التأمل هو متى يتحول «حدث الخيال» Happening of Imagination إلى «خيالٍ متعمد للفعل» Intentional Imagination to Act؟ عندما أستخدم مخيلتي للتفكير في الكلمات التي سأستخدمها في
هذه الجملة، فهذه في حد ذاتها عملية مقصودة، والخيال الموجه نحو الفعل – كتابة
الكلمات – يكون مقصودًا أيضًا.
وفقًا لعلم الأعصاب، يكاد
يكون التمييز بين الخيال والنية مستحيلاً، وقد خلصت دراسة أجريت سنة 2012 من قبل
مجموعة من علماء الأعصاب إلى أنه لا توجد أحداث عصبية يمكن وصفها بأنها نوايا الفعل
Intentions
to Act.
وبدون
القدرة على التعرف على الأنماط العصبية التي تميز هذا التحول لدى شخص مثل «أربو»،
قد يكون من غير الواضح أي السيناريوهات المتخيلة هي سبب التأثير في العالم المادي.
هذا يسمح بسقوط المسؤولية الجزئية وملكية الفعل على الغرسة، ومن ثم التساؤل مرة
أخرى عما إذا كانت الأفعال هي أفعاله حقًا، وهل هي جزء من شخصيته؟
على كل حال، الآن بعد أن
تحولت تجربة «تشالمرز» و«كلارك» الفكرية للعقل الممتد إلى واقع، ربما كان من المهم
إعادة النظر في أفكارهما الأساسية كوسيلة لسد الفجوة بين الأحداث والأفعال لدى
الأشخاص الذين لديهم غرسات دماغية؛ إن تبني فرضية العقل الممتد من شأنه أن يسمح
لشخص مثل «أربو» بتحمل المسؤولية عن أفعاله بدلاً من تقسيمها مع الغرسة. تشير هذه
النظرة المعرفية إلى أنه لكي يختبر المرء شيئًا ما بوصفه ملكًا له، عليه أن يفكر
فيه بوصفه ملكًا له؛ وبمعنى آخر، عليه أن يفكر في الغرسة كجزء من هويته الذاتية
وضمن حدود حياته الداخلية. إذا كان الأمر كذلك، يمكن أن يتبع ذلك الشعور بالوكالة
والملكية والمسؤولية.
مما لا شك فيه أن عمليات
زرع الشرائح الدماغية، مثل تلك التي أجراها «أربو»، فتحت بابًا جديدًا للمناقشات
الفلسفية حول الحدود بين العقل والآلة. لقد كان ومازال هناك جدلٌ بالعل حول حدود
الهوية، ومع ذلك، مع الغرسات الدماغية، أصبحت هذه الحدود مرنة - وهذا يعني أن
الذات قد تمتد إلى التكنولوجيا أكثر من أي وقت مضى؛ أو كما لاحظ «تشالمرز» و«كلارك»:
«بمجرد اغتصاب هيمنة الجلد والجمجمة، قد نكون قادرين على رؤية أنفسنا بشكل أكثر
واقعية كمخلوقات للعالم»!
المراجع
1.
Chappell, B. (2024) What to know about
Elon Musk’s Neuralink, which put an implant into a human brain, NPR.
Available at:
https://www.npr.org/2024/01/30/1227850900/elon-musk-neuralink-implant-clinical-trial
(Accessed: 15 September 2024).
2.
Clark, A. and Chalmers, D. (1998) ‘The Extended
Mind’, Analysis, 58(1), pp. 7–19.
3.
Clark, A. (2003) Natural-Born Cyborgs:
Minds, Technologies, and the Future of Human Intelligence. Oxford: Oxford
Univ. Press.
4.
Duncan, D.E. (2020) Implanting hope,
MIT Technology Review. Available at:
https://www.technologyreview.com/2005/03/01/231487/implanting-hope/
(Accessed: 15 September 2024).
5.
Leffer, L. (2024) What it’s Like to
Live with Elon Musk’s Neuralink Brain Chip, Scientific American.
Available at:
https://www.scientificamerican.com/article/neuralinks-first-user-describes-life-with-elon-musks-brain-chip/
(Accessed: 15 September 2024).
6.
Mehta, D. (2024) Why Elon Musk’s
Neuralink Brain Implant Reframes Our Ideas of self-Identity, BBC News.
Available at:
https://www.bbc.com/future/article/20240416-why-elon-musks-neuralink-brain-implant-reframes-our-ideas-of-self-identity
(Accessed: 15 September 2024).
7.
Naddaf, M. and Drew, L. (2024) ‘Second
Brain Implant by Elon Musk’s Neuralink: Will it Fare Better Than the First?’, Nature,
632(8025), pp. 481–482.
8.
Neuralink (2024) Neuralink Video Shows
Patient Playing Chess Using Brain Implant, BBC News. Available at:
https://www.bbc.com/news/av/technology-68623380
(Accessed: 15 September 2024).
9.
Neuralink (2024) Neuralink Live Update
- March 2024 , YouTube. Available at:
https://www.youtube.com/watch?v=ZzNHxC96rDE&t=3s
(Accessed: 15 September 2024).
10. Schurger, A., Sitt, J.D. and Dehaene, S. (2012) ‘An Accumulator Model for Spontaneous Neural Activity Prior to Self-Initiated Movement’, Proceedings of the National Academy of Sciences, 109(42), pp. E2904–E2913.