من المؤكد أن عالم ما بعد كورونا سيختلف في كثير من المناحي عما قبله،
فالخسائر المالية الضخمة، وعمليات الإغلاق، وتقييد الحركة، جميعها تحديات غير مسبوقة على الأقل من حيث المدى
والعمق للبشرية جمعاء، ولا شك أنها ستدفع عديدًا من الحكومات والدول وحتى الشركات
والأفراد إلى إعادة النظر في سلوكهم الاقتصادي في مرحلة ما بعد كورونا لتفادي
تكرار هذا المشهد ومصاعبه مرة أخرى. لا يمتلك
أحد إجابة قاطعة عما ستكون عليه ملامح المرحلة المقبلة، وتفاصيل الصورة الاقتصادية
المقبلة، بل إن تساؤلات كبرى تجاه المستقبل الاقتصادي باتت الآن مثار جدل ونقاش
حاد.
باختصار، هل ستسهم الجائحة في بناء نظام
اقتصادي أكثر عدلا وتوازنا داخل كل دولة، وبين مكونات النظام العالمي كله، بحيث
يولد نظام جديد أكثر اتزانا وقدرة على المساعدة المتبادلة في أوقات الأزمات، أم أن
الاختلال الراهن في النظام الاقتصادي سيتواصل ويتعمق؟(1)
أولًا- تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد
العالمي
إن أزمة
كورونا، وفــقًا للعديـد مــن التقديـرات، يُتوقــع أن تتســبب في خســائر
اقتصاديــة عالميــة تقــارب 2.7تريليــون
دولار كحــد أدنى وهناك تقديرات تشيـر إلى أن الخسـائر سـتتعدى ذلك بكثـبر، حيـث
يرجـح أن تبلــغ خســائر الاقتصــاد العالمي جراء هـذه الأزمـة خـلال النصـف الأول
مـن عـام فقط2020 نحـو 6 تريليونـات دولار، وسـينكمش الاقتصـاد العالمي
11 %مقارنـةبالفـتـرة نفســها مــن عــام 2019.(2)
وأكد صندوق النقد الدولى، أن الاقتصاد العالمي دخل
مرحلة الركود نتيجة لانتشار فيروس كورونا، وأن الإجراءات المتخذة لدعم الاقتصاد قد
لا تكون كافية قبل انحسار فيروس كورونا. وأكدت "كريستالينا جورجييفا"
مديرة صندوق النقد الدولي :"أن جائحة كوفيد-19 دفعت الاقتصاد العالمي إلى
الانكماش الذي سيتطلب تمويلاً هائلاً لمساعدة الدول النامية،ولم يحـدث في تاريـخ
الصنـدوق أن رأينـا الاقتصـاد العالمـي يُصـاب بمثـل هـذه الحالـة مـن الشـلل".(3)
ويـؤدي اسـتمرار الأزمـة في الأجـل المتوسـط
والطويـل، وبقـاء حالـة إغلاق شـبه التـام للأنشـطة الاقتصاديـة إلى وصـول الأزمـة
الراهنـة إلى آفـاق أخـرى، لتفـوق في آثارهـا الأزمـة المالية العالميـة، وتقـترب
مـن أزمـة "الكسـاد الكبـير" التـي عاشـها العـالم في أخريـات العقـد الثالـث مـن القـرن العشرين
وطـوال العقـد الرابـع منـه. لكـن تجـب الإشـارة إلى أن هـذا الترتيب مرهـون بالفتـرة
التـي ستسـتغرقها الأزمـة الراهنة، والمعتمدة في الأساس
على عمليـة اسـتيعاب الفـيروس. فـإذا تمكـن العـالم مـن التغلـب عـى التحـدي
القائـم، وطـي صفحـة جائحـة كورونـا؛ فـإن معانـاة الاقتصـاد العالمي لـن تطـول،
وسـتظل خسـائره محـدودة مقارنـة مبـا تكبـده إبـان "الكسـاد الكبيـر".
وإذا اسـتمرت الأزمـة الراهنـة، وعمـدت الحكومـات إلى
اسـتخدام أسـاليب التعامـل القائمـة عـى إغلاق المزيـد مـن القطاعـات، والتوجـه إلى
وضـع قيـود عـلى تصديـر السـلع والمنتجـات للخـارج، أو حتـى منـع التصديـر؛ فـإن
ذلـك سـيعني مجابهـة الاقتصـاد العالمـي أزمـة لم يشـهد لهـا مثيلاً علـى مـر
التاريـخ، ولـن يكـون "الكسـاد الكبـير" بجانبهـا سـوى أزمـة
هامشـية.(4)
ثانيًا- ملامح جديدة للاقتصاد العالمي بعد "كورونا"
قال جاري شيلينغ، رئيس مؤسسة "جاري شيلينغ أند
كو" الأمريكية للاستشارات في مقال نشرته وكالة "بلومبيرغ"، إنه
بمجرد نجاح البشرية في هزيمة وباء "كورونا"، ستعود الحياة الطبيعية إلى
الأسواق العالمية، ولكن على نحو يشوبه التباطؤ في النمو الاقتصادي، انخفاض أسعار السلع،
وانعدام الثقة في الأسهم.(5)
ويرى البروفيسور إل. دي مارتن أستاذ الاقتصاد الدولي سابقا
والاستشاري في عدد من المنظمات الدولية، أن جائحة كورونا مثل تغير المناخ جزء من
مشكلات الهيكل الاقتصادي العام، وعلى الرغم من أن قضية المناخ ووباء كورونا يبدوان
للوهلة الأولى أنهما من المشكلات البيئية أو الطبيعية إلا أنهما مدفوعان بعوامل
اجتماعية.
ويضيف مارتن " أولًا ستتعالى الأصوات بنهاية
الرأسمالية، وسيتزايد الانتقاد للنظام الرأسمالي العالمي وقدرته على التعامل مع
تلك النوازل، لكن لن يكون هناك بديل شامل له لفترة طويلة، سيسعى بعض إلى تهذيب
المشهد، وإضفاء بعض الجوانب الإنسانية عليه من خلال مزيد من المساعدات، وتعظيم
الجانب الاجتماعي له وليس أكثر من ذلك، ثانيا كشفت الأزمة أن الدولة ستظل حجر
الأساس في بنية الاقتصاد العالمي، وتلك هي الكلمة المفصلية في طبيعة النظام
الاقتصادي في المرحلة المقبلة، فنظام ما بعد الجائحة سيشهد مزيدا من الاكتفاء
الذاتي، وعودة الحواجز التجارية والضوابط المالية، بما قد يعنيه ذلك من استعادة
الدول المتقدمة عديدا من الصناعات التي قامت بتحويلها إلى الاقتصادات البازغة،
وسنشهد مزيدا من حدة المنافسة والاستقطاب الاقتصادي وسيترافق ذلك مع تراجع معدلات
النمو في الأسواق الناشئة، وستزداد حدة الشراسة لدى الاقتصادات المتقدمة، وسنشهد
تصاعدا في العداء الاقتصادي بين قطبي الاقتصاد الدولي الولايات المتحدة
والصين".
الدكتورة إيلين تشودري أستاذة التجارة الدولية في جامعة
ليفربول والاستشارية في منظمة التجارة العالمية، تعتقد أن الاقتصاد العالمي سيكون
بعد الجائحة أكثر تكاملا مما كان عليه من قبل، وما الأصوات التي تنادي بمزيد من
الحمائية إلا أصوات تغرد خارج سرب الحركة التاريخية للاقتصاد الدولي. وتضيف
أن "الانطباع الذي ساد نتيجة الأزمة أن شبكات العولمة هشة للغاية بسبب
تعقيداتها المذهلة، وأنها تتعطل بسهولة، وتجعل الدولة وسكانها رهينة الاعتماد على
الخارج، لكن بعد أن تهدأ العاصفة ويستعيد العالم الجزء الأكبر من توازنه المفقود،
سيكتشف أن تلك الانطباعات السلبية التي روج لها بعض القادة ضد العولمة وحرية
التجارة مضلة ومضللة للغاية".
وتستدرك إيلين قائلة "إن العولمة تعزز المرونة
الاقتصادية، وهذا سيكون جوهر الاقتصاد الدولي في مرحلة ما بعد الجائحة، باعتبار
ذلك الوسيلة الوحيدة لضمان إنهاء حالة الركود الاقتصادي التي باتت واقعا حقيقيا
الآن، وهذا لا يعني بالطبع أن ملايين من الأشخاص لن يفقدوا وظائفهم، ومئات الآلاف
من الشركات ستنهار، لكن الخسائر ستكون أكبر بكثير إذا كان رد الفعل العالمي مزيدا
من الحمائية الاقتصادية".
وفي هذا السياق، لا تنفي إيلين أن الدولة أثبتت أنها حجر
الزاوية في الاقتصاد الدولي خلال الأزمة، لكن هذا تحديدا ما أدى إلى الإخفاقات
التي شهدها العالم في التعامل مع الجائحة من وجهة نظرها. من جهته، يعتقد
الدكتور جوردن سميث أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة ليدز أن المشهد الاقتصادي في
مرحلة ما بعد الجائحة، ولنحو عقد من الزمان على الأقل سيكون ملتبسا غير واضح
الملامح يتسم بالاستقطاب والتفتت في آن واحد.
ويضيف سميث أن "جائحة كورونا حدث غير مسبوق في
العصر الحديث، وقد أوجدت مشهدًا دوليًا مشوشا، واتسم المظهر العام لمواجهة الفيروس
باكتفاء كل دولة على ذاتها للتعامل مع تحديات الأزمة، وعندما يستعيد الاقتصاد العالمي
توازنه، فإننا سنشهد ولأعوام تبادل الاتهامات بين الدول الغربية بقيادة الولايات
المتحدة من جانب، والصين وعدد من الاقتصادات التابعة لها من جانب آخر، بشأن على من
تقع مسؤولية الخسائر الناجمة عن الفيروس، هذا التجاذب سيحمل عددًا من الملامح
سيعيد صياغة المشهد الاقتصادي الكوني، إذ سيصاب أغلب المؤسسات الاقتصادية
والمجموعات الدولية بمزيد من الشلل في الأداء، وبينما ستزداد حدة المنافسة
التجارية بين قطبي الاقتصاد العالمي الولايات المتحدة والصين، فإننا سنشهد مزيدًا
من الحمائية الاقتصادية في العلاقة الثنائية بينهما، وستتراجع القدرة الاقتصادية
للولايات المتحدة لمصلحة مزيد من صعود نجم الصين".(6)
ثالثًا- طفرة كبيرة للاقتصاد الافتراضي
أدت
حالـة العزلـة الجربيـة التـي اضطـرت العديـد مـن الحكومـات إلى فرضهـا عـلى
سـكانها، إلى تقييـد حركـة العمالـة، ومنـع العمـل والإنتـاج بالأسـاليب
التقليديـة، وتقييـد كذلـك حركـة المستهلكين، والحـد مـن قدرتهـم عـلى الوصـول إلى
الأسـواق، ومـن ثـم ظهـرت الحاجـة إلى تغيـر طـرق العمـل، وكذلـك طـرق توصيـل
المنتـج إلى المسـتهلك، ويقـضي ذلك باختفــاء أنشــطة اقتصاديــة وظهــور أنشــطة
أخــرى بديلــة لهــا. وســيكون الاعتماد في
الأســاس على الأنشــطة التــي تعتمـد على التواصـل عـن بعـد عبر الإنترنت،
ومـن هنـا فمـن المتوقـع أن تـؤدي الأزمـة الراهنـة إلى تخفيـف القيـود على الأنشـطة التجارية والأقتصادية من
خلال تلك الوسائط، ممـا يساعد على تحول حياة البشرشيئاً فشيئاً
إلى"الافتراضية".(7)
وتتيح
هـذه الظروف الفرصة لصعـود الأنشطة الاقتصادـة التي تعتمد في الأساس على شـبكة
الإنترنت كوسيلة للوصـول
إلى المسـتهلك، أوبالأخـرى التي تأخذ مـن شبكة الإنترنت وسيطاً للربط بين منتـج
السـلعة أو الخدمـة مـن ناحيـة، والمستهلكين مـن ناحيـة أخرى.(8)
- 1العمل والتعليم عن
بعـد.
دفعت أزمة كورونا إلى تغيـر الكثير من أساليب
العمل، وأصبح العمل عن بعـد الخيار الرئيسـي للمؤسسات الحكومية والشركات الخاصة
على مسـتوى العـالم ككل. كـا فرضت الأزمة على الحكومات إغلاقاً كاملاً لمعظم المدارس
والجامعـات على المستوى العالمي، فأصبـح الاعتماد الأسـاسي منصبـاً على آليـات
التعليـم عـن بعـد، كوسـيلة لاستكمال الأنشطة التعليمية منـذ بدايـة الأزمة.
- 2طلب متزايد على الترفیه الإلكتروني
تـأتي
شركات الترفيـه وخدمات التليفزيـون عبرالإنترنـت بيـن أكبـر الرابحيـن المحتملين
من أزمة كورونا، حيـث أُجبر البشرعلى البقاء في بيوتهم، وأصبحـت منتجـات شركات،
مثـل "نتفليكـس"((Netflix ،هـي
الوجهـة الأساسـية لإقبال الملايين منهم مـن أجل التسـلية والترويح عن أنفسهم خلال
العزلة العالمية الجبريـة غير المسبوقة.
- 3
طفرة التجارة الإلكترونية
أدى منع
حركة البر في بعض الدول والمناطق، وتقييدها في دول ومناطق أخرى، إلى جعـل وصـول
المسـتهلكين إلى الأسواق بأنفسهم أمراً صعبـاً أو مسـتحيلاً في بعض الظروف، وقـد
يزداد الأمر ســوءاً خلال الفترة المقبلة،لا سيما إذا استمرت الأزمة واضطرت الدول
إلى فرض حظر تام لحركة السكان. وفي مثـل هذه الظروف تزداد الحاجة إلى التجارة
الإلكترونية كحـل بديـل لتوفير الاحتياجـات الضرورية من السلع الاسـتهلاكية
والأغذية؛ ولذلك
حققت أسهم شركات تجارة التجزئـة ارتفاعات كبيرة في البورصات العالميـة.(9)
الهوامش:
-1ما بعد الجائحة ..
ملامح جديدة للاقتصاد العالمي- الاقتصادية- هشام محمود-7/5/2020. متاح على الرابط
التالي: https://www.aleqt.com/2020/05/06/article_1821841.html
- 2ملامح
جديدة للاقتصاد العالمي في مرحلة "ما بعد كورونا"-المستقبل للأبحاث
والدراسات المتقدمة-على صلاح-12/4/2020.
متاح على الرابط التالي: https://futureuae.com/ar-AE/Release/ReleaseArticle/1228
3- صندوق
النقد ينذر بركود أسوأ من الأزمة المالية في 2008-العربية.نت-27/3/2020. متاح على الرابط التالي: https://ara.tv/n2k3s
4- على صلاح –
مرجع سبق ذكره.
- 5أبرز ملامح الاقتصاد العالمي بعد "كورونا" –البيان-سيد
صالح-5/4/2020.
متاح على الرابط التالي: https://cutt.ly/Ouo0g7N
-6 هشام
محمود- مرجع سبق ذكره.
7- Katherine Mangu -ward, Regulatory
barriers to online tools will fall,Politico magazine, March 19, 2020,
accessible at:
https://politi.co/2x5srqW
8- Elizabeth Bradley ,A boon to virtual
reality, Politico
Magazine, March 19, 2020, accessible at: https://politi.co/2x5srqW
9- Zoom Video Communications, NASDAQ Market Watch, April 6, 2020,
accessible at: