عقيدة الطرف الإسرائيلية ... استراتيجيات العمل وحدود التوظيف
شهدت بدايات الخمسينيات من القرن الماضي بلورة عقيدة
الأمن الإسرائيلية التي صاغها أول رئيس لحكومة الاحتلال ووزير دفاعها ديفيد بن
جورين، وجاءت تلك العقيدة الأمنية لتعزيز قوة الردع وفقًا للظروف الجيوسياسية
المتعلقة بضعف العمق الاستراتيجي، وتكوين شراكات مع الدول غير العربية في المنطقة
مثل إيران وتركيا وإثيوبيا، عوضًا عن استخدام الحرب الوقائية للدفاع عن أمنها
القومي، ونقل المعركة إلى خارج الحدود الإسرائيلية، ولكن برزت العديد من المتغيرات
الإقليمية التي من شأنها اختبار العقيدة الأمنية الإسرائيلية وعلاقاتها الخارجية
بما يستدعي الوقوف عند حدود هذه العقيدة ومدى نجاحها؟.
محددات
الاستراتيجية العسكرية
تمثل العقيدة العسكرية الإسرائيلية بشكل عام عقيدة
دفاعية يتطلب تحقيقها تنفيذ الهجوم الاستباقي، ويمثل أبرز عناصر هذه الاستراتيجية
(الهجوم الاستباقي – تحقيق نصر حاسم – تقليل الخسائر البشرية – الحرب الوقائية –
الحروب الخاطفة – نقل المعارك خارج الحدود الإسرائيلية).
وتحاول إسرائيل من خلال مستوى العمليات العسكرية تحقيق
أعلى معدلات الدفاع الداخلية عن طريق إضعاف الدول العربية سياسيًا وعسكريًا،
والمواجهة العسكرية داخل الأراضي العربية وهو ما يمكن ملاحظته من خلال الحروب
الإسرائيلية مع مصر ولبنان وسوريا وإيران والعراق؛ حيث شهدت هذه الدول مواجهات
عسكرية خاطفة خارج نطاقها الجغرافي، لإنهاء تلك الحروب في وضعية أفضل لتل أبيب
تمنحها الانتصار السياسي والعسكري.
وتظل فكرة الدفاع الاتجاه المحرك في الفكر العسكري
الإسرائيلي، في ظل المساحة الجغرافية الصغيرة التي تقع عليها إسرائيل مما يفقدها
العمق الاستراتيجي، وعليه بات الهجوم هو السبيل الوحيد أمام تل أبيب لتحقيق خيار
الدفاع الأمثل، وامتدادًا لهذا النهج تعتمد إسرائيل على حرب الحركة السريعة، فيما
يتعلق بالهجوم أو سرعة إنهاء الحرب، قبل أن يتم التدخل من جانب القوى الدولية.
بجانب ذلك فإن نمط الحروب الذي تقوده إسرائيل يعتمد على
استراتيجية الوقت المتعلق باستمراية الحرب، وكذلك الهجوم المفاجئ، باستخدام
الوسائل التكنولوجية الحديثة، للوصول إلى وضع متفوق فيما يتعلق بالمكاسب العسكرية
والسياسية أو فيما يتعلق بالتفوق التفاوضي في حال الجلوس على مائدة المفاوضات،
وبالتالي فإن الجيش الإسرائيلي لم يهدف في أي من الحملات العسكرية التي خاضها الإطاحة
بالخصم والوصول إلى الحسم العسكري. بدلًا من ذلك، فقد سعى لتوجيه ضربة عسكرية
تمنعه من تحقيق هدف محدد أو لإضعاف الخصم، ويقوم الجيش الإسرائيلي بتفعيل وسائل ضغط
غير مباشرة (سواء كان ذلك عن طريق الجو أو حصار بحري) لإفساح المجال أمام آليات الدبلوماسية،
التي من شأنها تسهيل إنهاء القتال والسماح لإسرائيل بتحقيق أهدافها الإستراتيجية. وهذا
يشمل الحالات التي تحدث فيها المسئولون الرسميون عن إزالة هذا التهديد.(1)
عقيدة
الطرف
إلى جانب الشق العسكري برزت الاستراتيجية السياسية التي
هي انعكاسًا للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية والتي عُرفت بعقيدة الطرف؛ كان مفهوم
"المحيط الخارجي أو عقيدة الطرف" ، الذي قدمه رئيس وزراء إسرائيل الأول،
بن جوريون وإليياهو ساسون، أحد الخبراء الإسرائيليين البارزين في الشرق الأوسط وأول
ممثل دبلوماسي إسرائيلي في أنقرة، بأنه لابد من إيجاد وسيلة لموازنة المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية،
ومواجهة العالم العربي وكاستراتيجية تقليدية لتوازن القوى تستهدف مواجهة التهديدات
في محيطها الجغرافي.
واعتمدت الاستراتيجية على تكوين شراكات مع العديد من
الدول في المنطقة مثل تركيا ، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي، وكذلك شاه إيران والإمبراطور
الإثيوبي هيلا سيلاسي، التي حافظت على علاقات صداقة مع واشنطن والغرب ولها صراع طويل
الأمد مع الدول العربية (تركيا مع سوريا؛ إيران مع العراق؛ إثيوبيا مع السودان) والعمل على تقوية شراكات إسرائيل مع هذه الدول المؤيدة
للولايات المتحدة والدول غير العربية.
ولكن بن جوريون وغيره من القادة الإسرائيليين اعتبروا عقيدة
الطرف أو المحيط الخارجي استراتيجية مؤقتة يجب الحفاظ عليها طالما رفضت الدول العربية
الاعتراف بإسرائيل وصنع السلام معها. ولم يُنظر إليها كبديل للعقيدة المركزية في السياسة
الإسرائيلية المتمثلة في تحقيق السلام مع جيران
إسرائيل من العرب. ولا يمكن أن تكون بديلًا لعلاقة استراتيجية مع قوة عسكرية خارجية
قوية، مثل الاتحاد السوفييتي في الأربعينيات، وفرنسا في الخمسينيات، والولايات المتحدة
بعد عام 1967.
وبالفعل أثبتت هذه الاستراتيجية فشلها النسبي وإن كانت
ناجحة كخطة مؤقتة ناجحة من حيث التكلفة والخداع الاستراتيجي؛ وهو ما أثبتته أوضاع
العلاقات بين إسرائيل من جانب وتركيا وإيران وإثيوبيا من جانب آخر؛ حيث تعثرت
العلاقات الوثيقة مع إثيوبيا وإيران بعد سقوط نظامهما القديم بعد الاضطرابات
السياسية التي حدثت في كل دولة، كما انها لم تتمكن من تكوين شراكات استراتيجية مع
العديد من المكونات العرقية الأخرى مثل الأكراد في سوريا وتركيا والعراق وإيران
والموارنة في لبنان، عوضًا عن علاقاتها المتوترة مع تركيا بعد مهاجمة إسرائيل
أسطول الحرية وقافلة المساعدات المتجه لغزة، وما يشير على التمزق في العلاقة بين هاتين
الحكومتين، رغم وجود قنوات اقتصادية وسياسية مفتوحة بينهما حتى الآن.
ووفق الاستراتيجية الإسرائيلية فإن إسرائيل وتركيا
تمصلان مركز كتلة واحدة؛ حيث تقف تركيا وإسرائيل، باعتبارهما شريكان طبيعيان؛ فكلا
الدولتين غير عربية، وديمقراطية، وغربية موجهة، وكل منهما يحافظ على جيش كبير ويواجه
تهديدًا كبيرًا للإرهاب". وكلاهما يمتلكان رصيدًا كبيرًا في علاقتهما مع الولايات
المتحدة، وكل منهما يواجه مشاكل مع كل من سوريا وإيران.
في الواقع، كان واضحًا لصانعي السياسة الإسرائيليين أنه طالما
بقيت إسرائيل في حالة حرب مع الدول العربية الرئيسية، فإن الاعتبارات الاقتصادية والمصالح
العسكرية والألفة الدينية ستضع حدود واضحة على استعداد وقدرة تركيا والدول الأخرى المحيطية.
والأقليات لتوسيع العلاقات مع إسرائيل. ومن هذا المنظور فإن العلاقة بين إسرائيل وتركيا
وإيران وإثيوبيا والعديد من الأقليات في المنطقة العربية لم تكن أبدًا بمثابة
"تحالف استراتيجي". كما تم اعتبار الأتراك كغيرهم من أهداف عقيدة المحيط
الخارجي، وعلاقاتهم مع إسرائيل كطريقة لتحقيق استراتيجيتهم من خلال تزويدهم بموارد
دبلوماسية وعسكرية إضافية لمقاومة الضغط من الحكومات والحركات القومية العربية العدوانية
من وجهة النظر الإسرائيلية.(2)
وعلى الرغم من أن الاستراتيجية التركية الأخيرة جاءت لتحسين
العلاقات مع الدول العربية، إلا أن مصالح تركيا طويلة الأمد كانت دائمًا قائمة على
أساس أن القرب الجغرافي والمصالح الاقتصادية والاعتبارات الحضارية تتطلب تطبيع العلاقة
مع جيرانها. كانت هذه العوامل ذاتها التي جعلت من غير المرجح أن تقوم أنقرة بتشكيل
تحالف كامل مع دولة يهودية طالما ظلت إسرائيل في حالة حرب مع العالم العربي.
على الجانب الإيراني؛ وبعد نجاح الثورة الإسلامية في
إيران عام 1979، كان أبرز التخوفات الإسرائيلية من الموقف الإيراني المؤيد للمقاومة
الفلسطينية واللبنانية، بالإضافة إلى محاولات إيران الوقوف إلى الجانب العربي في مواجهة
إسرائيل في الحروب، عوضًا عن دعم بعض الأنظمة العربية في مواجهة إسرائيل مثل
الصراع الإيراني الإسرائيلي في سوريا الذي يخوضه الطرفان بعد أحداث الثورة السورية
في عام 2011، والذي شهد تصعيد عسكري إسرائيلي ضد القوات الإيرانية المتواجدة في
سوريا، وكذلك التطورات الإقليمية المتعلقة بتنامي الدور الإيراني في المنطقة
العربية، وما يمثل ذلك من تهديد لأمن إسرائيل، ودعمها حركات المقاومة المسلحة في
فلسطين ولبنان وسوريا لتهديد إسرائيل من أقرب النقاط الجغرافية القريبة منها.
إلى جانب
كل تلك العوامل سعت إيران إلى بناء وتدريب ميليشيات شيعية كبيرة تضم الآلاف من المقاتلين
وأرسلت مستشارين من فيلق القدس، الذراع الخارجية لمؤسسة الحرس الثورى إلى القواعد العسكرية
السورية، والذي تتهمه إسرائيل بتوجيه الدعم إلى حزب الله اللبناني وحركة حماس
لتهديد أمن إسرائيل، وتأكيدًا لتلك التوترات قامت إسرائيل بقصف العديد من المناطق والمواقع
العسكرية الإيرانية في سوريا، حيث استهدفت مطار التيفور العسكري في 9 أبريل 2018م،
والذي أدى إلى مقتل أفراد الحرس الثوري الإيراني، في حين أصابت نيران من داخل سوريا
مقاتلة أف 16 إسرائيلية وأسقطتها، بعد أن قصفت أهدافًا إيرانية في سوريا.
كما توالت الدعوات الإسرائيلية للمجتمع الدولي بالتصدي لمساعي
إيران في المنطقة، وزعزعة الاستقرار، في إعلان منها عزمها منع إيران من إقامة قواعد
عسكرية أخرى يمكن من خلالها تهديد إسرائيل ومهاجمتها، من خلال محاولة ترسيخ وجودها
العسكري في سوريا أو بناء مصانع للصواريخ في لبنان.
وفيما يتعلق بالعلاقات الإسرائيلية الإثيوبية، فكانت
بمثابة استغلال واستثمار وتهديد دولة عربية، وكما ذكرنا تقوم علاقات إسرائيل الخارجية
على أساس استغلال التناقضات الدولية من أجل تحقيق مصالحها مع الدول التي تعتبرها معادية،
خصوصًا إذا كانت تلك الدول عربية. وتعتبر إسرائيل أن الدول العربية هي تهديدات مباشرة
لأمنها القومي، ما يعني أنها ستناصر أي طرف غير عربي على نقيضه العربي.
ويمكن القول إن إثيوبيا هي إحدى تلك الدول، إذ تنظر إسرائيل
إليها على أنها بوابة إلى القرن الإفريقي. وهكذا، قدمت إسرائيل مساعدات كبيرة للبلاد،
خصوصًا فيما يتعلق بدعم سد النهضة، على اعتبار أنه من مقومات الأمن القومي الإثيوبي،
وأحد عناصر البنية التحتية الهامة لتنمية البلاد.
وقديمًا كان هيلا سيلاسي، آخر أباطرة إثيوبيا حليفًا قويًا
لإسرائيل، التى ردت الجميل بإجهاض 3 محاولات للانقلاب عليه. لكن فى 1973 وبعد انتصار
مصر فى حرب أكتوبر، وبضغوط من منظمة الوحدة الأفريقية، قطعت إثيوبيا علاقاتها العلنية
بإسرائيل، إن العلاقات بين إسرائيل وإثيوبيا تتخذ الطابع السرى فى أخطر مراحله، وما
يتعلق منها بنهر النيل والسيطرة على مدخل البحر الأحمر، من خلال تعاون استخباراتى عسكرى
وثيق، بعد خلق إطار يجمع بين الدولتين باعتبار كل منهما محاطة ببحر من «الأعداء العرب
والمسلمين».(3)
لكن وعلى الرغم من المحاولات الإسرائيلة لإيجاد موطئ قدم
لها في إثيوبيا فإن هناك العديد من الدول العربية التي شرعت في مواجهة التوغل
الإسرائيلي في القارة السمراء ومن بينهم مصر التي ترأس منظمة الاتحاد الأفريقي في
2019، ووضع أجندة أمنية وسياسية لمواجهة التهديدات التي تؤثر على أمن المنطقة
باعتبار مصر بوابة أفريقيا التي تمثل عمقها الاستراتيجي.
إجمالًا: إن تحالف إسرائيل الخارجي مع تركيا وإيران وإثيوبيا تم إنشاؤه في الخمسينيات كأداة لتفادي السلام مع العرب. على أن العودة مجددًا إلى هذا التحالف تمر عبر المصالحة مع العالم العربي، وبالتالي أدركت إسرائيل بأن تحسين العلاقات مع الدول العربية المجاورة سيشكل البديل السياسي الحتمي والوحيد لاستراتيجية عقيدة الطرف أو المحيط الخارجي بما في ذلك العلاقات مع الفلسطينين أنفسهم.
الهوامش:
1) نظرية الأمن الإسرائيلية، على الرابط:
http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Askria6/AmanIsrael/sec13.doc_cvt.htm
2) JUNE
26, 2010, at: LEON HADAR, The collapse of Israel’s
‘Periphery Doctrine,
https://foreignpolicy.com/2010/06/26/the-collapse-of-israels-periphery-doctrine/
2) محمد بحيري، إسرائيل وإثيوبيا.. علاقات «سريّة» وصفقات «مشبوهة»،
على الرابط: