"إبادة الأرمن" ... عثرة جديدة في مسيرة العلاقات الفرنسية التركية
ينتهج الرئيس الفرنسي سياسة خارجية أكثر مرونة، يسعى من
خلال إلى استعادة مكانة فرنسا كفاعل دولي يساهم في إدارة الملفات الخارجية،
والقضايا المثارة داخل القارة الأوروبية وخارجها. تجلى ذلك منذ بداية الحملة
الانتخابية التي توعدها فيها بضمان حماية الأمن الأوروبي، مع الحفاظ على سيادة
الدول، واستمرار الحوار بين كافة الفاعلين الدوليين. فضلاً عن تبنيه سياسة خارجية
قائمة على الآليات الدبلوماسية وبعيدة عن حالة الصدام.
"ماكرون"
... والتزامه تجاه الأرمن
سعى "ماكرون" بعد توليه الحكم في مايو/ أيار
2017 إلى تنفيذ وعوده الانتخابية التي جاءت في مقدمتها إعلانه لمبادرات إصلاح
منطقة اليورو، وانتهاجه سياسات إصلاحية داخلية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي،
بجانب محاولته حماية الأمن الأوروبي مع استمرار التهديدات الأميركية بإنشاء جيش
أوربي موحد بمقدرات أوروبية لا تتعارض مهامه مع مهام "حلف شمال
الأطلسي".
هذا بجانب إعلان "ماكرون" تحديد يوم 24 أبريل/
نيسان هو ذكرى إحياء الإبادة الجماعية للأرمن، وفاءًا بوعده لمجلس تنسيق المنظمات
الأرمينية في العاصمة الفرنسية "باريس"؛ حيث تعد فرنسا من أوائل الدول
التي نددت بـ “ملاحقة الأمن من قبل السلطات العثمانية"، التي تمت ما بين عامي
1915 و1917 واعترفت بها في رسميًا في 2001.
(1)
والجدير بالذكر؛ أن السياسات التي ينتهجها "ماكرون" تجاه
أنقرة منذ وصله الحكم تُثير غضب القيادة التركية خاصة فيما يتعلق بمواصلة مفاوضات الانضمام
إلى الاتحاد الأوروبي التي بدأت في عام2005، وتم تعليقها حتى الآن لا يزال 16 فصلًا
مفتوحًا من أصل 35 في الملف، التي رفضها "ماكرون"، نتيجة للنهج السياسي
التركي المغاير للقيم والأفكار الأوروبية. (2)
الموقف
التركي من القرار
أثار القرار الفرنسي
حالة من الجدل داخل تركيا، بالرغم من توضيح "ماكرون" إنه أبلغ الرئيس
التركي "رجب طيب أردوغان" مسبقًا عن القرار، لضمان استقرار العلاقات بين
الجانبين. لأن كل من فرنسا وتركيا قوى دولية مهمة في إدارة بعض الملفات الإقليمية
وبينهم مساحة من التوافق تتجلى في ضرورة الانتقال السلمي للسلطة في سوريا على سبيل
المثال، بالإضافة إلى استمرار خلافاتهم حول محاربة تنظيم "داعش"، والحريات
المدنية في تركيا. لذا فلابد على الجانبين تسوية الملفات الخلافية بينهم بكفاءة
وفعالية بما يضمن استقرار العلاقات.
وعليه فقد أدانت أنقرة
القرار الفرنسي بشدة، لأن هذه المسألة أثارت خلافات شديدة من قبل بين الاتحاد
الأوروبي وتركيا، كما رفض المتحدث باسم الرئاسة التركية "إبراهيم كالين"
في بيان تحويل الأحداث التاريخية إلى دعاية سياسية جديدة يمكن من خلالها تدارك
المواقف والتحديات الداخلية التي يواجها "ماكرون" منذ نهاية العام
الماضي احتجاجًا على سياساته التي انعكست على الشعب الفرنسي بشكل سلبي.
وفيما
يتعلق بأحداث الإبادة أوضحت أنقرة أن الكثير من الأرمن تعرضوا لعمليات قتل إبان
الحرب العالمية الأولى، ولكها تشكك في عدد القتلى، وتنفى أن تكون أعمال القتل تمت
بشكل ممنهج لكي تشكل إبادة جماعية. (3) كما ترفض وصف "إبادة" معتبرة أن
الضحايا سقطوا على خلفية الحرب الأهلية والمجاعات التي انتشرت بالتزامن معها مما
أدى إلى مقتل ما يقرب من 500 ألف أرميني، بجانب نفس العدد من القوات التركية على
خلفية اشتباكاتهم مع القوات الروسية للسيطرة على الأناضول.
في
المقابل يعرب الأرمن عن إنهم تعرضوا لحملة قتل ممنهجة في عهد الإمبراطورية
العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى أسفر عنها قتل ما يقرب من 1.5 مليون أرمني. (4)
خلافات
مستمرة بين أنقرة وباريس حول "الأرمن"
لم يكن القرار وليد
اللحظة فقد أقر البرلمان الفرنسي من قبل في عهد الرئيس الفرنسي "نيكولا
ساركوزي" في فبراير/ شباط 2012 قانونًا يجرم انكار المجازر التي تعرض لها الأرمن
في عهد الإمبراطورية العثمانية. الأمر الذي رفضته أنقرة وقامت باستدعاء سفيرها لدى
باريس للتشاور حول القانون.
كما اتهم "أردوغان" رئيس الوزراء
التركي حينها فرنسا بارتكابها جرائم إبادة إبان فترة احتلاها الجزائر، موضحًا إن
عملية الحشد ضد تركيا تأتي في سياق اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، أي إن باريس
تقوم بتوظيف القضية لصالحها.
وهو ما حاول إثباته وزير الخارجية التركية
"أحمد داود أوغلو" أن باريس لم تستطيع مواجهة ماضيها الاستعماري على مدى
قرون، وعاملوا غير الفرنسين باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية لا يحق لها أن
تعلم أنقرة دوسًا في التاريخ.
في المقابل أوضح
الرئيس الفرنسي موقفه من التصريحات التركية، مطالبًا من أنقرة احترام وجهات النظر
المغايرة لها والقناعات الأخرى على خلفية إقرار البرلمان الفرنسي القانون الخاص
بإبادة الأرمن. فيما دعا وزير الخارجية الفرنسية القيادة التركية إلى ضبط النفس،
واصفًا التصريحات التركية بكونها مبالغة فيها. (5)
أوروبا
والدفاع عن "الأرمن"
ساهمت الدول الأوروبية في دعم حقوق الأرمن في مواجهة عدم
الاعتراف التركي بحقوقهم التي تم انتهاكها في النصف الأولى من القرن العشرين. فقد
اعترفت ما يقرب من 20 دولة أوروبية؛ حيث صوت البرلمان الأوروبي بأغلبية كبيرة
لصالح الاعتراف الرسمي بالانتهاكات التي تعرضت لها القوات الأرمنية في 2015،
بالتزامن مع الذكرى المئوية للحادث، مع مطالبة جميع الأعضاء بالاعتراف الرسمي بهذه
المذابح.
وفي هذا السياق، دُعم حقوق الأرمن انضمام هولندا إلى الدول التي اعترفت بشكل رسمي بالإبادة التي تعرضوا لها. (6) جاء القرار بعد أن تقدم "جويل فورديفيند" مُمثل حزب الاتحاد المسيحي إلى البرلمان بطلب الاعتراف بالإبادة. وهو الأمر الذي أدي إلى زيادة الضغوط الموجهة نحو أنقرة من العواصم الأوروبية. من الواضح أن قضية الأرمن ستظل من الملفات العالقة بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، كما سيتم توظيفها من آن لآخر ضد تركيا نتيجة توجهات غير المتوافقة مع القوى الأوروبية في الشرق الأوسط، ومنطقة البلقان.
الهوامش:
1. "فرنسا تعلن 24 أبريل يوما لإحياء ذكرى الإبادة
الجماعية للأرمن"، رويترز، 6/2/2019، الرابط:
https://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKCN1PU2HY
2. "ماكرون: نهج تركيا لا يسمح بانضمامها للاتحاد
الأوروبي"، روسيا اليوم، 17/5/2018، الرابط:
3. "تركيا تدين إعلان فرنسا يوما لإحياء
ذكرى إبادة الأرمن"، رويترز، 6/2/2019، الرابط:
https://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKCN1PV0UE
4. "ماكرون يغضب تركيا باحياء ذكرى إبادة
الأرمن"، ميدل إيست أونلاين، 6/2/2019K ، الرابط:
5. "تصاعد التوتر بين تركيا وفرنسا بسبب
"مجزرة" الأرمن"، سكاي نيوز عربي، 17/2/2012، الرابط:
6. "إبادة الأرمن".. الاعتراف
بالجريمة الكبرى يلاحق تركيا"، سكاي نيوز عربي، 23/2/2018، الرابط: