الدوافع والتداعيات .. القناة المالية الأوروبية مع إيران
تقاسمت
الدول الأوروبية الثلاث (المانيا، فرنسا و بريطانيا) مسئولية تدشين القناة الخاصة
بتسهيل التعامل بين طهران والدول الأوروبية، فضلاً عن تجاوز العقوبات الأمريكية،
على خلفية الخروج الأمريكي من الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (4+1) في مايو / أيار
لعام 2018 .
تهدف
هذه القناة إلي تسهيل التعاملات التجارية بين طهران ودول الاتحاد الأوروبي ويتوقع
وصول وزير الخارجية الإيراني "جواد ظريف" إلي بروكسل لبحث التفاصيل
النهائية في مسودة الإعلان الرسمي للقناة.
كما
تحاول الدول الأوروبية من خلال تدشين هذه القناة الحد من نفوذ إيران في المنطقة،
احتواء برنامج الصواريخ الباليستية الذي يهدد حليفتها إسرائيل، فضلاً عن تسهيل
وصول صادرات الأغذية الأوروبية إلي طهران جراء الأزمة التي يعانى منها الشعب
الإيراني.
وتتوقع
دول الاتحاد الأوروبي أن يترتب على ذلك مجموعة من النتائج تتمثل في حفظ الاتفاق النووي،
امتثال طهران لمجموعة العمل المالي(فاتف)، فضلاً عن السيطرة على العمليات
الإرهابية التي يقوم بها نظام الملالي ضد المعارضة الإيرانية في الخارج.
أولاً- محفزات تدشين القناة
المالية مع إيران
شهدت
فترة ما بعد الخروج الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني مجموعة كبيرة من
التفاهمات بين طهران ودول الاتحاد الأوروبي بغرض تسهيل التعامل التجاري و تجاوز
العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن مجموعة
من الدوافع تمثلت فيما يلى:-
1-
احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة
ينطلق
النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط من أساس منهجي يتمثل في نظرية تصدير الثورة
الإسلامية و مبدأ الحكومة العالمية؛ فمنذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979،
سعت طهران لنشر نفوذها في المنطقة العربية بحجة محاربة المستبدين ونصرة الضعفاء، ولكن
يتمحور السبب الخفي حول رغبة الجمهورية الإسلامية في أن تصبح أكبر القوى الإقليمية
الموجودة في المنطقة، ومن هنا تستطيع استخدام هذه الورقة في المناورة مع القوى الكبرى
لتنفيذ مطالبها.
كما أن
لدول الاتحاد الأوروبي مصالح هامة في منطقة الشرق الأوسط ولاسيما المصالح الفرنسية
و الإيطالية و التي يتمحور أغلبها حول الطاقة، في دول مثل ليبيا. ومن ناحية أخرى ترتبط
المنطقة بالدول الأوروبية في ملفات مثل الهجرة و الإرهاب. و تعد منطقة الشرق
الأوسط من أكثر المناطق تصديراً لهذه الظواهر، ومن هنا تتقاطع مع الجمهورية
الإسلامية المزعزعة للاستقرار و الداعمة لمعظم الجماعات الجهادية الموجودة في معظم
مناطق الصراع الحالية مثل سوريا و العراق(1).
وتحاول
طهران التأثير على مصير المنطقة من خلال دعم بعض الفاعلين من غير الدول مثل
"حزب الله" في لبنان و الحوثيين في اليمن، على أن يتمحور نفوذ إيران في
التأثير على العملية الانتخابية ووصول فصائل معينة إلي سدة الحكم، ومن هنا تأتي
مساندة هذه الدول لطهران في سياستها الإقليمية و الدولية.
في
السياق ذاته، تعمل طهران على إثراء الذات الطائفية داخل المنطقة العربية بشكل عام و
اليمن بشكل خاص. لذا، أدت السياسات الإيرانية في اليمن لتمزيق النسيج الاجتماعي ونسف التعايش السلمى، كما
تسبب الدعم العسكري الإيراني من خلال أسلحة حديثة وبكميات كبيرة لجماعة الحوثي في تقويض
قدرة الدولة اليمنية وتصعيد وتيرة الصراع(2).
2-
الحد من أنشطة الصواريخ الباليستية
أطلقت طهران منذ توقيع الاتفاق النووي مع دول (4+1) عدد
من الصواريخ الباليستية، و على الرغم من وجود بند داخل الاتفاق النووي يقر بمنعها و لكنها تبرر ذلك بسلمية هذه الأنشطة؛
حيث أعلن الرئيس الإيراني "حسن روحاني" في 10 يناير / كانون الثاني لعام
2019 عن تدشين بلاده صواريخ تحمل أقماراً صناعياً إلي مدار الأرض، في تحدً لتحذير الرئيس
الأمريكي "دونالد ترامب" من انتهاك القرار رقم 2231.
ويأتي
ذلك ليكون بمثابة تأكيد على نشر شبكة (سي أن أن) الأمريكية صوراً تُظهر نشاطاً صاروخياً بموقع تابع للحرس الثوري تستخدمه
وكالة الفضاء الإيرانية. لكن أشار بعض المحللين إلي أن طهران تجنبت تقديم شكوى في مجلس
الأمن ضد قرار لانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مقابل عدم تلويح الولايات المتحدة
الأمريكية بورقة القرار رقم 2231 ضد الأنشطة الصاروخية الإيرانية(3).
نتيجة لما سبق، باتت قضية الصواريخ الباليستية تفرض
نفسها كملف أساسي في إطار العلاقات الفرنسية الإيرانية؛ حيث أعرب وزير الخارجية
الفرنسي "جان أيف لودريان" عن استعداد بلاده لفرض مجموعة من العقوبات على
إيران في حالة عدم تحقيق تقدم في المفاوضات بشأن برنامجها الصاروخي الباليستي، بما
يتضمن تجميد أصول أعضاء الحرس الثوري الإيراني وحتى الموظفين المنخرطين في هذه
القضية(4).
3-
تسهيل وصول صادرات الأغذية للشعب الإيراني
يُعانى الشعب الإيراني من نقص المواد الغذائية في
الأسواق و ارتفاع أسعارها، على خلفية العقوبات الأمريكية التي اعقبت فترة الانسحاب
الأمريكي من الاتفاق النووي، وعدم قدرة شركات الأغذية العالمية على التصدير
لطهران. فلم تتمكن مجموعتي "كارجيل" و"بنجي" الأميركيتين، و"أولام"
السنغافورية من إبرام صفقات تصدير جديدة للقمح، الذرة و السكر الخام بسبب عدم قدرة
البنوك الغربية على تحويل مدفوعات الصفقات مع إيران.
في السياق ذاته، أقر مسئول إيراني بوزارة التجارة
والصناعة بوجود صفقات مع عدد قليل من البنوك الأوروبية الصغيرة والمتوسطة التي لا
تمتلك تعاملات تذكر مع الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من اعلان واشنطن
امكانية الغاء العقوبات المفروضة على السلع الغذائية إلا أن الجزاءات الصارمة التي
فرضتها الإدارة الأمريكية على الكيانات المخالفة للعقوبات تسببت في ايقاف كثير من
البنوك والشركات الأوروبية والغربية لتعاملاتها المالية مع طهران خشية التعرض
لعقوبات أمريكية.
لذا، صرح
كثير من خبراء الاقتصاد العالميين أنه من الأسهل على كثير من البنوك الأجنبية
إنهاء أي نشاط مالي مع إيراني، بدلاً من الخوض في تفاصيل القوانين الخاصة
بالعقوبات الأمريكية، أو المخاطرة بارتكاب أخطاء و التعرض لجزاءات(5).
ثانياً- تداعيات انطلاق
القناة المالية بين إيران و دول الاتحاد الأوربي
على
الرغم من وجود صعوبات كبيرة تواجه الدول الأوروبية بشأن استضافة القناة المالية
لتسهيل التبادل التجاري مع طهران، خشية التعرض للعقوبات الأمريكية، لكنها تأمل في
أن يترتب على تدشين هذه القناة مجموعة من النتائج تتمثل فيما يلي:-
1.
الإبقاء على الاتفاق النووي
تتوقع دول الاتحاد الأوروبي أن يكون تدشين القناة
المالية مع طهران بمثابة عامل مساعد على حفظ الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة
(4+1)، لاسيما بعد الخروج الأمريكي وفرض ثلاث موجات من العقوبات الاقتصادية على الجمهورية الإسلامية. و
أشار كثير من المحللين إلي أنه على الرغم من أن البقاء داخل الاتفاق النووي يعد
بمثابة الحل الأمثل في ظل الظروف الحالية بالنسبة للجمهورية الإسلامية، في الوقت
ذاته، لا يمكنها الاستمرار بغض النظر عن التكلفة.
ويشير الكاتب الأمريكي "هنري روما" إلي أن العامل
الاقتصادي هو المحدد الأكثر أهمية في حسابات صانع القرار الإيراني، و أقر أن هناك
ملاحظتان غاية في الأهمية، أولاً: على الرغم من قوة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية،
لكنها ليست بنفس فعالية التدابير متعددة الأطراف. ثانياً: أن الأثر السلبي الذي
سيخلفه الخروج الإيراني من الاتفاق النووي أكبر من أي أثر إيجابي من الممكن أن تحصل
عليه طهران في ظل هذا الوضع.
ومن هنا، تعمل الدول الأوروبية على تعزيز فرص و مكاسب
الجمهورية الإسلامية للبقاء داخل الاتفاق النووي، لضمان استمرار مصالح شركاتها التي
تمتلك معاملات تجارية مع طهران، فضلاً عن حماية مصالحها و احتواء نفوذ طهران
المتصاعد في منطقة الشرق الأوسط(6).
2-
ضمان انضمام طهران لاتفاقية مجموعة العمل المالي
(فاتف)
شهدت أروقة السياسة في إيران جدلاً كبيراً وصراعاً
محتدماً منذ مطلع عام 2018 حول الانضمام إلي مجموعة العمل المالي
"فاتف"، على خلفية اتهام طهران وبيونج يانج بالضلوع في مكافحة غسيل
الأموال و مكافحة الإرهاب.
وكجزء
من إضفاء الشرعية على الوضع التجاري والمالي للجمهورية الإسلامية شرع الرئيس الإيراني
"حسن روحاني" بعد عقد الاتفاق النووي مع مجموعة (4+1) في الانضمام
لمجموعة العمل المالي، التي تتضمن عدد من الاجراءات الداخلية لمكافحة غسيل الأموال
والتصديق على لائحتين؛ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة و اتفاقية مكافحة
تمويل الإرهاب (سي أف تي).
لذا، يتوقع الأوروبيون أن يُسهل انضمام إيران لهذه
الاتفاقية عمل القناة المالية، التي أقر
مسئولين إيرانيين بأن الانضمام إلى "فاتف" كان أحد شروط تدشينها.
لكن تحتج بعض التيارات الإيرانية المعارضة للانضمام للاتفاقية بأنه من شأنها أن
تجعل خبايا الدولة الإيرانية مكشوفة للقوى الدولية، مما يُصعب على إيران الالتفاف
على العقوبات الأمريكية كما كانت معتادة في السابق(7).
3-
السيطرة على العمليات الإرهابية ضد المعارضة الإيرانية في الخارج
شهدت الدول
الأوروبية حملة كبيرة من الاغتيالات ضد المعارضة الإيرانية بالخارج و لاسيما جماعة
"مجاهدي خلق"، كما تعد قضية مزدوجي الجنسية من أبرز القضايا الخلافية بين
طهران ودول الاتحاد الأوروبي؛ حيث تتهم الجمهورية الإسلامية مواطنيها من مزدوجي
الجنسية بالتجسس لصالح دولهم، فضلاً عن عدم اعترافها بمبدأ الازدواج في الجنسية من
الأساس.
ومن هنا، تحاول دول الاتحاد الأوروبي
اجبار إيران على الانضمام إلي الاتفاقيات الدولية بغرض ضبط سلوكها و السيطرة على
موجات الاغتيالات التي تستهدف المعارضة في الخارج، فضلاً عن اعادة فتح ملفات هامة
مثل الحريات و الحقوق و لاسيما لفئات مشمولة بدعم القانون الدولي مثل القاصرين و
المرأة(8).
ختاماً: يبدو أن هذه الألية لن تحقق أهدافها في ظل التعنت و التردد الإيراني للانضمام لمجموعة العمل المالي (FATF (، كما أنها ليست إلا ألية لحفظ ماء الوجه من قبل دول الاتحاد الأوروبي، لكن سيتوقف مدى نجاحها أو فشلها على مقدار التنازلات التي من الممكن أن تقدمها طهران، فضلاً عن الالتزام بمحددات القانون الدولي فيما يخص معاملاتها التجارية، والعودة إلي طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى فيما يخص برنامجها النووي.
الهوامش:
1. مرفت زكريا، ارتدادات عكسية: كيف هزمت إيران مرتين،
18/12/2018 ، المركز العربي للبحوث والدراسات، متاح على الرابط التالي:
http://www.acrseg.org/41054?fbclid=IwAR0zHt_Sv5sQxiU97-mOm69iEyCj6UbK7SvQXi-RhogM19fnMfVmgr0_DWQ .
2. Elisabeth
Kendall, Iran's Fingerprints in Yemen: Real or Imagined? Atlantic Council:
working Together to secure the future, 19/10/2017, available at:
3.
مرفت زكريا، مواجهات
كاشفة: القمة البولندية ضد التحركات الإيرانية في الشرق الأوسط، 20/1/2019، المركز
العربي للبحوث والدراسات، متاح على الرابط التالي:
http://www.acrseg.org/41091?fbclid=IwAR0BqVadPRtFGoFe70m6WOfFTogkwfGyUcVPBNGsNYKARz6maSKBEb91G_E
.
فرنسا
تهدد إيران بعقوبات صارمة إذ لم يحرز تقدم حول برنامجها الباليستي، 25/1/2019 ، روسيا
اليوم، متاح على الرابط التالي:
http://cutt.us/WTMiM
4.
Global Traders Halt New Iran Food Deals as US
Sanctions Bite, 21/12/2018, VOA news on Iran, available at:
https://www.voanews.com/a/global-traders-halt-new-iran-food-deals-as-us-sanctions-bite/4710715.html
5. Henry Rome, Why Iran Waits: Staying in the Nuclear Deal Is Its Worst
Option, Except for All the Others, 10/1/2019, Foreign Affairs, available
at:
https://www.foreignaffairs.com/articles/iran/2019-01-10/why-iran-waits
6. صابر كل عنبرى، جدلية الانضمام إلى اتفاقية مكافحة تمويل
الإرهاب في إيران، 24/11/2018 ، عربي 21 ، متاح على الرابط التالي:
http://cutt.us/1ayjT
7. مرفت زكريا، مزوجى الجنسية في إيران بين قمع الداخل و المناورة مع الغرب، 1/12/2018 ، المركز العربي للبحوث والدراسات، متاح على الرابط التالي: http://www.acrseg.org/41036