من القاهرة .. رسائل "مايك بومبيو" إلى الشرق الأوسط
بالتزامن مع مرور عشر سنوات من خطاب الرئيس الأسبق باراك
أوباما فى جامعة القاهرة والمُعنون بـ "البداية الجديدة"، وكذلك عقب ثلاثة
أسابيع من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا، وما
لحق به من جدلاً حاداً حول النوايا الإقليمية للإدارة الحالية، ألقى "مايك
بومبيو" خطابة بالقاهرة فى العاشر من يناير الجارى حول "التزام أمريكا بالسلام
والاستقرار والأمن في الشرق الأوسط"، وذلك فى إطار جولته في المنطقة والتي تضم
ثماني دول "الأردن والقاهرة وعدد من الدول الخليجة"، مؤكدا فى ذلك على
عدد من الرسائل ذات الأبعاد السياسية والأمنية، وهو ما يتضح من خلال النقاط
التالية:
تحول سياسى
أولى ملاحظات التحول بالسياسات الأمريكية، ما تمثل فى تخلى
"بومبيو" فى خطابة بالجامعة الأمريكية فى القاهرة عن "الأعراف
الدبلوماسية" الراسخة والمتمثلة فى: "عدم تناول الخلافات المحلية علناً في
الخارج"، وشن هجوماً حاداً على أوباما، منتقداً خطاب الرئيس السابق فى القاهرة عام 2009 والذى أعلن من خلالها تحسين
العلاقات مع العالم الإسلامي. ومتهما إياه بنشر الفوضى جراء تخليه عن الشرق الأوسط وتركة للمتشددين
الإسلاميين و فتح المجال أمام تنامى النفوذ الإيراني.
وإنطلاقاً من ذلك، أكد بومبيو فى خطابة على ثوابت إدارة
"دونالد ترامب" حول التحول السياسى نحو إستعادة "الدور المرن"
فى الشرق الأوسط ، وذلك بقولة : "الآن تُستهل بداية جديدة حقيقية. فخلال 24 شهراً
فقط، استطاعت الولايات المتحدة تحت حكم ترامب إعادة تأكيد دورها التقليدي بوصفها قوة
لجلب الخير في المنطقة؛ لأننا تعلمنا من أخطائنا السابقة".
العودة إلى الحلفاء
بمقارنة سياسات النظام الحالى مقابل نظيرة السابق، ففى
أثناء ولاية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، ومع سيطرة الحزب الديمقراطي على
مجلس النواب الأمريكى، فقد خضعت علاقة "واشنطن" بـ "القاهرة" لمزيد
من التوتر والتدقيق، خاصة بالسجال الدائم حول قضايا حقوق الإنسان وحركة المجتمع
المدنى.
كذلك،
بعد الرفض الشعبى المصرى والخروج ضد الرئيس الأسبق محمد مرسى وإستجابة الجيش
لطلبات الشعب فى 2013، دخلت العلاقات بين مصر وأمريكا مرحلة توتر، إذ صرح أوباما أنه
غير مسرور بالأحداث السياسية فى مصر وإنهاء حكم محمد مرسى ذو الخلفية الإسلامية، رغم
انتقاده له وتأكيده أن حكمه لم يكن شاملا، واعترافه بالاحتجاجات الشعبية ضد حكومته.
فى
ظل توتر العلاقات والذى ظهر مع بداية ثورات الربيع العربى، أصدر أوباما قرارًا بتعليق
جزئي للمساعدات العسكرية لمصر في أكتوبر 2013، ملوحاً بورقة "حقوق الإنسان"،
إلا انها قد عادت المساعدات مرة أخرى في عام 2015 .
بالمقابل،
أكد بومبيو على فشل الإدارة السابقة فى قراءة وفهم مكينايزم الشرق الأوسط وخريطة
تحالفاتة، مُعلنا إستعادة الحلفاء التقليدين بالمنطقة وفى مقدمتهم مصر، مُعلنا أن
واشنطن تعمل مع القاهرة على تعزيز التحالف الاستراتيجي بينهما، من أجل دعم السلم والأمن
والإستقرار والرفاهية في منطقة الشرق الأوسط.
ترتيبات إقليمية
اتساقاً مع ما سبق، فقد عمد بومبيو من القاهرة إلى إرسال
رسائل هامة لحلفاء الإقليم متمثلة فى مواصلة "الدور
الأمريكي المرن" فى الملفات الأمنية والسياسية والإقتصادية، مؤكدا إن أي انسحاب
كامل للولايات المتحدة يعقبه فوضى في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يظهر بالتحركات
المستقبلية فى الملفات التالية:
-
إعادة التموضع فى الشرق الأوسط: على خلاف إسترتيجية أوباما والخاصة بالخروج الأمن من
الشرق الأوسط مقابل التوجهه نحو أسيا مقابل فتح المجال أمام فاعلين جدد وتقليدين
بالنظام الدولي، وفى مقدمتهم روسيا والصين، لموازنة الفراغ الأمريكي بالشرق الأوسط.
إلا أنه بالمقابل، فقد اعتبرت استراتيجية الأمن القومي الخاصة بإدارة ترامب في ديسمبر
2018 أن روسيا والصين تتحديان المصالح الأمريكية فضلا عن سعيهم نحو تقويض النظام الدولي
الأحادى وإعادة تنظيمه نحو التعددية. وهو ما ظهر بإكتساب الرئيس الروسى فلاديمير بوتين
نفوذا كبيرا في الشرق الأوسط خلال السنوات القليلة الماضية.
وفقاً لذلك، سعت الولايات المتحدة
للتأكيد دوما على أنها ما زالت ملتزمة تجاه الشرق الأوسط، كما أن ذلك الالتزام تجاه
المنطقة متأصل في الاعتبارات الاستراتيجية والأخلاقية الأمريكية.
-
مجابهه الفاعلين العنيفين من غير الدول:
تدرك الولايات المتحدة أن هزيمة
ما يطلق عليه بـ "تنظيم الدولة الإسلامية فى سوريا والعراق" في ميدان المعركة
يختلف عن هزيمة المنظمة كهيكل تنظيمى. وذلك بالإضافة لإلتزام واشنطن بمواجهة التهديد
الإرهابي الأوسع نطاقاً الذي يشكله كل من تنظيم "القاعدة" والفاعلين
العنيفين من غير الدول، وهو ما تم ترجمتة بالضربة الجوية الأمريكية الأخيرة في اليمن
التي قتلت الناشط الأقدم جمال بدوي، الذي لعب دوراً رئيسياً في تفجير المدمرة الأمريكية
"يو إس إس كول".
نقطة أخرى تتعلق بمستقل "العائدين"، حيث تتضافر الجهود الأمريكية مع الحلفاء لحل أزمة
"العائدين الجهاديين" جراء تفكيك تلك التنظيمات الإرهابية فى سوريا
والعراق، وذلك للحيلولة دون إحداث أى تهديدات أمنية فى بلدانهم الأصلية، مثل حالة
الهجمات الإرهابية فى باريس وأسبانيا وبريطانيا... وغيرهم.
-
تقويض النفوذ الإيرانى بالإقليم: تقوم
الإستراتيجية الأمريكية فى عهد ترامب على ركيزة تقويض النفوذ الإيرانى في المنطقة،
ورعايته للإرهاب حول العالم، وتهديداتة بتعطيل حرية الملاحة البحرية.
ومن ثم، فمقابل العقوبات الأمريكية على إيران وأذرعها
بالمنطقة، تطالب الإدارة الأمريكية دوما بأن تسحب إيران جميع القوات الخاضعة لأمرتها
والمتواجدة في جميع أنحاء سوريا. بالإضافة إلى ذلك، تركز واشنطن بشكل كبير على قيام
النظام الإيراني بتوفير الأسلحة إلى وكلائه في أماكن مثل أفغانستان والبحرين ولبنان
والأراضي الفلسطينية واليمن.
-
استكمال خطوات صفقة القرن: تُعلن واشنطن إلتزامها السياسي لإنجاز عملية السلام فى
الشرق الأوسط، وخاصة بين كل من الفلسطينين والإسرائيلين، إلا أنه بالمقابل فمن
المُرجح إعادة الحديث فى ذلك الملف عقب تسوية الأوضاع السياسية بالداخل الإسرائيلى
وإنهاء الإستحقاق الإنتخابى وتشكيل الحكومة الجديدة وإقرار توجهاتها فيما يخص
عملية السلام وكيفية إنجازها.
-
تدشين "الناتو العربى": من المُحتمل أنه فى إطار زيارة بومبيو للشرق الأوسط، أن
يتم إعادة الحديث حول تشكيل "تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي"MESA"، خاصة
وأنه يتعلق بترتيب الأوضاع الأمنية بالإقليم، وذلك بالنظر إلى أنه من المقرر أن تكون
"مسارح العمليات" الخاصة بـ "تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي"
في مناطق الخليج العربي وبحر العرب والبحرين الأحمر والمتوسط، مع التركيز على تأمين
المعابر المائية الاستراتيجية "مضيقا هرمز وباب المندب"، وقناة السويس.
بالإضافة إلى ذلك، فمن المُرجح أن يتولى التحالف المُقرر
تدشينة مكافحة عمليات نقل الأسلحة إلى إيران وميلشياتها في المنطقة. وكذلك خلق وجود
بري لقوات عسكرية مشتركة بالمنطقة، وهو بالنقطة المُرجح حدوثها خاصة بمناقشة خريطة
التطويق الأمنى لمثلث الحدود الإستراتيجي "الأردن وسوريا والعراق"، دون إغفال
تأمين المجال الجوى للمنطقة وذلك بأن يتم فتح أجواء الدول المشاركة للتحليق العسكري
لطيران MESA، مع التعاون مخابراتيا في مكافحة الإرهاب بكافة أنواعه.
-
تفعيل الدبلوماسية الإقتصادية : تسعى واشنطن إلى التركز بصورة أكثر على القضايا الاقتصادية.
فالشرق الأوسط يتمتع بموارد طبيعية وبشرية هائلة، إلا أنه يعاني من أعلى معدلات البطالة
بين الشباب في العالم ومن عدم كفاية الاستثمارات المباشرة وجدواها. لذا، فلدى
الولايات المتحدة المجال للإضطلاع بدور ملموس من خلال عرض نظامها الاقتصادي وبواسطة
مبعوثيها التجاريين في دول الشرق الأوسط. فعلى عكس المنافسين من الصين، تجلب الشركات
الأمريكية التكنولوجيا المتطورة وتحول مهارات القيادة والإدارة إلى الموظفين المحليين.
ومن ثم، فعلى حكومات الشرق الأوسط إستغلال إعادة تموضع الإقتصاد
الأمريكي فى المنطقة نحو إنجاز خطوات الإصلاح الاقتصادي لتعزيز نمو الوظائف، ودعم منظمي
المشاريع، ومعالجة الفساد المستشري. ومن خلال منظمات مثل "الوكالة الأمريكية للتنمية
الدولية"، و "البنك الدولي"، و "صندوق النقد الدولي"، لتمكنهم
من تعزيز النمو المُحفز للاستقرار ولتلبية تطلعات المواطنين بما يضمن إستقرار تلك
الدول وما يعكسة ذلك الإستقرار المباشر على دعم السلام بالشرق الأوسط.
فى النهاية ...
فإن زيارة بومبيو للقاهرة وخطابة السياسي،
فضلا عن كونه يحمل رسالة واضحة للحلفاء التقليدين مفاداها: "أن الولايات المتحدة
ملتزمة بالمنطقة، وملتزمة بهزيمة داعش، وملتزمة بمواجهة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار".
الإ أن الزيارة تهدف كذلك لإنجاز ترتيبات إقليمية هامة بـ 3 ملفات رئيسية، يفترض أن
القاهرة ستلعب فيها دورا هاما، أول هذه الملفات هو موازنة الانسحاب الأمريكي المنتظر
من سوريا، والتوافق حول ترتيبات إحلال قوات عربية مكان القوات الأمريكية فى إطار
ما يعرف بـ "تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي MESA
".
وثانى تلك الملفات ما يتعلق بتقويض الأذرع الإيرانية داخل دوائر نفوذها، وخاصة فى اليمن بعد الدعوات المتزايدة لوقف الحرب هناك والدور المصري المنتظر في تأمين الهدنة التي قد يتم الإتفاق حول بنودها، و تأمين الممرات الملاحية ومنها مضيق باب المندب. بينما الملف الثالث، ما يتعلق بالدور المصرى فى ترتيبات عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، فضلاً عن مساندة مصر لحلفاء الإقليم نحو إعادة تموضع في المنطقة.