الجيش الأوروبي الموحد .. بين إرهاصات الواقع والمستقبل
يُعتبر الاتحاد الأوروبي نموذجاً مثالياً يحتذي به في مجال
التكامل الاقليمي حيث ترتبط دوله بمكونات تاريخية، ثقافية اجتماعية، اقتصادية،
وسياسية أهلَّها لتكوين اتحاد قوي على المستوى الاقليمي، وترجع جذور نشأت الاتحاد
الأوروبي إلي معاهدة الفحم والصلب الموقعة في روما سنة 1957 بين ستة دول
أوروبية وأفضت إلى إنشاء السوق الأوروبية المشتركة ودخلت هذه الاتفاقية حيز النفاذ
عام1958 والتي
بموجبها تم إنشاء المنظومة الاقتصادية ومنظومة الطاقة لذرية اللتان تعملان
بالتوازي مع منظومة الفحم والصلب الأوروبية، وكنتيجة حتمية لعمل المنظومات السابقة
معاً نجمت عنهما الجماعة الأوروبية عام1967 وأنضم
إليها بعد ذلك عدد من الدول الأوروبية.(1)
ويأتي بعد ذلك منعطف تاريخي هام في حياة الاتحاد
الأوروبي ألا وهي معاهدة ماستريخت الموقعة في مدينة ماستريخت الهولندية عام1991 والتي رسخت مفهوم الاتحاد الأوروبي وأعتبرته تطوراً للجماعة الأوروبية كما أكدت الاتفاقية علي مبدأي
السياسة الخارجية والأمنية المشتركة لدول الاتحاد الأوروبي والتحرك معاً نحو
سياسات الهجرة واللجوء ومكافحة الارهاب وأخذ الاتحاد الأوروبي يتطور شئً فشئً نحو التكامل الإقليمي حتي ظهر ما سمي بالعملة
النقدية الموحدة "اليورو الأوروبي" كعملة موحدة يتم التعامل بها بين دول
الاتحاد الأوروبي، المواطنة الأوروبية، والدستور الأوروبي الموحد، البرلمان
الأوروبي، ومؤخرأً الدعوة إلي إنشاء جيش أوروبي موحد.(2)
الدعوة إلى إنشاء جيش أوروبي موحد
وخلال الذكرة المئوية علي مرور الحرب العالمية الأولي
يوم الثلاثاء 6 فبراير 2018 وُجد
أن الرئيس الفرنسي "إيمانويل
ماكرون" يدعو إلي ضرورة إنشاء جيش أوروبي موحد أطلق عليه "الجيش
الأوروبي الحقيقي" والذي يتمكن من حماية دول الاتحاد من القوى
الكبري مثل روسيا والصين وحتى الولايات
المتحدة مؤكداً في حديثة قائلاً "علينا أن نحمي أنفسنا تجاه الصين وروسيا، وحتى الولايات
المتحدة الأمريكية". محذراً في الوقت نفسه من
عودة قوى متسلطة إلى الظهور قد تعيد التسلح عند
الحدود الأوروبية ولم تكن هذه الدعوة من قبل الرئيس الفرنسي لإنشاء جيش أوروبي
موحد هي الأولي من نوعها وإنما نادي بذلك منذ عامين قبل تولي الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب.(3)
وعلى الصعيد الألماني أيدت
"أنجيلا
ميركل" المستشارة الألمانية فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد والتي طرحت من قبل
الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، ودعت
ميركل خلال خطاب أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ إلى تأسيس الجيش الأوروبي
الموحد وقالت في خطابها "علينا وضع رؤية تتيح لنا أن نصل يوما ما إلى
إنشاء جيش أوروبي حقيقي"، وبينت ميركل أن الجيش الأوروبي لن يكون جيش ضد
الناتو -حلف شمال الأطلسي- وإنما يعمل علي ترسيخ مكانة قوية للاتحاد داخل التحالف
العسكري ليس ذلك فقط وإنما أيضا ترسيخ مكانة الاتحاد الأوروبي علي المستوي العالمي، واقترحت إنشاء مجلس أمن أوروبي مع رئاسة دولية
يمكن من خلاله اتخاذ قرارات مهمة بشكل أسرع.(4)
كما أشرت كل من وزيرة الدفاع الفرنسية "فلورنس
بارلي" ونظيرتها الألمانية "اورسولا فون دير لاين" في مؤتمر ميونيخ
للأمن المنعقد في 16فبراير/شباط 2018 على ضرورة
وضع استراتيجية استقلالية للاتحاد الأوربي من الناحية العسكرية حتي لا تقع
تحت طائلة الدول الكبري خاصة في ظل عدم الاستقرار المحيط بالقارة الأوروبية
وشعورها بأن هناك حاجة ملحة لتكوين جيش أروبي موحد يكون حائطاً وسداً منيعاً ضد
التغيرات الإقليمية والعالمية في الوقت التي تواجه فيه دول الاتحاد الأوروبي عدد
من المشكلات التي تهدد أمنها القومي، كما أنها ترغب في المزيد من الاعتماد علي الذات وتقليل الاعتماد علي
الولايات المتحدة الأمريكية خاصة في ظل القيادة السياسية الجديدة منذ تولي الرئيس
الأمريكي دونالد ترامب مقاليد الحكم في عام2016 ورفع شعار "أمريكا أولاً".(5)
الدوافع
الكامنة في الدعوة الفرنسية لإنشاء جيش أوروبي موحد
1-
دوافع معلنة
1)
مواجهة كل من روسيا،الصين، الولايات المتحدة الأمريكية: تشكل روسيا خطر حقيقي بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي
خاصة بعد سعي الأولي إلي إستعادة مكانتها علي الساحة الدولية وقد ظهر ذلك جلياً
عندما قامت روسيا بضم واحتلال شبه جزيرة القرم في مارس/أذار2014 بشكل غير شرعي بالإضافة إلي دعم الحركات
المتمردة في أوكرانيا الشرقية الأمر الذي يمثل تهديداً لسلامة وأمن الحدود
الإقليمية لأوروبا، خاصة بالنسبة للدول التي تشترك مع روسيا في حدود جغرافية مثل دول
البلطيق، بولندا، فلندا، والنرويج، الأمر الذي جعلها تعيش في حالة من احتمالية
التعرض لغزو روسي مما جعل النظرة الأوروبية لروسيا تتغير بشكل كبير في ظل الأزمة
الأوكرانية خاصة في ظل إدراك هذه الدول حقيقة عدم التوازن العسكري بين القوات
الروسية والقوات الأوروبية الصغيرة الحجم، بالإضافة إلي تمدد أذرع الدولة الروسية
داخل منطقة الشرق الأوسط والتأثير في إعادة تشكيل موازين القوي من خلال اعتماد
روسيا علي آليات محددة تتمثل في
نشر المعلومات
المغلوطة، التدخل في الانتخابات، قرصنة المعلومات، وتجنيد
مؤيدين بين السياسيين، كل ذلك مثل تهديداً
أمني لدول الاتحاد الأوروبي الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي لوضع روسيا في المرتبة
الأولي من المهددات الأمنية لاستقرار الدول الاعضاء داخل الاتحاد الأوروبي.(6)
بالنسبة للصين: قد تمثل الصين من خلال قوتها الاقتصادية خطر أكبر
للاتحاد الأوروبي من روسيا نفسها حيث تمتلك الصين استثمارات هائلة داخل الاتحاد
الأوروبي مما يعتبر غزواً اقتصادياً كما أنها تشكل اقتصاداً مغري بالنسبة للدول
الأوروبية ذات الاقتصاديات الضعيفة، كما أن الصين تعمل علي إقامة علاقات ودية قوية
مع القيادات الأوروبية المؤيدة للسياسات الصينية بالإضافة إلي سعي الصين الجاد إلي
إقامة لوبيات
ضغط، وتحسين المواقف تجاه نفسها لتحقيق ظروف عمل أفضل.(7)
بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية:-
وُجد أن المخاوف الأوروبية من تهديد أمريكي محتمل يرجع في أعماقه للتواجد الأمريكي
داخل القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية حيث استطاعت أن توظف مشروع
مارشال ليس فقط لمساعدة الدول الأوروبية وإنما بما يخدم مصالحها في المنطقة حيث
استطاعت أن تولد شعور نفسي لدي الدول الأوروبية بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي
الحامي الأول لدول القارة الأوروبية.(8)
كما
أنها عمدت دائماً إلي التواجد بقوة داخل القارة الأوروبية لتطويق النفوذ الروسي،
ولكن ازداد شعور دول الاتحاد الاوروبي في الآونة الأخيرة بخطورة الاعتماد الكبير
علي الولايات المتحدة الأمريكية خاصة من الناحية العسكرية مع تولي الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب مقاليد الحكم 2016، بعد أن أن قامت حملته الانتخابية علي شعار " أمريكا أولاً"
ومجموعة من الأفكار التي تهدد الأمن الأوروبي مثل رؤية ترامب بأن المشكلات التي
تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية ترجع لانخراطها المتزايد ف قيادة العالم _
ملوحاً بشكل غير علني عن تحمل أعباء أمنية تجاه دول الاتحاد حيث تساهم الولايات
المتحدة الأمريكية بالجزء الأكبر في النفقات العسكرية داخل حلف شمال الأطلسي_ ،
كما أن ولاية دونالد ترامب قد غيرت الرؤية المتوافقة بين الطرفين حول القضايا
الدولية وتجسد ذلك بوضوح في قضايا الشرق الأوسط علي رأسهم قضية القدس، قضية كوريا
الشمالية، والقضية النووية الإيرانية والموقف الأمريكي تجاه النفوذ الروسي الأمر
الذي عزز من مخاوف دول الاتحاد الأوروبي خاصة بعد تلويح ترامب بالخروج من
المعاهدات الدولية مثل معاهدة الصواريخ المتوسطة المدي، والاتفاق النووي الإيراني.
2-
دوافع غير معلنة (9)
1)
حالة عدم الاستقرار الأمني داخل منطقة الشرق الأوسط:عانت دول الاتحاد الأوروبي خلال التغيرات السياسية في
منطقة الشرق الأوسط منذ ثورات الربيع العربي من تهديدات أمنية تملث في تدفق
اللاجئين والارهابين من خلال إيطاليا واليونان الأمر الذي دعي إلي التقارب الفرنسي
الألماني من أجل إنشاء جيش أوروبي موحد من أجل التصدي لهذه التهديدات الأمنية.
2)
انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: تشكل بريطانيا القوة النووية الثانية لدول الاتحاد
الأوروبي بعد فرنسا الأمر الذي عزز الشعور لدي كل من فرنسا وألمانيا بحالة الفراغ
الأمني في حالة خروج بريطانيا بشكل نهائي من الاتحاد الأوروبي.
3)
مجد شخصي:
يسعي "ماكرون " من خلال طرح فكرته إلي قيادة الاتحاد الأوروبي وتعزير
مكانة فرنسا علي المستوي الأوروبي والدولي، وفي جانب الأخر نجد أن "ميركل"
تطمح في تحقيق إنجاز أوروبي ينسب لها كي تختتم حياتها السياسية وذلك من خلال إنشاء
جيش أوروبي موحد.
السيناريوهات
المحتملة
وهنا يرى الباحث أنه من الصعوبة أن يؤسس الجيش الأوروبي
الموحد خاصة في ظل المعارضة الأمريكية الشديدة لفكرة الرئيس الفرنسي حيث علق
دونالد ترامب علي ذلك" بأنه أمر مهين للغاية" وندد بأن تسدد الدول
الأوروبية إلتزاماتها المالية داخل الحلف الناتو أولاً ًكما أنه علق ساخراً "
لولا الولايات المتحدة الأمريكية لتحدث الفرنسيون الألمانية" ونجد أن الرفض
الصارم من قبل الولايات المتحدة يرجع إلي أن إنشاء الجيش الأوروبي الموحد من شأنه
أن يقلص القيادة الأمريكية للمعسكر الغربي الأمر الذي حاولت الولايات المتحدة
الأمريكية الحفاظ عليه دائماً، كما أن هناك عدد من دول الاتحاد نفسه ترفض فكرة
الرئيس الفرنسي لإنشاء جيش أوروبي موحد.
_
السيناريو الثاني يتمثل في تحقيق الرغبة الفرنسية الألمانية في إنشاء جيش أوروبي
موحد وذلك بسبب إدراك عدد من دول الاتحاد الأوروبي بخطورة الاعتماد المتزايد علي
الولايات المتحدة الأمريكية، مما يكون دافع قوي لزيادة الميزانية العسكرية ومن ثم
إنشاء جيش مستقل يعمل علي حماية دول الاتحاد من أي اعتداء أو تهديد خارجي،
بالإضافة إلي الإدراك الأوروبي بخطورة الاعتداء الروسي علي الفضاء السيبرايني.
_ ويتمثل السيناريو الأخير في بقاء الدعوة الأوروبية لإنشاء جيش أوروبي مستقل كما هي، حيث لم تكن دعوة "ماكرون" هي الأولي من نوعها وإنما طرحت فكرة إنشاء جيش أوربي قبل ذلك عدة مرات ومن المحتمل أن تُكون أوروبا جيشاً أوروبياً موحداً ولكن ليس الفترة الحالية وإنما خلال سنوات قادمة ليست بالقريبة.
الهوامش
(1)
عمرو الشوبكي، أوروبا من السوق إلي الاتحاد: صناعة موحدة، متاح على:-
http://boulemkahel.yolasite.com/resources/%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7%20%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%82%20%D8%A5%D9%84%D9%89%20%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF.doc
(2) حقائق عن الاتحاد
الأوروبي، بي بي سي، 2017، متاح على:-
http://www.bbc.com/arabic/world-39266697
(3) ماكرون يدعو لإنشاء "جيش أوروبي
حقيقي" للتصدي للولايات المتحدة وروسيا،2018، متاح علي:-
https://arabic.euronews.com/2018/11/06/macron-calls-for-creation-true-european-army-to-defend-against-russia-and-the-usa
(4) بعد
ماكرون ميركل تدعو لتأسيس جيش أوروبي حقيقي، 2018، متاح على:-
https://www.syria.tv/content/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D9%85%D8%A7%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%86%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%84-%D8%AA%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D9%84%D8%AA%D8%A3%D8%B3%D9%8A%D8%B3-%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D9%8A
(5)
برلين وباريس تؤكدان علي ضرورة تولي أوروبا الدفاع عن نفسها،2018، متاح على:-
https://www.dw.com/ar/%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D9%88%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D8%A4%D9%83%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B6%D8%B1%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D9%84%D9%8A-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D8%B9%D9%86-%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%87%D8%A7/a-42618971
(6) أندرو
رادين، إف ستيفن لارابي وأخرون، العلاقات الأوروبية مع روسيا: تصورات التهديد
والاستجابات والاستراتيجيات في أعقاب الأزمة الأوكرانية، مؤسسة راند، 2017، متاح
على:-
https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/research_reports/RR1500/RR1579/RAND_RR1579z1.arabic.pdf
(7) الصين
تهدد وحدة أوروبا، RT Arabic، 2018، متاح على:-
https://arabic.rt.com/press/927407-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D9%87%D8%AF%D8%AF-%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7/
(8) الاتحاد
الأوروبي بين أمريكا وروسيا، مركز الروابط للدراسات الاستراتيجية والسياسية، 2016،
متاح على:-
http://rawabetcenter.com/archives/28397
(9) منى
سليمان، لماذا تجدد ألمانيا وفرنسا الدعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد؟ مجلة السياسة
الدولية،2018، متاح على:-
http://ww.siyassa.org.eg/News/15568.aspx