حدود الرؤية المشتركة... الاتفاقية الدفاعية بين بريطانيا وألمانيا
تواجه المملكة المتحدة عددًا من التحديات التي تكاد تعصف
بأمنها واستقرارها الإقليمي، مع اقتراب موعد الخروج من الاتحاد الأوروبي في مارس/
آذار 2019، نتيجة عدم التوصل إلى تسوية سلمية تحدد نمط
العلاقة المستقبلية بين الجانبين. لذا فقد بدأت الحكومة البريطانية برئاسة
"تيريزا ماي" إلى عقد اتفاقيات ثنائية مع الدول الأوروبية وخاصة في مجال
الدفاع والأمن الأوروبي.
كانت ألمانيا في مقدمة الدول الأوروبية
التي سعت لندن إلى توثيق علاقاتها معها من خلال إبرام اتفاقية تعرف باسم
"الرؤية المشتركة" لتعزيز التعاون في بناء القدرات العسكرية، ومكافحة
الإرهاب بين وزيرة الدفاع الألمانية "أورسولا فون دير لاير" ونظيرها
البريطاني "غافين ويليامسون".(1)
كما انطوت الاتفاقية على توثيق التعاون بشأن تدريب الأطقم الجوية؛ حيث يستخدم
الجانبيين طائرات يوروفايتر وتايفون وتورناو - والخطط المشتركة لتوسيع قدرات زرع الجسور
البرمائية كتلك التي تم توضيحها خلال الزيارة إلى "ميندين".
جاء الاتفاق بعد
أسبوع من تأكيد بريطانيا على بقاء قواتها المتمركزة في برلين بعد خروج بريطانيا من
الاتحاد، لدعم البنية التحتية والأصول الحيوية الأخرى لـ"لناتو"، مثل وحدة
عبور النهر المشتركة في "ميندين"، إحدى أقوى أوراق الحكومة البريطانية في
مفاوضات الخروج؛ حيث تتوقع لندن أن تلعب دورًا مركزيًا في الأمن الأوروبي بعد أن تغادر
الاتحاد، بصفتها الدولة التي تتمتع بأعلى معدلات الدفاع في الاتحاد الأوروبي.(2)
وعليه؛ سيبقى حوالي
185 من أفراد الجيش البريطاني و 60 من مواطني وزارة الدفاع في ألمانيا، وسيتمركز أفراد
الجيش بشكل دائم في منطقة تدريب سنيلاجير التي تبلغ مساحتها 45 ميل مربع، التي توفر
للقوات البريطانية وقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) منطقة تدريب واسعة النطاق لإطلاق
النار.(3)
دلالات اتفاقية "الرؤية المشتركة"
تمثل
الاتفاقية رسالة مهمة لتوثيق العلاقات بين البلدين في مجال الدفاع في سياق
الاستعداد البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي كما إنه يحمل عددًا من الدلالات على
النحو التالي:
1-
تبادل المنافع؛ تسعى البلدين إلى الاستفادة من قدرات بعضهم
البعض؛ حيث تمتلك لندن قدرات استخباراتية وأمنية وعسكرية تحمي أمنها القومي بل
والأمن الأوروبي. في المقابل تمثل هذه الاتفاقية لـ"برلين" خطوة جديدة
في سياق إعادة تأهيل جيشها الوطني الذي يعاني مجموعة من التحديات.
2-
إظهار جبهة مشتركة للأمن الأوروبي؛ تساهم البلدين في توحيد جهودهم في مجال
الأمن والدفاع، بالإضافة إلى زيادة فرص التعاون في هذا المجال في المستقبل كونهم
أعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومنظمة الشرطة الأوروبية "اليوروبول". بجانب هذا تقود بريطانيا عملية نشر جديدة لـ"الناتو" في استونيا، وألمانيا
تقود واحدة في ليتوانيا، كما تشارك المملكة المتحدة وألمانيا في القتال ضد "داعش"
في سوريا والعراق؛ حيث يقوم سلاح الجو
الملكي يقوم بتسيير مهام القصف، وبينما تقوم ألمانيا بتزويد طائرات استطلاع،
وتدريب في العراق.(4)
3-
المهادنة البريطانية؛ ترغب "ماي" في كسب ود القيادة
السياسة الأوروبية خاصة فيما يتعلق بمفاوضات الخروج من الاتحاد التي تواجه موقفًا
صارمًا من قبل ألمانيا وفرنسا الضامن التقليدي للأمن الأوروبي. لذا تسعى "ماي"
إلى التأكيد على مساهمة بريطانيا في الأمن الأوروبي للحصول على حسن نوايا بين
شركائها الأوروبيين الـ27 وسط مخاوف من أن مفاوضات قد تكون صعبة للغاية وربما
تنهار.(5)
4-
مكافحة الإرهاب؛ لا يزال الإرهاب يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن
الأوروبي، ومن المتوقع أن تتعرض العواصم الأوروبية لبعض الهجمات الإرهابية في
المستقبل، لذا يرغب الطرفين في التصدي لظاهرة الإرهاب العابر للحدود الذي تعاني
منه دول الاتحاد الأوروبي. تمثل بشكل جلي في إعلان تسع دول أوروبية عن وقوع 205
عملية إرهابية في عام 2017 لتمثل زيادة بنسبة 45٪ مقارنة بعام 2016 وبشكل عام، شكلت
الهجمات العرقية القومية والانفصالية نسبة أكبر (137) من الهجمات. علاوة على أن أكثر
من نصف هذه (88) كانت حوادث متعلقة بالأمن في إيرلندا الشمالية.(6)
دوافع التقارب البريطاني الألماني
بالرغم من كون ألمانيا من أول الدول التي اتخذت موقفًا حادًا من البريكست، لإنها
ستتأثر من الناحية الاقتصادية والأمنية إلا أن المصلحة الأوروبية اقتضت تقارب
وجهات النظر بين البلدين نتيجة ما تواجه العواصم الأوروبية من أزمات متتالية،
علاوة على محاولة الجانبين ضمان وحماية الأمن الأوروبي خاصة فيما يتعلق بمستقبل
السياسة الدفاعية والأمنية المشتركة لدول الاتحاد الأوروبي، بالتزامن مع اقتراب
موعد خروج بريطانيا من الاتحاد، الأمر الذي دفع بريطانيا وباقي الدول إلى توثيق
العلاقات الأمنية والدفاعية للبقاء الاتحاد كتلة واحدة رغم البريكست وعليه فقد
تمثلت أبرز الدوافع على النحو التالي:
1-
تراجع الدعم الأميركي؛ تهديد الإدارة الأميركية منذ وصول
"دونالد ترامب" للساسة الأوروبيين بكونه سيتراجع عن حماية وضمان استقرار
الأوضاع الداخلية الأوروبية، مع انتقاده لبعض الدول مثل ألمانيا لكي تزيد من
معدلات الانفاق الخاصة بالدفاع والأمن.
2-
التصدي لموسكو؛ ترغب الدولتين في توثيق العلاقات الدفاعية لتصدى
للقدرات الدفاعية الروسية التي أصبحت تهدد الأمن الأوروبي من وجهة نظرهم خاصة في سياق
تنامي الاتهامات الأوروبية لموسكو بمحاولات التجسس واعتراض عمليات نقل الأقمار الصناعية
في الفضاء، علاوة على اتهامها من قبل هولندا بمحاولة شن هجمات إلكترونية على عدد من
المؤسسات الدولية.
3-
تراجع التشدد البريطاني؛ انتهجت بريطانيا سياسة صارمة تجاه أي مقترح
لتعزيز الأمن الأوروبي خارج سياق "الناتو"، إلا أن الأوضاع قد تغيرت بشكل ملحوظ مع دخول
بريطانيا في مفاوضات الخروج؛ حيث أعلن الاتحاد الأوروبي عن مقترح لإنشاء جيش
أوروبي موحد، قائم على المقدرات الأوروبية دون أن يتعارض مع مهام حلف "الناتو"،
بدون اعتراض من بريطانيا.
4-
تنامي نزاعات في الشرق الأوسط؛ أسفرت الأوضاع غير المستقرة في المنطقة إلى
تزايد موجات الهجرة واللجوء إلى الدول الأوروبية، وكانت ألمانيا محط أنظار العدد
الأكبر منهم، فضلاً عن تعرضهم لبعض الهجمات الإرهابية.
لذا فقد فرضت
هذه الدوافع على الأوروبيين الدفاع عن أراضيهم في وقت واحد وإدارة أزماتهم
الداخلية، تفاديًا للتداعيات السلبية لخروج بريطانيا من الاتحاد، لكونها أقوى قوة عسكرية
نووية أوروبية في الناتو.
جدلية الأمن الأوروبي منذ التصويت على
البريكست
منذ التصويت على البريكست، التزمت حكومات الاتحاد الـ 27 المتبقية بتحسين أداء
سياسات الاتحاد الأوروبي الأمنية والدفاعية. كما حاولت بعض الدول اقتراح مبادرات
خاصة بتعزيز التعاون في سياق الاتحاد الأوروبي خاصة وأن لندن لن تعوق هذه التحركات
مرة ثانية، ولن تستخدم حق النقض ضد أي تشكيل عسكري أوروبي.
وفي هذا الصدد لابد من التأكيد على نقطة مهمة وهو الصراع الدائم بين
بريطانيا الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا الضامن التقليدي
للأمن الأوروبي وألمانيا الشريك الأوروبي القوى الذي يعاني من بعض التحديات الخاصة
في قواتها العسكرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا السياق؛ وبموافقة المملكة المتحدة (التي تحتفظ بحق النقض حتى تغادر
الاتحاد)، على خطط تطوير القدرات الدفاعية، والتخطيط العملياتي، والبحوث العسكرية في
قمة 15 ديسمبر 2016. إلا أن هناك اختلاف في الثقافة الاستراتيجية بين فرنسا
وألمانيا بالرغم من توافقهم حول إدارة ملف الدفاع والأمن الأوروبي. فألمانيا مازالت مترددة في نشر قواتها العسكرية
خارج حدودها، فضلًا عن رغبتها في التعاون في إطار تحالفات أمنية ودفاعية.
في المقابل ترى فرنسا نفسها الضامن
التقليدي بصفتها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ومن الدول
النووية الكبرى لذا فهي مستعدة للتصرف من جانب واحد إذا لزم الأمر؛ حيث تنظر باريس
إلى العمل العسكري عبر الاتحاد الأوروبي كخيار مهم للأمن الأوروبي في وقت الأزمات.
وعليه؛ تكمن المشكلة بالنسبة لفرنسا في أنها ظلت عالقة في وسط تردد ألمانيا في استخدام القوة العسكرية القوية في الخارج وممانع المملكة المتحدة في التحرك عسكريا عبر الاتحاد الأوروبي.(7)
الهوامش:
1- راغدة بهنام، "بريطانيا تستعد للخروج من الاتحاد
باتفاقات ثنائية أوروبية"، الشرق الأوسط، 7/10/2018:
http://cutt.us/P5lsZ
2-
Alexandra Brzozowski, "With Brexit
looming, Germany and Britain ramp up defence cooperation", EURACTIV,
8/10/2018: https://www.euractiv.com/section/defence-and-security/news/with-brexit-looming-germany-and-britain-ramp-up-defence-cooperation/
3-
George Allison,
"UK to retain military forces in Germany", UK Defence Journal,
1/10/2018: https://ukdefencejournal.org.uk/uk-to-retain-military-forces-in-germany/ George
Alison, Stefan Wagstyl, "Britain and Germany set to
sign defence co-operation deal", The Financial Times, 19/3/2017: https://www.ft.com/content/2deb3c7c-0ca7-11e7-b030-768954394623
4-
Stefan Wagsty,
Ibid.
5-
"TERRORIST
THREAT IN THE EU REMAINS HIGH DESPITE THE DECLINE OF IS IN IRAQ AND
SYRIA", Europol, 20/6/2018: https://www.europol.europa.eu/newsroom/news/terrorist-threat-in-eu-remains-high-despite-decline-of-in-iraq-and-syria