الآليات والنماذج: سياسة العقوبات في الاستراتيجية الأمريكية
ترتبط
سياسة العقوبات الدولية بشكل رئيسي بالسياسة التي تفرضها دول أو كيان مؤسسي إذا ما أدركوا
وجود تهديد وخطر، لتكون بمثابة وسيلة من وسائل تحقيق غايات السياسة الخارجية لدولة
ما أو مجموعة من الدول، كما أنها أداة مهمة لتحقيق أهدافها الخارجية؛ حيث تعد
العقوبات الاقتصادية إحدى أدوات السياسة الدولية ومن أهم أنواع السياسات التي
تمارسها القوى الكبرى سياسيًا واقتصاديًا، لأنها بدورها تتحكم في التأثير على
العديد من الأنظمة السياسية التي ترتبط معها بمصالح مشتركة.
وفي هذا
الإطار تتبني الإدارة الأمريكية بقيادة "دونالد ترامب" العقوبات كإحدى
أدوات سياساتها الاقتصادية، وهي من أهم أنواع السياسات التي تندرج في إطار
السياسات الدولية الردعية الهادفة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية محددة،
من خلال ممارسة الضغط على الدول المستهدفة بالعقوبات بهدف تغيير مواقفها في الاتجاه
الذي تريده الدولة التي تفرضها؛ حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على
العديد من الدول مثل روسيا، الصين، كوريا الشمالية، إيران وتركيا وقديمًا ليبيا
وكوبا.
أهداف العقوبات
الأمريكية
لا يمكن
تصور أهداف العقوبات الأمريكية دون تشريح مفهوم تلك العقوبات من وجهة نظر الإدارة
الأمريكية وحدودها وآلياتها، التي قد تتراوح بين نموذجين أحدهما قائم على الأدوات الاقتصادية الخالصة وبين الحرب
الاقتصادية التي قد يصاحبها أعمال عسكرية
والتي تعد أعمال عسكرية أكثر من كونها عقوبات اقتصادية الهدف منها التسبب في أكبر
قدر من التدمير بالبنية التحتية والقدرات الإنتاجية للدول المستهدفة.
في
الحالة الأمريكية يمكن القول بأن العقوبات الاقتصادية لم تكن مقرونة بالضرورة بالحروب
العسكرية والحصار العسكري بل في مجمله بل إنها تسير في اتجاهين الأول في العقوبات
الاقتصادية المباشرة بمفردها، أو الاتجاه التصعيدي المتمثل في فرض العقوبات كمرحلة
أولية تمهيدًا للدخول العسكري كما هو في حالة العراق، إلا أن هذا السلوك لم يكن
مشاع في استراتيجية الولايات المتحدة على مرور الزمن.
كما أن
هناك العديد من الدلالات التي تدفع الولايات المتحدة لتبني خيار العقوبات
الاقتصادية بخياريها وفق مدى تأثر اقتصاد
الدول المفروض عليها العقوبة سلبًا ويتفاوت التأثير حسب طبيعة العقوبة، على سبيل
المثال تأثرت إيران بالعقوبات الاقتصادية
المفروضة عليها من جانب واشنطن عقب الانسحاب من الاتفاق النووي وكذلك قبل توقيعه،
وفي نفس السياق تأثرت تركيا بالعقوبات الأمريكية المفروضة عليها مما أدى إلى تراجع
قيمة أمام العملة التركية (الليرة)، أمام الدولار.(1)
وفيما يلي
أهم أهداف الولايات المتحدة من العقوبات الاقتصادية:
1) الضغط على الدول المستهدفة وزيادة الاحتجاجات
المحلية لتغيير النظام، عن طريق زعزعة الاستقرار المحلي، كما فعلت مع ليبيا في عام
1978، ونظام كوبا بقيادة فيدل كاسترو، ونظام إيران الإسلامي منذ عام 1979.
2) قد تكون العقوبات الاقتصادية كإجراء
احترازي لمنع استخدام القوة العسكرية والتي قد تنجح أحيانًا، عوضًا عن منع الدول
المستهدفة من تطوير قدرتها العسكرية التقليدية أو غير التقليدية، مثل العراق
وإيران وليبيا وكوريا الشمالية.
3) العمل على تغيير سياسة الدولة
المستهدفة سواء على المستوى القريب أو المتوسط، والذي يستوجب استراتيجية مكثفة
للحيلولة دون تطور الموقف لأعمال عدائية.
وفق تلك الأهداف برز سلاح العقوبات
الاقتصادية في السياسة الخارجية الأمريكية بعد نجاح دونالد ترامب في الفوز
بالانتخابات الأمريكية الأخيرة، ووفق تلك الأهداف فإن الولايات المتحدة تستخدم في
توجهاها الخارجية سلاح العقوبات الاقتصادية كبديل عن التدخل العسكري المباشر أو
الدخول في صدامات عسكرية مع العديد من دول العالم، خاصة وأن هناك الكثير منهم
يمتلك قوة عسكرية تقليدية وغير تقليدية
متطورة.
استراتيجية العقوبات
إن
استخدام الولايات المتحدة لسلاح العقوبات الاقتصادية يكون وفق العديد من الآليات
مثل المقاطعة الاقتصادية، التي تُستخدم من قبل واشنطن، فخلال الفترة من 1979 –
1980، طبقت الولايات المتحدة المقاطعة الاقتصادية ضد طهران، على إثر احتجاز عدد من
الموظفين الدبلوماسيين والقنصليين في السفارة الأمريكية في طهران.
في حين
منعت واشنطن تحويل الأموال من وإلى إيران واستهدف القانون الأمريكي عام 2010 وقف إمداد
الوقود الإيراني ونص على اتخاذ إجراءات ردع على المجموعات الأجنبية التي تستثمر في قطاع النفط الإيراني، وتبنى قانون جديد للكونجرس
الأمريكي فرض عقوبات جديدة ضد إيران وشدد ترامب العقوبات ضدها لاستمرار جهودها في توسيع
برنامجها الصاروخي.
كما
تستخدم الولايات المتحدة سياسة الحظر الاقتصادي كما تفعل مع الصين فيما يتعلق ببعض
المنتجات الصناعية والتكنولوجية؛ حيث حظرت الولايات المتحدة على الشركات الأمريكية
بيع معدات اتصالات إلى شركة "زد تي إي"، بعدما وردت الشركة الصينية معدات
بشكل غير مشروع إلى إيران وكوريا الشمالية، كما فرضت رسوم جمركية على مئات المنتجات القادمة من الصين ووضع
قيود على استثمارات الشركات الصينية بالولايات المتحدة.
فيما فرضت أيضًا حظرًا اقتصاديًا
على كوبا بدأ عام 1959 عقب الثورة الكوبية، حتى عام 2016، على خلفية اتهامات بدعم
الجماعات الإرهابية.(2)
في نفس
السياق بدأت أولى عقوبات الولايات المتحدة
ضد روسيا إبان عصر الاتحاد السوفيتى ، وتلا ذلك عقوبات عام 2012 ضد مسئولين روس اتهمتهم
بممارسة انتهاكات لحقوق الإنسان، ثم تبع ذلك
فرض عقوبات جديدة على ما يخص الاقتصاد الروسي إبان الأزمة الاوكرانية؛
حيث اتهمت واشنطن موسكو بدعم الانفصاليين
في شرق أوكرانيا ونشر جنود لها في داخل البلاد، والتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى وانتهاكات حقوق
الإنسان، إن الولايات المتحدة بدأت فرض العقوبات
على روسيا في إطار قانون "مواجهة أعداء أمريكا"، و
صعدت الولايات المتحدة من ضغوطاتها على
روسيا من خلال فرض أشد حزمة عقوبات عليها في خطوة ترمي إلى اضعافها داخليًا وخارجيًا
وكذلك دعم مصالح الشركات الأمريكية في الأسواق العالمية، بخاصة الطاقة والأسلحة.
إن التوسيع
الجديد للعقوبات الأمريكية ضد روسيا شمل 7 رجال أعمال كبار و17 مسؤوًلا رفيعا ما يعرف
بـ"قائمة الكرملين" و15 شركة ومؤسسة، بما فيها "روس أوبورون أكسبورت"
الحكومية الرئيسة والوحيدة لتصدير الأسلحة إلى الخارج، والتي تدير 85 في المئة من صادرات
الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية والتي بلغت حصيلة مبيعاتها سنة 2017 ما يزيد عن
15.3 مليار دولار وشكلت تهديدًا كبيرًا على صادرات الاسلحة الأمريكية.
بالنسبة
لكوريا الشمالية تم إنشاء قائمة سوداء تخص
الأشخاص أو الكيانات التي تهدف لدعم برنامج كوريا الشمالية، وحاولت أمريكا فرض أي حظر
يساعد على تطوير البرنامج بفرض تفتيش منظم على الشحنات الصادرة والواردة منها ومنع
تصدير الفحم والحديد ما لم يتبين أن عائداتها تخص
تأمين الطعام لسكان كوريا الشمالية، وفرضت مجموعة إجراءات جديدة ضد كوريا الشمالية لحظر الصادرات وفرض قيود على الاستثمار داخلها،
ونجحت الولايات المتحدة الامريكية في منع الصين من استيراد الفحم منها.
هل حققت العقوبات أهدافها؟
تأتي
العقوبات الأمريكية كأحد أهم الآليات التي توليها واشنطن أهمية كبرى في
استراتيجيتها الخارجية، ليس فقط ملمح في سياستها الخارجية بل أيضًا يشمل ملمح آخر
داخلي متعلق بسياسة الحمائية التجارية التي
أعلن عنها الرئيس ترامب في سياساته الداخلية، ومن بين التهديدات
وربما كان أهم تلك التهديدات،من حيث الجوهر وخطة العمل شبه المعلنة، هو ما تمثله نيات،وخطط،وسياسات الرئيس
الأمريكي حول النظام التجاري الدولي القائم،منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد عبر ترامب في العديد من خطاباته،في أثناء حملته الانتخابية،عن عدم رضاه عن الاتفاقات التجارية الدولية التي تشارك فيها
بلاده بعدّها اتفاقات مجحفة بحق الولايات المتحدة؛ حيث تتسم المنافسة التجارية بعدم
العدالة، ويلجأ الكثير من الدول إلى
التحايل لتحقق فائضًا تجاريًا مع بلاده، لتضر بالاقتصاد الأمريكي، وتعيق نمو وازدهاره.
علاوة على معاناة الولايات المتحدة عجزًا ضخمًا في ميزانها التجاري، فإن هذه التجارة
غير العادلة تسلب أيضًا الملايين من فرص
العمل التي كان ينبغي توفيرها للأمريكيين.(3)
إن الإجراءات الأمريكية المتعلقة بالعقوبات كانت ولازالت محدد أساسي سواء في علاقاتها السياسية أو في مواجهة الضغوط الاقتصادية الداخلية، هذا يمكن تفسيره من خلال أن الرجل الأول في الإدارة الأمريكية في الأساس رجل أعمال وملياردير أمريكي، ومن خلال استراتيجية الصفقة يحاول ترامب إدارة ملفاته الداخلية والخارجية، وعلى الرغم من نجاح بعض من هذه السياسات إلا أنها تهدد بتفجير نظام التجارة الدولية،الذي تم تدشينه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية. والواقع أنه في الظروف الراهنة،هناك ما قد يشبه الظروف الاقتصادية والتجارية،التي شهدها العالم خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، والتي يري البعض أنها كانت من الدوافع الرئيسية وراء ظهور الفاشية والنازية،وانتصارهما في أوروبا، وكانت من ثم من أكبر الدوافع وراء اندلاع الحرب العالمية الثانية، حيث جرت تسوية الصراعات والخلافات الكبرى بالنار والدم.
الهوامش:
(1) قاسم أبو دست، سياسة العقوبات الاقتصادية الدولية ونتائج
التطبيق في الحالة الإيرانية، مجلة النهضة، المجلد الرابع عشر، العدد الثاني،
أبريل 2013، على الرابط:
(2) رانيا
فزاع، ما هي العقوبات الاقتصادية ومن يطبقها.. وكيف تؤثر على اقتصاديات الدول المطبقة
عليها، اليوم السابع، بتاريخ 08 سبتمبر 2017، على الرابط: https://platform.almanhal.com/Reader/2/55973
(3) مجدي صبحي، الحمائية وتصاعد
القومية الاقتصادية، السياسة الدولية، العدد 208، أبريل 2017، على الرابط: