عقوبات متجددة: أي مصير ينتظر العلاقات الأوروبية الروسية؟
مع تغير النظام العالمي وسعي القيادة الروسية لاستعادة
المكانة باعتبارها فاعل دولي محوري في كافة القضايا العالمية بدأت الدول الغربية
بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي بالتحالف معًا للتصدي للطموح
الروسي للرئيس "فلاديمير بوتين" والمرتكز على القومية الوطنية للدولة
الروسية.
وعليه؛ فقد أولى
"بوتين" أهمية استراتيجية لعمقه الجغرافي ومحيطه الإقليمي، تمثل ذلك في
تدخله في الأزمة الأوكرانية باعتباره فاعل دولي مهم في إداراتها لأنها تأثر بشكل كبير
على الأمن القومي الروسي، علاوة على ضم شبه جزيرة القرم لتكون جزءًا من الأراضي
الروسية الأمر الذي رفضه الغرب بشدة معتبرين ذلك تهديدًا للأمن الأوروبي ليس هذا
فحسب بل للأمن والسلم العالمي.
عقوبات جديدة على "كيرتش ستريت"
اتخذت الدول الغربية بتعاون مع واشنطن عددًا من الإجراءات
الرادعة للتحركات الخارجية لموسكو تجسدت في فرض عقوبات اقتصادية في يوليو/ تموز
2014، وتم تفعيل العقوبات بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وشركاء
آخرين، للضغط على موسكو للتراجع عن سياساتها المعادية من وجهة نظر الغرب لمصالحهم
الاستراتيجية.
تجلت في تجميد الاتحاد
الاوروبي أرصدة ست شركات روسية لمشاركتها في بناء جسر جديد للطرق والسكك الحديدية يربط
بين روسيا وشبه جزيرة القرم؛ حيث أمر الكرملين ببناء الجسر "كيرتش
ستريت" في 2016 بقيمة 3.6 مليار دولار، ويبلغ طوله 19 كم، ويمتد فوق مضيق كيرتش
الواصل بين بحري آزوف والأسود، واستغرق تشييده 27 شهرًا(1).
وشملت لائحة العقوبات الأوروبية الجديدة ضد روسيا شركة
"ستروي غاز مونتاج موست"، والشركة الهندسية "فاد"، ومصنع بناء
السفن "زاليف"، وشركة "موستوترست"، و"غيبرستروي موست"،
ومجموعة "ستروي غاز مونتاج"، وجميعها شركات شاركت في بناء جسر القرم.
الموقف الروسي
جاء الرد الروسي متوازنًا ومدركًا السبب الحقيقي لهذا
العقوبات، وهو تطويق النفود الروسي في عمقه الاستراتيجي، فلم تكن دول الاتحاد
الأوروبي على وافق مع التوجهات الخارجية للرئيس "بوتين" التي اعتبرتها
في بعض الأحيان مصدر تهديد مباشر للمصالح الأوروبية.
لذا فقد انتقدت موسكو العقوبات الأوروبية الجديدة التي
استهدفت الشركات المشاركة في عملية البناء باعتبارها استهدافًا واضحًا وتقويضًا
موجهًا ضد سكان القرم. والجدير بالذكر؛ بلغ عدد الكيانات التي فرض عليها عقوبات من
قبل مجلس الاتحاد الأوروبي44 كيانًا بالإضافة إلى ذلك، فرض الاتحاد الأوروبي حظرًا
على السفر وتجميد للأصول على 155 شخصًا بموجب نظام العقوبات.
و أوضحت وزارة الخارجية الروسية أن العقوبات الجديدة ما
هي إلا مبرر لتدخل آخر في الشئون الداخلية لروسيا. كما أعربت في بيان "أن
القرار الأوروبي الصادر في 30 تموز/ يوليو والقاضي بفرض عقوبات أحادية وغير مشروعة على عدد من الشركات الروسية التي
شاركت في بناء جسر القرم قرارًا مؤسفًا(2).
العقوبات الاقتصادية على موسكو
واجهت
موسكو منذ ضم القرم في 2014 عددًا من
العقوبات الاقتصادية المتزايدة التي كان من المقرر أن تفرض عليها خلال الفترة من
يوليو/ تموز 2014 وإلى يوليو/ تموز 2015 إلا أن الاتحاد الأوروبي قام بتمديدها إلى
يناير/ كانون الثاني 2016، فيما مددت واشنطن وكندا إلى أجل غير محدد. وهنا لابد من
الإشارة إلى أن العقوبات الاقتصادية انقسمت إلى ثلاث أنواع تبلورت على النحو
التالي:
1-
النوع الأول؛ يفرض على إمكانية الوصول إلى الأسواق والخدمات المالية الغربية
خاصة فيما يتعلق بالمؤسسات الحكومية في قطاعات الصرافة والدفاع.
2-
النوع
الثاني؛ وهو نظام خاص بفرض حظرًا على عملية تصدير
الأجهزة الخاصة بالتنقيب عن النفط إلى موسكو.
3-
النوع الثالث؛ فهو منوط بفرض حظرًا على الصادرات إلى موسكو من بضائع عسكرية
وبضائع ثنائية الاستخدام معينة.
وفي المقابل؛ قامت موسكو بالرد على هذه العقوبات بفرض
عقوبات على الواردات الغذائية من الدول الغربية ومن الملاحظ أن مسار العقوبات كان
بعيدًا عن الطاقة(3)؛ حيث امتنع الغرب عن استهدف قطاعات كاملة للاقتصاد الروسي، مما
أدى إلى إمكانية التعاون في قطاع الطاقة
مع الشركاء الغربيين(4).
"الغاز" سلاح روسيا تجاه أوروبا
تعد الطاقة أهم ركائز الاقتصاد الوطني والداعم للبنية
التحية الأوروبية، فبرغم من عدم التوافق الأوروبي مع موسكو في إدارة عدد من
الملفات الإقليمية والدولية إلا إنها مازالت شريكًا اقتصاديًا مهمًا يعول عليه في
تلبية احتياجات العواصم الأوروبية من الطاقة وخاصة من الغاز(5).
فيما تتزايد حاجة أوروبا إلى الغاز الطبيعي بشكل سريع –فعلى
سبيل المثال- ازاد استهلاك ألمانيا من 2014 إلى 2017 بنسبة 22 %، كما يتم تشغيل
80٪ من المنازل في لندن التي تصل عددها إلى ما يقرب من 25 مليونًا بالغاز، مما يعنى أن الغاز يلعب دورًا رئيسيًا في مزيج الطاقة داخل
العواصم الأوروبية.
في المقابل؛ تعد موسكو المورد الفعلي؛ حيث تزودها بنحو
40 % من حجم واردات دول الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي، وبناءً على ذلك بدأت
بتكثيف التعاون معهم من خلال زيادة واردات الغاز عبر تدشين خطوط نقل جديدة مثل إنشاء
خط أنابيب "نورد ستريم 2" لتوريد الغاز إلى ألمانيا وباقي الدول الأوروبية
عبر بحر البلطيق(6).
لذا فحتى الآن لا توجد استراتيجية أوروبية واضحة تجاه
سياسات موسكو الخارجية نتيجة عدم التوافق الأوروبي حول موسكو هل هي شريك اقتصادي
حقيقي أم عدو، فيما يزال البحث عن بديل يمكن أن يلبي احتياجاتهم من الطاقة.
التباين الأوروبي تجاه موسكو
يدرك الساسة في أوروبا مدى الفرص والتحديات التي ستنتج
عن استعادة موسكو لمكانتها في النظام العالمي كقوى عظمى بقيادة "فلاديمير
بوتين"، لذا تحاول التصدي لها بكل قوى؛ حيث تسيطر الذاكرة التاريخية لسياسات
الاتحاد السوفيتي تجاه هذه الدول على توجهاتهم نحو موسكو وخاصة فيما يتعلق بهيمنة "بوتين"
على الطاقة كسلاح سياسي واقتصادي يتم استخدامه ضدهم فبرغم من العقوبات المفروضة
على موسكو إلا إنها استطاعت التحاليل عليها وتعاملت معها بكفاءة وفعالية.
وعليه فقد تجسد التباين الأوروبي بشكل واضح في تعاطي
الدول معها؛ حيث انتقدت
بولندا الاستمرار في الاستيراد الغاز من موسكو معربة عن
توقفها عن استيراده بحلول عام 2022. كذلك أعربت أوكرانيا ودول البلطيق عن معارضتها
للجسر الجديد الذي يربط بين القرم وموسكو، بجانب موقف فرنسا الداعم لاستمرار
العقوبات.
يأتي الموقف
الإيطالي على الصعيد الأخر ليوضح رئيس الوزراء الإيطالي إبان لقاءه مع الرئيس
الأميركي "دونالد ترامب" أن بلاده مهتمة بالحوار مع موسكو لضمان تحقيق نتائج
إيجابية على المدى البعيد، معربًا عن موقفه من العقوبات ورافضًا أن يمتد تأثيرها
إلى المجتمع المدني في روسيا واقتصاد المشاريع الصغيرة والمتوسطة، كما أوضح أن
العقوبات لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، علاوة على أن روما تدعم الاتصالات الاقتصادية
المكثفة مع روسيا(7).
كما تعرضت ألمانيا على زيادة العقوبات لإنها ستنعكس على
التعاون الاقتصادي مع موسكو إذ بلغت صادرات
برلين إلى موسكو 38 مليار يورو في عام 2013، فيما تعتمد برلين على أكثر من 30% من واردتها من الطاقة على موسكو.
ختامًا؛ مازالت العلاقات الأوروبية الروسية تشهد حالة من
الضبابية رغم توافقهم حول عدد من الملفات الدولية وخاصة فيما يتعلق بمحاربة
الإرهاب، إلا أن العلاقات بينهم تشهد حالة من توتر من آن إلى أخر نتيجة التوجهات
الروسية.
لذا فمن المحتمل أن تحدث انفراجه في العلاقات ولكن في شكل ثنائي خاصة في ظل ما تواجهه العواصم الأوروبية من تحديات وتهديدات غير تقليدية، علاوة على مطالبة بعض الدول الأوروبية فتح حوار مع موسكو باعتبارها شريكًا مهمًا في مواجهة البعض الأخر بقيادة فرنسا الداعمة لاستمرار العقوبات مع إمكانية فتح حوار سلمي مع موسكو، ولكن في سياق المصالح الأوروبية وتراجع الهيمنة الروسية.
المراجع:
1- " الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات
على شركات روسية بسبب أطول جسر في أوروبا"، روسيا اليوم، 31/7/2018.
2- " بقي
شهر على افتتاح جسر القرم، مضيق كيرتش، روسيا موسكو: العقوبات الأوروبية الجديدة بسبب
جسر "القرم" حجة للتدخل في شؤون روسيا"، سبوتنيك عربي،
31/7/2018.
3- " العقوبات بعد شبه جزيرة القرم: هل نجحت؟"، مجلة الناتو.
https://www.nato.int/docu/review/2015/Russia/sanctions-after-crimea-have-they-worked/AR/index.htm
4- "ما مدى تأثير العقوبات الأوروبية والأمريكية على روسيا؟"، هيئة الإذاعة البريطانية، 22/7/2014.
http://www.bbc.com/arabic/worldnews/2014/07/140722_eu_russia_sanctions
5- آية
عبدالعزيز، "تصعيد مبكر.. مآلات اغتيال «سكريبال» على العلاقات البريطانية الروسية"،
مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية، 5/4/2018.
6-
" هل يقوض أمن أوروبا اعتمادها على الغاز الروسي؟"، الشرق الأوسط،
4/8/2018.
7- " ترامب
يؤكد إبقاء العقوبات ضد روسيا وكونتي يدعو لوضع حد لها"، روسيا اليوم،
30/7/2018.