فرنسا وكأس العالم: هل تنعكس كرة القدم على ملف الهجرة؟
أصبح ملف الهجرة من
أكثر الملفات الشائكة التي تُثير توتراً في دول الاتحاد الأوروبي وفيما بينها خاصة
أن أولوياتها متضاربة رغم وجود هدف جماعي يتمثل في حماية الحدود الخارجية. هذا
التوتر ظهر في عدة لقاءات أوروبية آخرها قمة بروكسل التي عُقدت في يونيو الماضي،
واجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي بالنمسا في يوليو الجاري. هذا التناقض
لايمكن أن ينفي وجود توافق سائد على ضرورة تقليص أعداد المهاجرين إلى دول الاتحاد
الأوروبي، من خلال اتباع عدة وسائل تعكس سياسة التشدد إزاء المهاجرين والتي يؤيدها
اليمين المتطرف، ومن تلك الوسائل: منع تقديم طلبات اللجوء والهجرة إلى أوروبا.
وإقامة نقاط إنزال في أفريقيا للمهاجرين الذين يتم إنقاذهم في البحر المتوسط كي
يُمنع وصولهم إلى أوروبا.1
وفرنسا واحدة من تلك
الدول التي تمثل الهجرة أهم القضايا المطروحة على ساحتها، حيث تظل الهجرة دائمًا
حاضرة في النقاش العام الفرنسي، وإن كانت بدرجات متفاوتة الحدة، وتكون عادة مصدر
جدل حول السياسات المعتمدة تجاهها أو المواقف المعادية للمهاجرين التي تصدر عن
اليمين المتطرف، المعروف بآرائه المتشددة بشأن
قضية الهجرة واللجوء. ولكن كأس العالم الحالي المنعقد بروسيا أسهم في إظهار
إيجابيات الهجرة ودورها في صعود المنتخب الفرنسي إلى نهائي كأس العالم والذي يضم
سبعة عشر لاعبًا من أصول مهاجرة، وهو ما يجعلنا تسائل عما إذا كان صعود فرنسا
لنهائي كأس العالم سيسهم في تغيير الواقع الاجتماعي السياسي؟
واقع المهاجرين في فرنسا
بلغ عدد المهاجرين إلى
دول الاتحاد الأوروبي 4.3 مليون مهاجر، وقد جاءت فرنسا في المركز الرابع بعد كل من
ألمانيا والممكلة المتحدة وأسبانيا من حيث أعداد المهاجرين بها وفق إحصائيات
الاتحاد الأوروبي لعام 2016، حيث بلغ عدد المهاجرين بها 378.1 ألف مهاجر، 51% منهم
نساء، وهي السمة السائدة في كافة الدول الأوروبية، حيث ارتفعت أعداد المهاجرات
الإناث عن الذكور، كذلك جاءت في المركز الرابع بعد إيطاليا وأسبانيا والممكلة
المتحدة من حيث أعداد المهاجرين المطالبين بالحصول على الجنسية والبالغ عددهم 119.2
ألف مهاجر.2
صراع
اليمين والديمقراطيين حول الهجرة
تتعدد القضايا
الخلافية بين اليمين المتطرف واليسار "الديمقراطيين" والتي يأخذ كل
منهما موقفاً مغايراً تماماً للآخر. أبرز تلك القضايا الأمن الوطني، حيث يرى
اليمين أن الأمن هو أولوية تأتي قبل أي شئ كما يرى أن الإرهاب هو مصدر التهديد
الأكبر الذي تواجهه الدولة، في حين يرى الديمقراطيين أن هناك تهديدات أخرى غير
الإرهاب أكثر خطورة على الأمن منها التغير المناخي. ولهذا الرأي انعكاسات على
الموقف من قضية الهجرة؛ والتي يتخذ اليمين بصددها مواقف معادية، فيؤكد على ضرورة
فرض إجراءات صارمة لتقليل أو إلغاء حق اللجوء لدولهم نظرًا لأن اللاجئين هم السبب
في وجود الإرهاب الذي يزعزع استقرار الدولة وأمنها، وفي حال الاضطرار لاستقبال
اللاجئين فإنه يرفض أن يتم معاملتهم كمواطنين أصليين لهم حقوق مماثلة، وعلى النقيض
يرى الديمقراطيين ضرورة تقديم العون والمساعدة للمهاجرين والاجئين ومنحهم دعمًا في
مجال التعليم والصحة وفرص العمل وغيرها من الحقوق، كما طرح عدة آليات لتمكين
المهاجرين واللاجئين من الحصول على تلك المساعدات ومنها تقديم طلبات للجوء، وإنشاء
مراكز للهجرة. وتنعكس تلك الآراء بوضوح في عدة مواقف، منها على سبيل المثال تنديد أنصار اليمين المتطرف بسياسات ماكرون –الديمقراطي-
المتساهلة مع المهاجرين، فقد وعد في برنامجه الانتخابي بأن تصبح فرنسا مركزًا
جديدًا للمشروع الإنساني، كما تعهد في إحدى خطاباته العام الماضي بعد توليه المنصب
الرئاسي بتوفير مساكن لجميع المهاجرين الجدد إلى فرنسا كي لا يضطر أحد إلى البقاء
في الشوراع حسب تعبيره. هذه السياسات كانت السبب في نشوب حرب في مدينة كاليه بين
الأفغان والأكراد الذين يتنافسون على السيطرة على ميناء كاليه الذي يتخذه
المهاجرين معبرًا إلى بريطانيا، وهو ما عزز تصور أنصار اليمين المتطرف بأن السلطات
الفرنسية فقدت السيطرة على الوضع الأمني في البلاد.3 وهو ما كان أيضًا السبب وراء قيام
أعضاء من جماعة جيل الهوية المنتمية إلى اليمين المتطرف بإنشاء حدود رمزية على
جبال الألب لمنع تدفق المهاجرين إلى فرنسا، قائلين إن السبب وراء تصرفهم هو عدم
شجاعة السلطات العامة.4
تأثير
المهاجرين في المجتمع الفرنسي "فرص أم مخاطر"
كثيرًا ما يتم الترويج
إلى سلبيات الهجرة والمخاطر التي تمثلها على الدول والشعوب، فيرى الكثيرون أن
المهاجرين يُمثلون عبئًا اقتصاديًا ويسلبون الوظائف والمزايا الاجتماعية من
المواطنين الأصليين، أكد ذلك غالبية المبحوثين في استطلاع رأي قام به Pew research center،5 بالإضافة
إلى اعتبار البعض أن الهجرة هي السبب في انتشار الارهاب وزعزعة الأمن والاستقرار
في الدول المضيفة وكذلك فرنسا التي شهدت العديد من العمليات الإرهابية مؤخرًا زعم
البعض أن منفذوها هم إرهابيين مسلمين. بالإضافة إلى أن الهجرة تمثل تهديدًا للتماسك
الاجتماعي حيث تؤدي إلى تحول المجتمع من مجتمع موحد العرقية إلى مجتمع متعدد
الثقافات والعرقيات وهو ما يجعلها تواجه تحديات كثيرة لإدارة ذلك التعدد بطريقة
تمنع حدوث خلافات بين العرقيات المختلفة.
ولكن على
الجانب الآخر يوجد للهجرة عدة مزايا تمثل فرصًا جيدة لتحسين أوضاع الدول، فتُظهر
دراسة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، أن الهجرة تعود
بالفائدة على الدول المضيفة لأنها تُساهم بشكل كبير في التنمية الاقتصادية حيث
يُساهم المهاجرون أكثر في الضرائب والمساهمات الاجتماعية أكثر مما يتلقونه في المنافع
الفردية ، مما يعني أنهم يساهمون في تمويل البنية التحتية والإنفاق العام،6
وللاستفادة من أولئك المهاجرين يجب الإسراع في دمجهم في سوق العمل وليس إقصاهم.
صعود
فرنسا لنهائي كأس العالم ورؤية جديدة للهجرة: "سيناريوهات مستقبلية"
إن النتائج
الإيجابية التي حققها المنتخب الفرنسي في كأس العالم الحالي المنظم بروسيا، إثر
تأهلهم إلى نصف النهائي، أعاد الحديث مجددًا عن الهجرة والمهاجرين ودورهم الهام في
شتى القطاعات الفرنسية، وعلى رأسها كرة القدم. فمسجل هدف التأهل لنهائي كأس العالم أومتيتي صامويل هو فرنسي من أصل
كاميروني، هذا فضلًا عن وجود عدة لاعبين بارزين آخرين منحدرين من الهجرة على رأسهم
مبابي كيلاني الذي يلعب لنادي باريس سان جيرمان، وهو من أب كاميروني وأم جزائرية،
وهو أصغر لاعب في المنتخب الفرنسي، كذلك المدافع الاحتياطي من أصل مغربي عادل رامي.
وقد حاول الكثير من المغردين الفرنسيين على تويتر التعبير عن جدوى هذا التعدد
الثقافي والعرقي في المنتخب الفرنسي، وانعكاساته على إشعاع اسم فرنسا في العالم،
فخاطب أحد المواطنين الفرنسيين مارين لوبان زعيمة التجمع الوطني الممثل لتيار
اليمين المتطرف في فرنسا في تغريدة له قائلاً
"مساء الخير مارين لوبان...اشكري الهجرة التي أوصلت فرنسا إلى نهائي
كأس العالم".7
هذا التقدم الذي حققه
المنتخب الفرنسي يثير تساؤل حول مدى إمكانية إسهام صعود فرنسا لنهائي كأس العالم
أو فوزها به في تغيير الواقع السياسي الاجتماعي في فرنسا من خلال تغيير الرؤية
تجاه الهجرة، وهو ما يمكن الإجابة عنه من خلال سيناريوهين:
السيناريو الأول: أن يقدم صعود فرنسا
رؤية مغايرة للهجرة عن تلك التي يقدمها اليمين المتطرف، هذا السيناريو يؤيده عدة
كتاب وخبراء منهم آفشين مولافي السياسي الأمريكي الذي أكد أن هذا الحدث سيمثل تحديًا وتهديدًا
لليمين المتطرف في الدول الأوروبية بشكل عام،8 والذي يستغل قضية الهجرة واللجوء
لتحقيق أهداف انتخابية وللوصول إلى السلطة مثلما استخدمتها مارين لوبان في حملتها
الانتخابية في فرنسا العام الماضي،9 وكذلك إيان ليفين، المدير التنفيذي للبرامج في
منظمة هيومن رايتس ووتش، الذي رأى أن التنوع العرقي لدي المنتخبات الأوروبية بشكل
عام والمتخب الفرنسي بشكل خاص يقدم رؤية للعالم مختلفة عن تلك التي يروج لها
الزعماء السياسيية المعاديين للأجانب في خطاباتهم،10 الزاعمة بأن الهجرة تهدد
الأمن القومي وتكون السبب الرئيسي لانتشار الارهاب والجريمة أو التحلل الثقافي في
أوروبا ، كما أنها السبب في الأزمات الاقتصادية التي تُعاني منها أوروبا وذلك
لإذكاء المخاوف من الآخر أي المهاجرين واللاجئين، بل على النقيض يمكن أن يسهم هذا
الحدث في إظهار الجوانب الإيجابية للهجرة.
السيناريو الثاني: ألا يُحدث صعود فرنسا للنهائي أي
تغيير في ملف الهجرة، وذلك سيكون بسبب الضغوط الخارجية التي ستواجهها فرنسا من قبل
زعماء الدول الآخرى الممثلين لليمين المتطرف مثل إيطاليا التي هددت فرنسا بأنها
ستصبح عدوها الأول في حالة استمرار مساعدتها للمهاجرين واللاجئين ودعمها لهم.11
كما لا يمكن تجاهل تأثير الهجرة على الاتحاد الأوروبي حيث كانت السبب في خروج
بريطانيا منه وتلويح دول أخرى بالخروج أيضًا في حال تفاقم أزمة الهجرة بها
واستمرار الاتحاد في دعم المهاجرين، هذا التفكك الذي قد يشهده الاتحاد الأوروبي قد
يدفع أكثر الحكومات دعمًا للمهاجرين إلى اتخاذ سياسيات معادية لهم تفادياً للمخاطر
الجسيمة التي ستقع على عاتقها حال تفكك الاتحاد. كذلك قد تواجه ضغوطًا داخلية من
قبل تيار اليمين المتطرف بفرنسا والذين قاموا بعدة ممارسات مناهضة لسياسات الحكومة
الداعمة للمهاجرين، مثل التي قامت بها جماعة جيل الهوية.
رغم وجود صعوبة في ترجيح حدوث أحد السيناريوهات المطروحة عن الآخر، إلا إن لا يمكن تجاهل دور الرياضة بشكل عام في تعزيز السلام والتكامل بين الدول وتسهم في إنهاء الصراعات مثلما حدث في العلاقات الصينية الأمريكية، حيث ساهمت رياضة البنج بونج في تعزيز العلاقات بينهما عام 1971 فيما عرف بدبلوماسية البنج بونج، وكذلك تطوير العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية من خلال الاستضافة المشتركة للبلدين لكأس العالم 2002، وتعزيز العلاقات الصينية اليابانية بعد قيام هو جينتاو رئيس الصين السابق بخوض مباراة تنس طاولة في جامعة أوكوما اليابانية.12 مثلما أدت الرياضة إلى حل الخلافات بين الدول من المؤكد أنها ستكون سببًا أيضًا في حل قضية الهجرة بتقديمها رؤية للعالم مفادها أن الهجرة لها جوانب إيجابية عدة ليس كما يدعي أنصار اليمين المتطرف، فهي كانت السبب في وصول فرنسا إلى نهائي كأس العالم ويكون لها الفضل أيضًا في حالة حصولها عليه، ومثلما تحقق تطورًا لتلك الدول في قطاع الرياضة فمن المؤكد أنها تحققه في قطاعات أخرى.
المراجع
1- "وزراء داخلية دول الاتحاد الأوروبي يبحثون مجددا
ملف الهجرة في اجتماع بالنمسا"، فرانس 24، 12 يوليو 2018، متاح
على الرابط التالي: https://bit.ly/2L5xGMl.
2 " Migration and migrant population
statistics”, Eurostate, March 2018, available on: https://bit.ly/1BKrFtc.
3 Soeren Kern, “France: Migrant Crisis Spirals Out of
Control”, Gatestone institute, 6 February 2018, available on: https://bit.ly/2uiaVev.
4 أحمد علوي، " جماعة يمينية
فرنسية تشكل "حدود رمزية" على جبال الألب لمنع دخول المهاجرين"، اليوم
السابع، 23 إبريل 2018، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/2zCyaVD.
5 Richard Wike, Bruce Stokes and Katie Simmons,
“Europeans Fear Wave of Refugees Will Mean More Terrorism, Fewer Jobs”, Pew
research center, 11 July 2016, available on: https://pewrsr.ch/29zB5wK.
7 بوعلام
غبشي، " مونديال:
لاعبون من أصول مهاجرة يرسمون الأفراح على وجوه جماهير الكرة الفرنسية"، مهاجر
نيوز، 12 يوليو 2018، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/2KV0AiI.
8 Afshin molavi, “What France and Belgium’s World Cup
success says about European immigration”, Washington post, 6 July
2018, available on: https://wapo.st/2NO2HCV.
9 أحمد علوي، " الإرهاب والإسلاموفوبيا كروت لوبان المستخدمة للوصول إلى
الإليزيه.. زعيمة اليمين تتعهد بالسيطرة على الحدود وهدم المساجد السلفية فى فرنسا
وتؤكد: سأجعل الإسلاميين الأصوليين يخضعون على ركبهم"، اليوم السابع،
6 أبريل 2017، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/2KTD4TA.
10 Iain Levin, “Europe’s World Cup Celebrates Diversity”,
Human Rights watch, 9 July 2018, available on: https://bit.ly/2KVSk1q.
11 " إيطاليا: فرنسا "المتغطرسة" قد تصبح العدو
الأول في قضية الهجرة"، سبوتنك نيوز، 23 يونيو 2018، متاح على
الرابط التالي: https://bit.ly/2Ng9aWn.
12 أحمد طاهر، "الرياضة والعلاقات الدولية
أداة للتقارب أم للصراع؟"، المجلة، 15 يونيو 2018، متاح على الرابط
التالي: