تهدئة حذرة: جهود المصالحة الوطنية في جنوب السودان
تشهد دولة جنوب السودان
حالة من التهدئة الحذرة على غرار إعلان اتفاق السلام الذي تم بين الحكومة الوطنية
والمعارضة بعد سنوات من الاصضراب الداخلي التي شهدتها الدولة الوليدة منذ انفضالها
بشكل رسمي في 2011، علاوة على ما واجهته من حراك سياسي مضطرب في ديسمبر / كانون الأول
2013، عندما اتّهم الرئيس "سلفا كير" نائبه "أيار مشار" بالتخطيط
للانقلاب عليه نتيجة إعلانه الرغبة في الترشح؛ وعليه فقد تنامت النزاعات والصراعات
الداخلية التي أودت بحياة الآلاف من شعب جوبا، وتشريد ما يقرب من أربعة ملايين.
لذا يمثل الاتفاق بين رئيس
"كير" مع زعيم المعارضة "مشار" يوم 27 يونيو/ حزيران 2018 على
وقف إطلاق النار، فرصة ثانية لعودة الاستقرار لجوبا، وتمهيدًا للتوصل إلى اتفاق
سلام بين الجانبين لإنهاء حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تشهده البلاد منذ 2011،
الذي بموجبه سيتم إعادة النظر في الترتيبات الأمنية داخل الدولة لبناء قوات وطنية
من الجيش والشرطة بعيدًا عن النزعات الإثنية أو القبلية، فضلاً عن تشكيل حكومة
انتقالية خلال 4 شهور، تحكم البلاد لمدة ثلاث سنوات، وخلال تلك الفترة التي تمثل
مرحلة انتقالية سيتم خلالها الاستعداد لإجراء انتخابات عامة يشارك فيهاجميع القوى
السياسية الداخلية دون استثناء.
كما وقع الجانبين ما يعرف
باسم "إعلان الخرطوم" في العاصمة السودانية "الخرطوم" بحضور الرئيس
السوداني "عمر البشير"؛ القاضي بترتيب وقف إطلاق النار، علاوة على فصل القوات
القريبة من بعضها، وسحب جميع قوات الأجنبية الموالية للقوى المتصارعة، و وفك الاشتباك،
مع فتح ممرات إنسانية للتعامل مع الحالات الطارئة، والإفراج عن أسرى الحرب والمعتقلين
السياسيين. كما سيسمح الاتفاق بنشر عناصر من الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا
(إيجاد) لمراقبة وقف إطلاق النار(1).
المشهد الداخلي:
جاء هذا الاتفاق كبادرة
أمل لتهدئة الأوضاع الداخلية في دولة جنوب السودان التي عانت من حالة من الفوضى
وعدم الاستقرار منذ انفصالها عن دولة السودان، نتيجة تنامي الولاءات الفرعية على
حساب الولاء للدولة الوطنية جاءت أبز تجليات هذا الصراع بين الحكومة وقوات
المعارضة، عليه بدأت قوات ومليشيات جديدة في الصعود مثل "جبهة الإنقاذ الوطني"
بقيادة النائب السابق لرئيس الأركان، مما أدى إلى تنامي الفاعلين من غير الدول
وانتشار العنف والإرهاب الأمر الذي انعكس بشكل كبير على الداخل على النحو التالي:
1)
انتهاك حقوق الإنسان؛ قامت القوات المتحاربة بانتهاكات في مجال الحقوق
والحريات بما يتجاوز قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان، تجسدت في استهداف
المدنيين على أساس عنصري أو وفقًا للولاءات السياسية، بالإضافة إلى انتشار عمليات النهب
والتدمير للمؤسسات العامة.
2)
الحرب
بالوكالة؛ سعت الأطراف الداخلية باستعانة ببعض القوى العسكرية
غير الرسمية للمواجهة في الصراع الدائر تمثل في مساعدة ميليشيات "دينكا بادانغ"
للقوات الحكومية لشن هجمات متتالية على الأراضي التي تحتلها قوات "الشيلك"
المعارضة في الضفة الغربية للنيل الأبيض. فضلًا عن مهاجمة بعض المدن والقرى، كما أواد
القتال في المنطقة الاستوائية إلى مقتل العشرات من المدنيين.
3)
انهيار الأمن الإنساني؛ ساهمت بيئة الحرب إلى تقويض العاملون في مجال الإنساني
في التصدي لسد الاحتياجات الشعب من الغذاء والأدوية وإيواء بعض حالات الطوارئ، مما
أدى إلى انتشار المجاعات في بعض المناطق، بالإضافة إلى معاناة ما يقرب من 4.8 مليون
شخص، أي نصف عدد السكان تقريباً، من سوء الأوضاع الإنسانية والاجتماعية. بجانب
الإجراءات التعسفية التي فرضتها الحكومة على الأقاليم الاستوائية للسيطرة على
الأهالي.
4)
تنامي أعداد النازحين؛ مع تزايد حدة
العنف والنزاع بين الأطراف الداخلية في ديسمبر/ كانون الأول 2013، فقد نزح أكثر من
3.9 مليون شخص، منهم 1.9 مليون منهم نازح داخلي،
فضلاً عن لجوء أكثر من 200 ألف شخص للعيش في مراكز خاصة بالأمم المتحدة تحت حماية أفراد
حفظ السلام التابعين للبعثة. فيما نزح خلال عام 2017 أكثر من 640 ألف شخص خارج
أراضي جنوب السودان، وعليه فقد بلغ عدد اللاجئين من جنوب السودان إلى أكثر من 2 مليون
لاجئ(2).
تفاهمات هشة
لم يكن اتفاق وقف إطلاق
النار جديدًا على الفرقاء السودانيين ولكنه جاء في سياق الجهود تسوية الأوضاع الداخلية
فقد سبقه اتفاق السلام في 2015 بين الرئيس "كير" ونائبه "مشار"
لمنح منصب نائب الرئيس لزعيم المعارضة المسلحة، وتشكيل لجنة للمصالحة ومحكمة لجرائم
الحرب بالتعاون مع الاتحاد الإفريقى، تمهيدًا لإجراء الانتخابات العامة فى عام
2018.
في المقابل تغادر جميع القوات الأجنبية المشاركة
فى الحرب، وإخلاء جوبا من قوات العناصر المتصارعة، وإعادة النظر في عملية التسوية
السياسية بشكل سلمي بما يضمن التقاسم العادل للسلطة بين الحكومة والمعارضة. كما
تتطرق الاتفاق إلى وضع آلية مراقبة لمتابعة وتقييم مسارات التنفيذ.
وفي هذا الإطار؛ لم تستقر
الأوضاع نتيجة تجدد الاشتباكات بين الجانبين، نتيجة عدم الثقة بينهم تجلت في استمرار
بقاء جيشين، وشرطتين وجهازين أمنيين، فى دولة واحدة، أحدهما تابع للقوات الحكومية
والأخر للمعارضة، مع تزايد انتشار السلاح والنزاعات القبلي، الأمر الذي شكل هيكل
جديد للدولة الناشئة بعيدًا عن محددات الاستقرار السياسي والتعايش السلمي لشعبها.
أسفر المشهد السياسي في طياته عوامل الانهيار .
بجانب انشقاق بعض القيادات
العسكرية والمدنية من "الجيش الشعبى"، مثل "بول ملونق" رئيس الأركان
الجنرال وإعلانه تشكيل "السودان المتحدة" باعتبارها جبهة سياسية وعسكرية
جديدة، فيما أسس الجنرال "توماس سريلو" نائب رئيس هيئة الأركان الأسبق جبهة
"الخلاص" فى مارس 2017، ليكون جزءًا من النزاع الدائر وليس أطرافًا لحله(3).
إثيوبيا وتفعيل جهود السلام
لعبت إثيوبيا دورًا حاسمًا في إدارة الصراع
بين الفرقاء السودانبين بكفاءة وفعالية بقيادة رئيس الوزراء الجديد "آبي
أحمد" رئيس الهئية الحكومية للتنمية "إيجاد" الذي يحاول إعادة
الاستقرار في منطقة شرق أفريقيا "القرن الأفريقي" عن طريق تبني جهود
الوساطة الإقليمية في الصراعات الدائرة تمثلت بشكل كبير في التقارب مع إريتريا،
ودول المصب –(السودان، مصر)_، بالإضافة إلى الوساطة بين جوبا والخرطوم.
وعليه فقد استطاع لم شمل الأطراف
المتصارعة في العاصمة الإثيوبية "أديس أبابا" لأول مرة منذ عامين في 20 يونيو/
حزيران 2018 لإعادة الاستقرار لدولة جنوب السودان، وإنهاء الحرب الدائرة تمهيدًا
لبحث سبل التسوية السياسية السلمية. وبرغم من تعثر المحادثات بسبب رغبة
"كير" في تهميش "مشار" رافضًا وجوده في الحكومة الوطنية، إبان
اجتماع "اديس أبابا"، إلا إنه وافق على عقد لقاء جديد في الخرطوم للتوصل
إلى تسوية سلمية بينهم، وفقًا لطلب رؤساء الدول الأعضاء في "إيجاد". والجدير
بالذكر؛ أن الخرطوم قد أعلنت عن مبادرة للسلام لحل الأزمة السياسية في جوبا برعاية
البشير في 5 يونيو/ حزيران 2018(4).
وهنا لابد من
الإشارة إلى التحركات الإثيويبة تجاه جوبا؛ تنتهج القيادة السياسية الإثيوبية
دورًا بارزًا في منطقة القرن الأفريقي بعد فترة طويلة من الإنعزال عن الدوائر
الإقليمية وأزماتها الداخلية. لتسوق لنفسها أمام القوى الكبرى بإنها حليف
استراتيجي قوي يمكن الاعتماد عليه في إدارة صراعات المنطقة، علاوة على رغبته في
تعميق علاقاته على كافة الأصعدة مع القوى الإقليمية لتوسيع توجهاتها الخارجية بما
ينعكس على استقرار منطقة شرق أفريقيا عبر تفعيل الآليات الدبلوماسية الناعمة(5).
ختامًا؛ تشهد
جوبا تحول نوعي جديد في سياق محادثات السلام التي تدار بوساطة القوى الإقليمية، ولكن
لابد من التعامل معها بتفاؤل حذر فمازالت هناك مخاوف من عدم اكتمال اتفاق السلام
على غرار اتفاق 2015 نتيجة عدم توافق القوى الداخلية تجاه إدارة الملفات الوطنية
وعودة النزعات القبلية كمتحكم في سياق العملية السياسية.
في مقابل، استمرار الجهود الإثيوبية والسودانية في رعاية عملية التسوية السياسية لإعادة الاستقرار للمنطقة للتخلص من القوى الدولية التي تحاول الاستفادة من عدم الاستقرار لتحقيق أطماعها التوسعية، والاستفادة من الموارد الطبيعية والنفطية، لذا تحاول "أديس أبابا" تهدئة الأوضاع تمهيدًا لجذب الاستثمارات الأجنبية لإعادة التنمية المستدامة والاستقرار لدول القرن الأفريقي بعد حالة الانهيار والفوضى الذي عانت منه بعض دول المنطقة.
المراجع:
1)
"اتفاق على وقف
النار في جنوب السودان"، الشرق الأوسط، العدد 14457، 28/6/2018. الرابط
2)
"جنوب السودان 2017/2018"،
منظمة العفو الدولية. الرابط
3)
صلاح خليل،
"جنوب السودان.. أزمة متصاعدة وعنف ينذر بحرب أهلية"، التحرير،
19/4/2018. الرابط
4)
" تعثر في مفاوضات طرفي صراع جنوب السودان
في إثيوبيا… والسودان يعرض الوساطة"، القدس العربي، 23 يونيو 2018. الرابط
5)
أحمد عسكر، " السياسة الخارجية الإثيوبية
في عهد آبي أحمد... الاستمرارية والتغير"، مركز الأهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية، 28 يونيو 2018. الرابط