ما بعد تيلرسون، الرؤية الأمريكية الجديدة لأزمات الشرق الأوسط!
"لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا" ((make
America great again، شعار انطلق منه الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب، ومن يعملون في إدارته، وذلك في إطار سعيه لإعادة هندسة العلاقات والتوازنات
داخل النظام السياسي الأمريكي خاصة فيما يتصل بملفات السياسة الخارجية، والأمن
القومي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يتمكن ترامب من مواصلة سلوكه في فرض
شخصيته على قيم المؤسسية الأمريكية الراسخة، وهل تؤكد الإقالات المتعددة التي
شهدتها دوائر الأمن القومي والشئون الخارجية نجاحه في استعادة هيمنة البيت الأبيض
على المؤسسات، وتمكنه من فرض رؤيته الجديدة فيما يتعلق بمستقبل الملفات الإقليمية لا
سيما في منطقة الشرق الأوسط التي تشهد حالة من السيولة وعدم الاستقرار منذ أحداث
2011، خاصة عند الأخذ في الاعتبار الظروف التي اُنتخب فيها باعتباره الرئيس الـ 45
للولايات المتحدة؛ حيث مثَّل فوز رجل أعمال بثقة أعضاء الحزب الجمهوري والناخب
الأمريكي بوجه عام تحديًا كبيرًا للمؤسسية الأمريكية التقليدية التي قاومت نجاحه
بشتى السبل.
إقالة تيلرسون واستعادة الثقة في وزارة الخارجية
أبرزت العديد من الملفات الدولية صراعًا مستترًا ما بين
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمؤسسات الامريكية خاصة وزارتي الدفاع والخارجية
ومستشاريه للأمن القومي. بدا ذلك واضحًا في العديد من الملفات الدولية التي خالف
فيها ترامب توجهات المؤسسية الأمريكية مثل الأزمة الخليجية ومقاطعة قطر، ومحاولاته
لإعادة فتح التفاوض في الاتفاق النووي الإيراني. أدى ذلك كله إلى فوضى عارمة، وسيل
من التصريحات المتناقضة ما بين الرئيس وفريق عمله؛ وهو ما
كان محل انتقاد كبير داخل أروقة
الصحافة والإعلام الأمريكي. انتهى ذلك الجدل بالإقالة المهينة التي تعرض لها وزير
الخارجية ريكس تيلرسون عبر تغريدة على
موقع التواصل الاجتماعي تويتر؛ حيث أرجع ترامب الإقالة لخلافات في وجهات النظر.
وتم تعيين مايك بومبيو، مدير الاستخبارات المركزية، الذي بات أمامه تحديًا يتعلق
باستعادة ثقة الرئيس ترامب والحلفاء الدوليين في وزارة الخارجية، التي شهدت
تهميشًا وتجاهلًا متعمدًا من الرئيس ترامب طوال فترة تيلرسون، الذي أشار بنفسه
ولكن بصيغ مبطنة عن اختلاف الكثير من مواقفه ورؤيته عن البيت الأبيض. لذا يعتبر
ترامب إقالة تيلرسون تمثل مرحلة من انتهاء خطاب الازدواجية ما بين البيت الأبيض
ووزارة الخارجية.
أزمة قطر في مرحلة ما بعد تيلرسون
تعتبر
إقالة تيلرسون خسارة كبيرة للقطريين خاصة ان الرجل كان حليفًا قويًا لهم منذ
المقاطعة التي أعلنتها دول التحالف الرباعي العربي الداعية لمكافحة الإرهاب في
الخامس من يونيو عام 2017. وأبرزت مقاطعة الرباعي العربي (مصر، والمملكة العربية
السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين) للدوحة تناقضًا كبيرًا ما بين
رؤية الرئيس ترامب للأزمة، والمؤسسات الأمريكية كالبنتاجون ووزارة الخارجية.
على
صعيد مساعي حل الأزمة، زار تيلرسون السعودية والكويت وتركيا وقطر بعد شهر واحد من
الأزمة، واعتبر في زيارته للعاصمة القطرية الدوحة في يوليو 2017، الموقف القطري من
الأزمة منطقي داعيًا الرباعي العربي للسعي للوصول إلى نقطة للحل، وكان قد أعلن
عرضه للوساطة لحل الأزمة في وقت سابق، وصرح قائلًا: " أعتقد
أن قطر كانت واضحة في مواقفها، وأعتقد أنها كانت منطقية جدا".
كان
هناك توافقًا كبيرًا بين وزيري الخارجية (تيلرسون) والدفاع (جيمس مايتس) حول
انتقاد موقف الرباعي العربي الداعي لمكافحة الإرهاب، بل وتمكن الإثنين من إقامة
الحوار الاستراتيجي الاول بين واشنطن والدوحة، وبالتالي استطاعوا إقناع الرئيس
ترامب من تخفيف حدة خطابه تجاه الأزمة، والذي انتهى بلقاء جمعه مع أمير قطر في
نيويورك سبتمبر عام 2017، وتبنيه دعوة قادة دول الخليج لقمة كامب ديفيد في مايو
2018. من ناحية أخرى، اعتبر البنتاجون أن الأزمة الخليجية قد تؤثر سلبًا على العمليات
العسكرية في الحرب على الإرهاب خاصة أن قطر تستضيف قاعدة العُديد العسكرية التي
تحوي زهاء 11 ألفًا من قوات التحالف العالمي لمكافحة الإرهاب. على النقيض من موقف
وزارتي الخارجية والدفاع، اعتبر ترامب في أحد تغريداته على تويتر أن دولة قطر
الداعم الرئيس للإرهاب في المنطقة؛ حيث قال: "دولة قطر..للأسف.. لها
تاريخ من تمويل الإرهاب على مستوى عالٍ للغاية."
تتجه
كثير من التحليلات لاعتبار أن إقالة تيلرسون وتعيين مدير المخابرات المركزية
بومبيو لن يؤثر على مسارات الأزمة الخليجية رغم تأكيدهم المسبق بالعلاقة الوطيدة
التي تربط بومبيو بالمملكة العربية السعودية، التي يعتبرها بومبيو استراتيجية خاصة
فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب ومقاومة الأيديولوجية المتطرفة. ورغم ذلك فإن موقف
بومبيو من الأزمة الخليجية ما زال غير واضح. ورغم تمكن ترامب من إقالة تيلرسون
والإبقاء على مايتس القريب من تيلرسون إلا أن مايتس سيحاول تغيير مواقفه السابقة
بما يتناسب مع المرحلة الجديدة.
قطر في منظومة الأمن القومي الأمريكي
حملت
إقالة مستشار الرئيس للأمن القومي هربرت ماكماستر وتعيين المتشدد جون بولتون
مفاجأة كبرى خاصة أن بولتون يؤمن بمبدأ القوة في إدارة ملفات العلاقات الدولية.
يرى بولتون أن دولة قطر من أكثر الدول الداعمة للإرهاب والأيديولوجية المتطرفة،
ويعتبر أن سياساتها في المنطقة أدت إلى الانشغال عن الخطر الإيراني. على الرغم من
الجهود الكبيرة التي قام بها ماكماستر بالتعاون مع وزير الخارجية السابق تيلرسون
ووزير الدفاع مايتس لحل الأزمة الخليجية للتفرغ لـ "الخطر الإيراني"،
لكنه لم يتردد في التعبير عن ضيقه من قطر لدعمها الأيديولوجية الإسلامية المتشددة.
أي مستقبل للاتفاق النووي الإيراني؟
لم
يتردد ترامب من إبراز الخلاف بينه وبين تيلرسون فيما يتعلق بالاتفاق النووي
الإيراني حيث قال: "أنا أرى الصفقة مع إيران سيئة، اما تيلرسون فكان
يعتقد أنها جيدة. انا أردت إلغاء الاتفاق أو تعديله، وهو كان يفكر بطريقة مختلفة".
واستطاع تيلرسون في فترة ولايته للخارجية الحفاظ –ولو مؤقتًا- على الاتفاق؛ حيث
اعتبر أن الخروج من الاتفاق بطريقة أحادية سيعزل الولايات المتحدة عن حلفائها
الأوربيين. بالتالي تعول إيران كثيرًا على الحلفاء الدوليين لا سيما الأوربيين
لكبح جماح ترامب وإدارته الساعين لإنهاء الاتفاق.
يعارض
وزير الخارجية الجديد بومبيو الاتفاق النووي منذ أن كان عضوًا في الكونجرس، وانتقد
في ذلك إدارة اوباما. وأشار ترامب أن اختياره لبومبيو يعود للتوافق فيما بينهم
بشأن التعامل مع الملف النووي الإيراني؛ حيث تصر إدارة ترامب على ضرورة التخلص من
كل بنود الاتفاق التي قد تسمح لإيران باستمرار جهودها لامتلاك السلاح النووي.
جدير
بالذكر أن الشركاء الأوربيين يعارضون طرح ترامب حول ضرورة التوصل إلى اتفاق تكميلي
يشدد الضغوط على طهران، وهدد ترامب شركائه الاوربيين في حال عدم استجابتهم لطرحه
سيقوم بالانسحاب الأحادي من الاتفاق، بما يعني فرض عقوبات على الشركات الأوربية
التي ستتعامل مع طهران. هدف تيلرسون من محاولاته لاستمرار ترامب في الاتفاق إلى
تجنب الدخول في خلافات مع الشركاء الاوربيين لذا استطاع الحفاظ على الاتفاق،
واكتفاءه بفرض عقوبات على عدد من الشخصيات المنشغلة في البرنامج، وهو ما يطرح
تساؤلات تتعلق بقدرة الاتفاق على الصمود في ظل تخلي ترامب وإدارته عنه خاصة مع
الأخذ في الاعتبار تصريحات بومبيو تجاه إيران باعتبار أنها تريد أن تصبح قوة
مهيمنة على المنطقة، وهو ما يهدد الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين.
إيران هي الخطر الأكبر!
لم يستطع ماكماستر وبولتون إخفاء عدائهم الشديد لإيران؛ حيث يرى مستشار الأمن القومي السابق أن التعامل مع إيران يجب أن يكون شمولي لا يقتصر فقط على البرنامج النووي، ولكن مع كل سلوك إيران المزعزع لاستقرار المنطقة. أما بولتون فيحمل عداء قديم لإيران؛ حيث اقترح سابقًا خطة للحوار السري مع المملكة العربية السعودية والشركاء الأوربيين للتنصل من التزامات الاتفاق. لم يتوقف بولتون عند مسألة الاتفاق النووي ولكن يدعم أي محاولة لإنهاء نظام ولاية الفقيه؛ حيث وعد أثناء حضوره أحد مؤتمرات المعارضة الإيرانية بانتهاء نظام الملالي بحلول عام 2019. لذا اعتبرت الحكومة الإيرانية تعيينه بمثابة تحدي واستهداف مباشر لطهران خاصة عند الأخذ في الحساب رؤيته لمفهوم القوة باعتباره من صمامات الأمن القومي الأمريكي. لذا لم يكن غريبًا أن يدعو الرئيس ترامب للانسحاب الفوري من الاتفاق أو تعديله، بل وصل إلى مطالبته بضرورة ضرب النظام الإيراني، وهو ما ظهر في كتابه "أوقفوا إيران، اقصفوا إيران".