تصدع التحالفات التركية وتفاقم "أزمة الهوية"
في كل مرة تتأزم فيها علاقة تركيا
بالغرب (الأوروبي والأمريكي) تجد تركيا نفسها مباشرة أمام أزمتها المتأصلة الجذور
وهي "أزمة الهوية" وسؤال أين تقع تركيا من صراع الهويات وبالتبعية صراع
الحضارات، الذي يرجح مفكرون ومنظرون كبار للعلاقات الدولية أنه، أي صراع الحضارات،
أضحى الصراع الأساسي في العلاقات الدولية بعد أن توارى صراع الأيديولوجيات حسب ما
يؤكد عالم السياسة الأمريكي الراحل صاموئيل هنتجتون في مؤلفه الشهير "صراع
الحضارات". تركيا تعيش هذه الأزمة، وبالتبعية هذا المأزق الذي لم تستطع حسمه
حتى الآن وقد لا تستطيع مستقبلاً: هل هي دولة غربية أم هي دولة شرقية؟
منذ سنوات قليلة، وبالتحديد مع ظهور
مؤلف رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو وقت أن كان مستشاراً لرئيس
الحكومة التركية وقتئذ "حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم- رجب طيب
إردوغان" وهو مؤلف "العمق الإستراتيجي" الذي أعاد فيه أحمد داوود
أوغلو ارتباط تركيا بعالمها الشرقي- الإسلامي، وأخذ ينسج تحالفات إستراتيجية مع
الجوار الجغرافي لتركيا خاصة مع سوريا والعراق وإيران. اعتقد البعض أن تركيا حسمت
أزمة الهوية وأنها تحت قيادة "حزب العدالة والتنمية" الذي يحكم بمرجعية
إسلامية واضحة قد حسمت أمر هويتها الحضارية وأنها أضحت دولة إسلامية تمتد جذورها
نحو الشرق العربي- الإسلامي، وأنها على أبواب "عثمانية جديدة" بعباءة
"أردوغانية" لكن أردوغان نفسه نفى ذلك وأكد أن تركيا تنتمي إلى الغرب،
كما تنتمي إلى الشرق. وعندما أخذت علاقة تركيا تتأزم مجدداً مع أوروبا وخاصة مع
ألمانيا ثم مع الولايات المتحدة على النحو الذي أظهره وتمادى فيه الرئيس رجب طيب
أردوغان أام المنتدى الأول للقناة التركية الرسمية الناطقة بالإنجليزية "TRT World"، أسرع
رئيس الحكومة التركية بن علي يلدريم ليؤكد أن "تركيا شرقية وغربية بجغرافيتها
وحضارتها، ولذلك لا يمكن تصنيفها.. فهذا جهل كبير".
هذا الرد أراد
بن علي يلدريم أن يؤكد حرصه، وحرص تركيا بالأساس ليس فقط على العلاقة القوية مع
الغرب بل على الارتباط الحضاري التركي بالغرب ليصحح انطباعات رآها خاطئة عند
الإعلام والسياسة في أوروبا الذين أرادوا توظيف انتقادات أردوغان أمام المنتدى
الأول للقناة التركية الذي أراده المسئولون الأتراك تصويره على أنه بمثابة
"دافوس تركيا" أو "دافوس السياسة والإعلام".
ففي محاضرته
أمام هذا المنتدى جدد أردوغان (19/10/2017) انتقاداته تجاه دول غربية، على رأسها
الولايات المتحدة وألمانيا، معتبراً في الوقت نفسه أن "الشراكة الإستراتيجية
مع واشنطن يمكن أن توضع على طاولة الدراسة"، ورأى أيضاً أن الغرب
"يتعامل مع الإرهاب بنفاق". وفي الحوار الذي أقيم مع أردوغان في ختام
المنتدى انتقد أردوغان الغرب لكونه "منافقاً في محاربته للإرهاب" إذ أن
شركاء تركيا "يغضون الطرف عن نشاطات إرهابية" يقوم بها، وفقاً له، (حزب
العمال الكردستاني التركي المعارض) ومنظمة (الخدمة) التابعة للداعية فتح الله جولن
المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد أردوغان في يوليو 2016.
كان أردوغان
على ما يبدو، حريصاً على توجيه انتقادات مباشرة للولايات المتحدة لدعمها، حسب
رأيه، كلاً من "حزب العمال الكردستاني التركي" و"وحدات حماية
الشعب" الكردية السورية، في إطار الحرب على "داعش" موضحاً
"توجهت إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتساؤل: هل من الحكمة القضاء على
تنظيم إرهابي عبر تنظيم إرهابي آخر؟". ولم يترك المناسبة دون التعرض للأزمة
الجديدة المتفجرة مع الولايات المتحدة حول وقف التأشيرات بين البلدين بقوله:
"إذا كان السفير الأمريكي لدى أنقرة (جون باسي) يمكنه البدء بحديثه بشأن
العلاقات مع شريك إستراتيجي (تركيا) بعبارة: "أوقفنا التأشيرات" ففي
حينه أنا أضع هذه الشراكة على طاولة الدراسة". في ذات الوقت كان أردوغان
حريصاً على توجيه انتقادات حادة إلى أبرز الشركاء الأوروبيين لتركيا (ألمانيا) في
معرض حواره أمام فعاليات منتدى القناة التركية الناطقة بالإنجليزية مشيراً إلى أن
"بلاده قدمت للسلطات الألمانية 4500 ملف تتعلق بأشخاص مرتبطين بمنظمة حزب
العمال الكردستاني المعارض (بي. كا. كا. المتهمة بالإرهاب) من دون أن نتلقى رداً من
برلين"، مضيفاً أن "هؤلاء جميعاً يتجولون بحرية في ألمانيا وأوروبا رغم
أن المنظمة مصنفة إرهابية على قوائم الاتحاد الأوروبي".
أردوغان والأزمة مع واشنطن
تكشف الأزمة الراهنة بين تركيا
والولايات المتحدة أن الرئيس رجب طيب أردوغان رجل يعيش المتناقضات ببراعة وأنه
مغرم بـ "التحالف مع المستحيل"، لكنه في ذات الوقت هو "الرجل الأكثر
براعة في خسارة حلفائه". مسميات وتوصيفات قد تبدو متناقضة لكن مع إردوغان لا يوجد
تناقض، فهو أيضاً رجل المتناقضات. هكذا كان، وهكذا سيبقى بدليل عمق التخبط في إدارة
العلاقات ليس فقط مع الأعداء بل وأيضاً مع الأصدقاء.
هو الآن في أزمة مرشحة للتصعيد مع الولايات
المتحدة لأسباب قد تكون شكلية، لكن جذورها عميقة وممتدة. وعندما يندفع للصدام مع الولايات
المتحدة الحليف التاريخي والشريك القوي في حلف شمال الأطلسي نجده يتجه للتحالف مع أعداء
الأمس: إيران والعراق، وربما يتصالح مع الرئيس السوري بشار الأسد. والأمر نفسه في علاقته
المتأرجحة مع روسيا من الأزمة الساخنة وقت إسقاط طائرة السوخوي الروسية إلى التحالف
والتنسيق العسكري على أعلى مستوى لدرجة شراء منظومة صواريخ "إس 400" المتطورة
من وراء ظهر حلفائه في حلف شمال الأطلسي.
الأزمة الحالية مع واشنطن سببها قرار أصدرته
السفارة الأمريكية قضى "بتجميد كل خدمات التأشيرات لغير المهاجرين في كل المنشآت
الدبلوماسية والقنصلية الأمريكية في تركيا" بعد أن اعتقلت السلطات التركية مواطناً
تركياً يعمل في السفارة الأمريكية، وأفاد القرار أنه مرتبط بإعادة تقويم مدى التزام
تركيا حماية أمن البعثة الأمريكية في أنقرة، وجاء الرد التركي مضاعفاً حيث سارعت السفارة
التركية في واشنطن إلى الرد بالمثل فأصدرت البيان ذاته للسفارة الأمريكية في أنقرة
مع تغيير اسم البلدين ويتضمن إجراءات مشابهة ضد المواطنين الأمريكيين، وأعلنت السلطات
التركية أن الموظف المعني بالأمر هو "مواطن تركي" وأنه "لا يحظى بحصانة
دبلوماسية"، كما أنه "متهم بالتجسس ومحاولة إطاحة الحكومة والدستور في تركيا
في إطار صلته بجماعة الداعية فتح الله جولن المتهم بالمسؤولية عن المحاولة الانقلابية
ضد إردوغان عام 2016.
وفضلاً عن ذلك استدعت السلطات التركية موظفاً
تركياً آخر يعمل بالقنصلية الأمريكية في اسطنبول إلى مكتب المدعي العام في المدينة
للإدلاء بشهادته بعد توقيف زوجته وابنته لاستجوابهما في اتهامات بارتباطهما بجماعة
فتح الله جولن، وبعدها استدعت وزارة الخارجية التركية السكرتير الثاني في السفارة الأمريكية
في أنقرة وأبلغته أن تجميد إصدار التأشيرات "سبب توترات لا داعي لها"، مطالبة
بإلغاء القرار.
وفي تطور متناقض مع هذا التوجه الذي استهدف
احتواء الأزمة تعمد الرئيس التركي تصعيدها عندما أعلن أن حكومته رفضت استقبال السفير
الأمريكي في زيارة وداع قبيل مغادرته أنقرة بحجة أن حكومته "لا تعتبره ممثلاً
للولايات المتحدة في تركيا.
المتابع لهذه الأزمة يجدها مفتعلة وربما
تكون رداً من إردوغان على رفض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاستجابة لمطالب قدمها
له إردوغان خلال لقائهما الأخير في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم
المتحدة، أولهما مطلب يخص فتح الله جولن المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، الذي
طالب إردوغان بتسليمه للسلطات التركية وثانيهما مطلب يخص رجل الأعمال التركي (الإيراني
الأصل) رضا زراب الذي اعتقل في مايو 2016 في نيويورك بتهمة "خرق العقوبات الأمريكية
المفروضة على إيران". وكانت أجهزة الأمن التركية (المتهمة الآن من قبل حكومة إردوغان
بالولاء لجماعة فتح الله جولن) قد اعتقلت هذا الرجل في يناير عام 2013 بتهمة
"تهريب الذهب والعملات الصعبة إلى إيران" بالتنسيق مع أربعة وزراء في الحكومة
التركية إضافة إلى بلال نجل الرئيس في أكبر قضية فساد شهدتها تركيا، كما سرب الأمن
حينها تسجيلات لمكالمات هاتفية بين الرئيس التركي ونجله تثبت تورطهم في الحرب السورية
إلى جانب منظمات متهمة الآن بـ "الإرهاب".
ربما يكون إردوغان يرغب في تحريك هذه المطالب
مجدداً عن طريق إضافة معتقلين جدد لمقايضة قد يراها إردوغان ممكنة أو على الأقل محتملة
مع الولايات المتحدة بدليل إعادة تلميحه بإمكانية تسليم القس الأمريكي اندرو برونسون
المعتقل في تركيا منذ أكتوبر 2016 إذا تسلمت أنقرة فتح الله جولن. لكن مشكلة إردوغان
مع واشنطن تتجه، على الأرجح للتصعيد على ضوء العديد من التطورات سواء من جانب الولايات
المتحدة أو من جانب إدروعان.
فالولايات المتحدة لم تعط أي إشارة، حتى
الآن، على أي فرصة لتسليم فتح الله جولن، كما أنها لا تعطي اعتباراً لرفض تعاون واشنطن
مع قوات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني في سوريا المتهم من
جانب حكومة إردوغان بأنه ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا، حيث ترى أنقرة أن تعاون
واشنطن مع قوات حماية الشعب ودعمها لتأسيس فيدرالية كردية في شمال سوريا تهديد مباشر
للأمن القومي التركي، كما ترى أن التعاطف الأمريكي الخفي مع توجه أكراد العراق للانفصال
دليل آخر أكيد على أن الولايات المتحدة لم تعد تعط أهمية للحليف التركي.
أما تركيا فتمارس سياسات تغضب واشنطن فهي
تتحالف مع روسيا في سوريا، وتتقارب الآن مع إيران في سوريا أيضاً، وهذا التقارب مرجح
أن يتحول إلى تحالف ثلاثي: تركي – إيراني- عراقي، قد يصبح رباعياً بدخول سوريا بشار
الأسد طرفاً إضافياً في ظل العداء المشترك لما يسمى بـ "الخطر الكردي". وهذا
يعني أن أزمة إردوغان مع الولايات المتحدة تتجه إلى التصعيد، لكن هذا ليس شرطاً، فإردوغان
مستعد للانقلاب على نفسه في أية لحظة، قد ينقلب على إيران والعراق وروسيا، ويعود إلى
ما كان عليه بالأمس عدواً لهم جميعاً. فالتحول في المواقف وعشق المتناقضات لغة يجيدها
إردوغان، لكنه لا يملك اليقين أنه قد يكون ضحية لما يعتقده "براعة إردوغانية"
يكون أول من يدفع أثمانها، بدليل المخاطر المعرضة لها تركيا الآن في علاقتها مع
الاتحاد الأوروبي وخاصة مع ألمانيا على ضوء ما حرصت المستشارة الألمانية إنجيلا
ميركل على إعلانه حال وصولها إلى مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل (20/10/2017)
للمشاركة في قمة الاتحاد الأوروبي بقولها: "سألتزم العمل من أجل تقليص
المساعدات التي نقدمها وتسبق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي"، وزادت على ذلك
أنه "من المهم أن يتحرك المجلس الأوروبي حول هذه المسألة بطريقة موحدة.. هذا
مطلب أساسي في نظري" موضحة أن "تطور دولة القانون في تركيا يسلك، في
نظري، اتجاهاً سيئاً، ونشعر بقلق شديد، لا يقتصر سببه على اعتقال عدد كبير من
الألمان".
أزمة أوروبا مع تركيا
هذه الحدة التي تتحدث بها المستشارة
الألمانية تؤكد أن الأزمة الأوروبية، والألمانية على الأخص، باتت عصيّة على أية
جهود للوساطة، وأن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي دخل مجدداً مرحلة مظلمة على
ضوء ما تعتبره أوروبا انقلابات تركية على المعايير الديمغرافية للانضمام إلى عضوية
الاتحاد الأوروبي، لدرجة أن المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل قالت خلال حملتها
الانتخابية الأخيرة أنها "ستقترح على نظرائها الأوروبيين وقفاً لمفاوضات
الانضمام التي تجريها تركيا مع الاتحاد الأوروبي". كما أكد رئيس الوزراء
البلجيكي شارل ميشال أن "مفاوضات الانضمام بين الاتحاد وتركيا مجمدة في
الواقع حتى درجة التوقف"، واعتبر رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي أن تركيا
"بعيدة جداً من الانضمام وسيبقى الوضع على حاله".
هناك أسباب كثيرة لهذا التشدد الأوروبي
نحو تركيا أبرزها بالطبع ما يراه الأوروبيون من انتكاسة للديمقراطية داخل تركيا في
ظل أعمال القمع الواسعة ضد المعارضة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة في يوليو
2016 على وجه الخصوص، إضافة إلى تدهور العلاقة بين تركيا وألمانيا في ظل ما تعتبره
ألمانيا تدخل تركي سافر في الشئون الداخلية الألمانية رداً على محاولات أردوغان
مخاطبة الجالية التركية في ألمانيا باعتبارها كتلة مواطنة تركية من حقه أن يخاطبها
مباشرة دون قيود مواطنتها الحالية في ألمانيا، وهو الأمر الذي رفضته ميركل بوضوح
شديد، ناهيك عن توقيع تركيا لصفقة صواريخ "اس- 400" مع روسيا دون إخطار
مسبق للحلفاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
المستشارة الألمانية عبرت في مناظرة
انتخابية عن شدة الغضب إزاء السياسة التركية مؤكدة أنه "يجب ألا تنضم تركيا
إلى الاتحاد الأوروبي بسبب ما رأته من أن تركيا "تحيد عن طريق سيادة القانون
بسرعة شديدة جداً" مشيرة إلى أن حكومتها "ستبذل كل ما في وسعها للإفراج
عن ألمان معتقلين في تركيا" تقول برلين إنهم أبرياء.
أوروبا تعتبر أيضاً أن صفقة صواريخ
"اس 400" مع روسيا "تمثل علامة فارقة في مسار متعرج مع أوروبا وصلت
إلى مرحلة الصراع"، حيث بدت علاقة تركيا تتجه بعيداً نسبياً عن أطر التنسيق
وآليات التوافق داخل الحلف، فصفقة الصواريخ عقدتها تركيا مع روسيا في ظل تصاعد
الأزمات بين أوروبا وروسيا، كما أن التقارب العسكري التركي مع روسيا يشير إلى أن
تركيا تتجه نحو هيكلة القوات التركية بعيداً عن منظومة الحلف.
واقع شديد التعقيد تواجهه تركيا مع
حلفائها الغربيين في الولايات المتحدة مع أوروبا، لكن المفارقة هنا أن هذا كله
يحدث في ظل أزمة متصاعدة لعلاقة تركيا بالدول العربية في ظل تقاربها مع كل من
إيران وقطر، ما يعني أنها باتت في أزمة مستحكمة سوف تؤثر سلبياً بشدة على أزمة
الهوية التي تعيشها تركيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية
العثمانية وتأسيس تركيا الحديثة الأتاتوركية المفعمة بالارتباط مع أوروبا.