قانون بناء الكنائس وسقوط لائحة العزبي
الثلاثاء 06/سبتمبر/2016 - 01:03 م
د.أحمد موسى بدوي
أخيراً أقر البرلمان المصري، قانوناً جديداً لبناء وترميم الكنائس، بعد أن قدمت الحكومة أكثر من ثلاثة عشر مسودة لهذا القانون الواجب صدروه بموجب الدستور الجديد قبل انتهاء دورة الانعقاد الأولى للبرلمان. ظلت مسألة بناء الكنائس الجديدة، من أهم العوامل التي تؤجج الفتنة الطائفية في مصر عبر الحقب التاريخية، فهل يحسم القانون الجديد هذه المسألة نهائياً، ويلبي احتياجات الطوائف المسيحية في مصر، أم يبقى الأمر مرهوناً بكيفية تطبيقه؟
أولاً- فرمان الخط الهمايوني: إصلاح هناك ونهضة في مصر
بعد فوات الأوان، قام السلطان عبدالمجيد (حكم من عام 1834- 1861م) بجملة من الاصلاحات الجذرية، لمجابهة الاختراق الاقتصادي والسياسي الأوروبي، في لحظة تاريخية أصبحت يد السلطة العثمانية مغلولة فعلياً، ولم يعد في وسع البيروقراطية العسكرية التركية إحكام السيطرة على الولايات العثمانية، جاءت الاصلاحات، لتخلق تراتب اجتماعي-اقتصادي جديد، يمنح الحقوق ويساوي بين كافة رعايا الدولة العثمانية.
في هذا السياق أصدر السلطان في فبراير 1856م، الفرمان العالي الموشح بالخط الهمايوني، وهو في جوهره وثيقة إصلاحية متقدمة بمعايير ذلك العصر، على العكس مما يشاع في الكتابات، لأنه يراعي حقوق الطوائف والأقليات العرقية والدينية والمذهبية في أرجاء الدولة العثمانية، من حيث ضمان المساواة بين الجميع، واستقلال الطائفة في تنظيم الأحوال الشخصية للمنتمين لها، وإنشاء مجالس عليا لكل طائفة تكون مسئولة عن رفع طلبات رعاياها للباب العالي، ومن بينها طلبات بناء دور العبادة وملحقاتها.
أي أن الفرمان الهمايوني مثَّل لحظة تاريخية فارقة بالنسبة للأقليات، ولم تكن مسألة بناء دور العبادة إلا أضعف ما فيه، فقد رهن استحداث مبنى جديد للطائفة بموافقة الباب العالي، ما يعني أن للموافقة أو عدم الموافقة ربما تستغرق شهوراَ طويلة بسبب الدورة البيروقراطية العقيمة. ولأن الفرمان قد أقر ميزات أخرى غير بناء دور العبادة، فإن الطوائف لم تفكر في مستقبل هذه المسألة، ورضيت بما نالته خاصة وأن الفرمان أقر بقانونية كل دور العبادة المبنية قبل صدور الفرمان.
وفي الوقت الذي كانت الدولة العثمانية تعاني من تدهور الأحوال الاقتصادية والسياسية، وتجابه خطر القوة الأوربية الصاعدة، كانت مصر تسير بقوة نحو الحداثة الأوروبية، ومن الثابت تاريخياً، أن محمد علي هو الذي قضى مبدئياً على التفرقة بين القبطي والمسلم. قبل صدور الفرمان المذكور. وزاد الوالي سعيد باشا بإزالة معظم العقبات التي تحول دون الاندماج الكامل للأقباط في صلب الأمة، بقراراته غير المسبوقة بقبول الأقباط في الجيش، وتطبيق قانون الخدمة العسكرية عليهم، وإلغاء الجزية المفروضة على الذميين بالفرمان الصادر في 1855. وفي عصر الخديوي إسماعيل نال الأقباط حقوقهم السياسية والاعتبارية بموجب قانون إنشاء مجلس الشورى في 1866م، الذي منحهم الحق في عضوية مجلس الشورى أسوة بالمسلمين، بالإضافة إلى تعيين قضاة من الأقباط في المحاكم، فضلاً عن أن اسماعيل هو أول حاكم يمنح لقب الباشوية لواحد من الأقباط.
على معنى أن كلاً من الوالي سعيد والخديوي إسماعيل، حرصا على ترجمة الفرمان الهمايوني في قرارات وسياسات فعلية غيرت شكل العلاقة بين الأقباط والمسلمين تغييراً جذرياً. وبعد هذا التحول الملفت تعاطى الأقباط مع الأحداث الكبيرة التي شهدتها مصر بقدرٍ كبيرٍ من المسئولية الوطنية، مشاركين في ثورة عرابي، ومقاومة الاحتلال البريطاني منذ عام 1882م، مروراً بالمشاركة الفعالة في ثورة 1919.
ثانياً- لائحة العزبي، وتشويه فرمان الخط الهمايوني
منذ صدور الفرمان العثماني وحتى عام 1934م لم يحدث تعديل في قانون بناء الكنائس، وظل التصريح بالبناء في يد القصر الحاكم. غير أن المتغيرات السياسية والاجتماعية التي أعقبت ثورة 1919، دفعت بالشخصيات القبطية للمطالبة مراراً وتكراراً بسن قانون جديد لبناء الكنائس، ولم يستجب القصر لهذه المطالبات. وبدلاً من ذلك أصدرت وزارة الداخلية في فبراير 1934م لائحة – سميت باسم لائحة العزبي باشا- وهو وكيل وزارة الداخلية في ذلك الوقت، تضمنت اللائحة شروطاً عشرة لابد من استيفاءها لحيازة الوضع القانوني للبناء، ثم يرفع الأمر لرأس الدولة للموافقة النهائية.
يمكن تلخيص الشروط العشرة للعزبي فيما يلي: (1) الأوراق الثبوتية لملكية أرض الكنيسة المقترحة. (2) ما المسافة التي تبعد بين الكنيسة المقترحة والمساجد المحيطة. (3) هل الأرض المقترحة تقع وسط مساكن مسيحية أم مسلمة. (4) إن كانت تقع وسط مساكن مسلمين فهل لديهم اعتراض على بناء الكنيسة. (5) هل هناك كنيسة أخرى في المحيط السكني. (6) ما المسافة التي تبعدها الكنيسة المقامة في المحيط السكني. (7) الحصول على موافقة كافة الوزارات الخدمية. (8) ما عدد المسيحيين في المنطقة. (9) أن يرفق تقرير كافة الجهات المعنية بخصوص الشروط الثمانية السابقة. (10) أن يرفق بالطلب كافة الرسوم المعمارية الخاصة بالمبني.
ويتضح من كل شرط في اللائحة أن عملية استحداث بناء كنسي جديد ستكون ضرباً من المستحيل، فأي مقترح يمكن أن يصطدم بشرط أو أكثر في هذه اللائحة. ولن ينجو من مقصلة العزبي إلا الكنائس التي ستقام في مناطق غير آهلة بالسكان. فضلاً عن أن اللائحة كرست لثنائية توشي بالتضاد بين الكنيسة/المسجد، المسلم/المسيحي. وكأن وجود الكنيسة بجوار المسجد والمسيحي بجوار المسلم أمراً خطيراً ينذر بتأجيج المشكلة الطائفية.
ومن المؤكد أن التصاريح التي صدرت في العهد الملكي والجمهوري، لم تصدر سوى بإرادة سياسية وليس نتيجة استيفاء شروط العزبي. ففي العهد الناصري، حرص عبد الناصر على التصريح بعدد 25 كنيسة جديدة سنوياً، وجاء السادات فوعد بمضاعفة العدد، ولم يتحقق الوعد، وقل العدد المرخص به سنوياً عما كان في العهد الناصري. ولم يتحسن الوضع كثيراً في عصر مبارك. ما نريد قوله أن اللائحة من الناحية العملية لا دور لها سوى عرقلة بناء دور العبادة للأقباط. ويظل الأمر مرتبط برئيس الدولة – مانح الترخيص- ومرهون بطبيعة العلاقة التي تربطه بالكنيسة. وفي أحيان كثيرة حال تعذر الحصول على الترخيص، تحدث مواءمات بين الكنيسة والأجهزة الأمنية، يجري بمقتضاها السماح –الشفاهي- للأقباط بممارسة طقوسهم الدينية في الملكيات الخاصة. وهو الوضع الذي أثار كثيراً من الأحداث الطائفية خاصة في الريف المصري.
ثالثاً- قانون بناء الكنائس 2016
على وزن لائحة العزبي بشروطها العشرة، صدر قانون بناء الكنائس بعشرة مواد، يمكن تلخيصها فيما يلي: (1) تعريف دقيق لكل الكلمات المفتاحية الواردة في القانون وهي: الكنيسة، ملحق الكنيسة، مبنى الخدمات، بيت الخلوة، مكان صناعة القربان، الرئيس الديني المختص، المحافظ المختص، الطائفة، الممثل القانوني للطائفة، الأعمال المطلوب الترخيص بها. (2) تناسب مساحة الكنيسة المطلوب الترخيص ببنائها، مع عدد وحاجة مواطني الطائفة المسيحية في المنطقة مع مراعاة معدلات النمو السكاني. (3) يتقدم الممثل القانوني للطائفة إلى المحافظ بطلب الحصول على الترخيص مشفوعاً بالمستندات اللازمة، ويعطى ما يفيد استلام طلبه يوم تقديمه. (4) يجوز للممثل القانوني التقدم بطلب هدم وإعادة بناء كنيسة مرخصة أو تم توفيق أوضاعها. (5) يلتزم المحافظ بالرد على الطلب المشار إليه في مادة 3، 4. في مدة لا تتجاوز أربعة أشهر، وإذا كان الرد بالرفض يجب ذكر السبب. (6) أن تلتزم الجهة المرخص لها بالأحكام والشروط الواردة في قانون البناء رقم 119/2008. (7) لا يجوز تغيير الغرض من المبنى المرخص له إلى أي غرض آخر. (8) يتقدم الممثل القانوني خلال سنة من تاريخ العمل بالقانون، إلى لجنة توفيق الأوضاع، بحصر وطلبات توفيق أوضاع لكل المباني الدينية المقامة قبل صدور القانون. (9) يعتبر مرخصاً ككنيسة كل مبنى قائم في تاريخ العمل بالقانون، وحاز موافقة لجنة توفيق الأوضاع. (10) يعتبر مرخصاً كل مبنى يستخدم كملحق كنيسة أو مبنى خدمات أو بيت خلوة قائم في تاريخ العمل بالقانون، وحاز موافقة لجنة توفيق الأوضاع.
وبكل أريحية، يمكن القول أن قانون بناء الكنائس، يعد خطوة متقدمة تحسب للبرلمان والحكومة المصرية، وتصب في مسار تحقيق المواطنة الكاملة للأقباط. ولدينا خمسة أسباب لتبرير صحة هذا الافتراض: (1) أن سلطة إصدار القرار النهائي بالترخيص أو عدمه أصبحت في يد محافظ الاقليم، وليس رئيس الدولة كما كان الحال منذ عصر محمد علي، ولا يصدر قرار عدم الترخيص إلا مسبَّباً بحيث يمكن الاحتكام للقضاء في ذلك. (2) أن قرار الترخيص من عدمه يستغرق حيز زمني لا يتجاوز أربعة أشهر، ما يعني القضاء نهائياً على الدورة البيروقراطية العقيمة. (3) نص القانون على توفيق أوضاع كافة المباني المقامة قبل صدور القانون. (4) وحتى في حال عدم توفيق أوضاعها، تبقى المنشأة غير المرخصة تمارس دورها الديني، بنص في المادة الثامنة (وفي سائر الأحوال لا يجوز منع أو وقف ممارسة الشعائر والأنشطة الدينية في أي من المباني المشار إليها أو ملحقاتها لأي سبب) لأن عدد كبير من المباني الموجودة في القرى، يصعب من الناحية الأمنية توفيق أوضاعها بحساب التناسب الوارد في المادة الثانية. (5) يحسب للقانون أنه خلا من ثنائية توشي بالتضاد والتناقض: الكنيسة/المسجد، المسلمين/المسيحيين التي وضعت في لائحة العزبي، فوسمتها بالتمييز والطائفية.
وتبقى المادة الثانية، مثيرة للجدل، فقد نصت المادة على أن: يراعى أن تكون مساحة الكنيسة المطلوب الترخيص ببنائها وملحق الكنيسة على نحو يتناسب مع عدد وحاجة مواطني الطائفة المسيحية في المنطقة التي تقام بها، مع مراعاة معدلات النمو السكاني، ويجوز أن تضم الكنيسة أكثر من هيكل أو منبر وأكثر من صحن وقاعة معمودية ومنارة.
ومثار الجدل هنا في كيفية حساب التناسب بين عدد الطائفة في المنطقة التي يقام بها المبني ومساحة المبنى الكافي لسد حاجة مواطني الطائفة لهذه الخدمة. لأن الجهة التنفيذية لا تفصح عن نسبة السكان الأقباط وأماكن توزيعهم في الحضر والريف والأحياء والتوابع. على معنى أنه لا توجد معلومات موثقة يحتكم إليها الطرفان (الجهة التنفيذية، والطائفة) في حال الاعتراض على قرار الجهة الادارية. ولا ندري كيف سيقوم القضاء بمعالجة هذا النص في أحكامه.
والحقيقة أن الحكومة تملك المعلومة لأن نوع الديانة مدرج في بطاقة الرقم القومي، وعليه فإن إحصاء عدد الأقباط والمسلمين في المنطقة السكنية هو إحصاء موجود، ولكنه غير متاح للعامة. فهل في نية الحكومة الإفصاح عن هذه المعلومات بعد إصدار هذا القانون، بحيث تنحصر المشكلة فقط في تحديد نوع المذهب الذي ينتمي إليه مسيحيو هذه المنطقة، وهو أمر يمكن حسابه بالمسوح الميدانية رغم تكلفته المالية العالية.
ومع ذلك، فإن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية برئاسة البابا تواضرس الثاني، أصدر بيان الموافقة على القانون بالصيغة المعدلة التي قُدِّمت للبرلمان، وألمح البيان إلى أن مرحلة التطبيق هي التي ستحسم الموقف النهائي منه. فإما أن يبقى نقطة تحول تاريخية، أو نقطة لانطلاق نقاش جديد ومطالبات قانونية جديدة. ونأمل أن يكون نقطة تحول تلبي مطالب الأقباط المشروعة في نيلهم كامل حقوق المواطنة المصرية في أعقاب المتصل الثوري 25-30، الذي أطاح برئيسين وكتبت دستورين.
أولاً- فرمان الخط الهمايوني: إصلاح هناك ونهضة في مصر
بعد فوات الأوان، قام السلطان عبدالمجيد (حكم من عام 1834- 1861م) بجملة من الاصلاحات الجذرية، لمجابهة الاختراق الاقتصادي والسياسي الأوروبي، في لحظة تاريخية أصبحت يد السلطة العثمانية مغلولة فعلياً، ولم يعد في وسع البيروقراطية العسكرية التركية إحكام السيطرة على الولايات العثمانية، جاءت الاصلاحات، لتخلق تراتب اجتماعي-اقتصادي جديد، يمنح الحقوق ويساوي بين كافة رعايا الدولة العثمانية.
في هذا السياق أصدر السلطان في فبراير 1856م، الفرمان العالي الموشح بالخط الهمايوني، وهو في جوهره وثيقة إصلاحية متقدمة بمعايير ذلك العصر، على العكس مما يشاع في الكتابات، لأنه يراعي حقوق الطوائف والأقليات العرقية والدينية والمذهبية في أرجاء الدولة العثمانية، من حيث ضمان المساواة بين الجميع، واستقلال الطائفة في تنظيم الأحوال الشخصية للمنتمين لها، وإنشاء مجالس عليا لكل طائفة تكون مسئولة عن رفع طلبات رعاياها للباب العالي، ومن بينها طلبات بناء دور العبادة وملحقاتها.
أي أن الفرمان الهمايوني مثَّل لحظة تاريخية فارقة بالنسبة للأقليات، ولم تكن مسألة بناء دور العبادة إلا أضعف ما فيه، فقد رهن استحداث مبنى جديد للطائفة بموافقة الباب العالي، ما يعني أن للموافقة أو عدم الموافقة ربما تستغرق شهوراَ طويلة بسبب الدورة البيروقراطية العقيمة. ولأن الفرمان قد أقر ميزات أخرى غير بناء دور العبادة، فإن الطوائف لم تفكر في مستقبل هذه المسألة، ورضيت بما نالته خاصة وأن الفرمان أقر بقانونية كل دور العبادة المبنية قبل صدور الفرمان.
وفي الوقت الذي كانت الدولة العثمانية تعاني من تدهور الأحوال الاقتصادية والسياسية، وتجابه خطر القوة الأوربية الصاعدة، كانت مصر تسير بقوة نحو الحداثة الأوروبية، ومن الثابت تاريخياً، أن محمد علي هو الذي قضى مبدئياً على التفرقة بين القبطي والمسلم. قبل صدور الفرمان المذكور. وزاد الوالي سعيد باشا بإزالة معظم العقبات التي تحول دون الاندماج الكامل للأقباط في صلب الأمة، بقراراته غير المسبوقة بقبول الأقباط في الجيش، وتطبيق قانون الخدمة العسكرية عليهم، وإلغاء الجزية المفروضة على الذميين بالفرمان الصادر في 1855. وفي عصر الخديوي إسماعيل نال الأقباط حقوقهم السياسية والاعتبارية بموجب قانون إنشاء مجلس الشورى في 1866م، الذي منحهم الحق في عضوية مجلس الشورى أسوة بالمسلمين، بالإضافة إلى تعيين قضاة من الأقباط في المحاكم، فضلاً عن أن اسماعيل هو أول حاكم يمنح لقب الباشوية لواحد من الأقباط.
على معنى أن كلاً من الوالي سعيد والخديوي إسماعيل، حرصا على ترجمة الفرمان الهمايوني في قرارات وسياسات فعلية غيرت شكل العلاقة بين الأقباط والمسلمين تغييراً جذرياً. وبعد هذا التحول الملفت تعاطى الأقباط مع الأحداث الكبيرة التي شهدتها مصر بقدرٍ كبيرٍ من المسئولية الوطنية، مشاركين في ثورة عرابي، ومقاومة الاحتلال البريطاني منذ عام 1882م، مروراً بالمشاركة الفعالة في ثورة 1919.
ثانياً- لائحة العزبي، وتشويه فرمان الخط الهمايوني
منذ صدور الفرمان العثماني وحتى عام 1934م لم يحدث تعديل في قانون بناء الكنائس، وظل التصريح بالبناء في يد القصر الحاكم. غير أن المتغيرات السياسية والاجتماعية التي أعقبت ثورة 1919، دفعت بالشخصيات القبطية للمطالبة مراراً وتكراراً بسن قانون جديد لبناء الكنائس، ولم يستجب القصر لهذه المطالبات. وبدلاً من ذلك أصدرت وزارة الداخلية في فبراير 1934م لائحة – سميت باسم لائحة العزبي باشا- وهو وكيل وزارة الداخلية في ذلك الوقت، تضمنت اللائحة شروطاً عشرة لابد من استيفاءها لحيازة الوضع القانوني للبناء، ثم يرفع الأمر لرأس الدولة للموافقة النهائية.
يمكن تلخيص الشروط العشرة للعزبي فيما يلي: (1) الأوراق الثبوتية لملكية أرض الكنيسة المقترحة. (2) ما المسافة التي تبعد بين الكنيسة المقترحة والمساجد المحيطة. (3) هل الأرض المقترحة تقع وسط مساكن مسيحية أم مسلمة. (4) إن كانت تقع وسط مساكن مسلمين فهل لديهم اعتراض على بناء الكنيسة. (5) هل هناك كنيسة أخرى في المحيط السكني. (6) ما المسافة التي تبعدها الكنيسة المقامة في المحيط السكني. (7) الحصول على موافقة كافة الوزارات الخدمية. (8) ما عدد المسيحيين في المنطقة. (9) أن يرفق تقرير كافة الجهات المعنية بخصوص الشروط الثمانية السابقة. (10) أن يرفق بالطلب كافة الرسوم المعمارية الخاصة بالمبني.
ويتضح من كل شرط في اللائحة أن عملية استحداث بناء كنسي جديد ستكون ضرباً من المستحيل، فأي مقترح يمكن أن يصطدم بشرط أو أكثر في هذه اللائحة. ولن ينجو من مقصلة العزبي إلا الكنائس التي ستقام في مناطق غير آهلة بالسكان. فضلاً عن أن اللائحة كرست لثنائية توشي بالتضاد بين الكنيسة/المسجد، المسلم/المسيحي. وكأن وجود الكنيسة بجوار المسجد والمسيحي بجوار المسلم أمراً خطيراً ينذر بتأجيج المشكلة الطائفية.
ومن المؤكد أن التصاريح التي صدرت في العهد الملكي والجمهوري، لم تصدر سوى بإرادة سياسية وليس نتيجة استيفاء شروط العزبي. ففي العهد الناصري، حرص عبد الناصر على التصريح بعدد 25 كنيسة جديدة سنوياً، وجاء السادات فوعد بمضاعفة العدد، ولم يتحقق الوعد، وقل العدد المرخص به سنوياً عما كان في العهد الناصري. ولم يتحسن الوضع كثيراً في عصر مبارك. ما نريد قوله أن اللائحة من الناحية العملية لا دور لها سوى عرقلة بناء دور العبادة للأقباط. ويظل الأمر مرتبط برئيس الدولة – مانح الترخيص- ومرهون بطبيعة العلاقة التي تربطه بالكنيسة. وفي أحيان كثيرة حال تعذر الحصول على الترخيص، تحدث مواءمات بين الكنيسة والأجهزة الأمنية، يجري بمقتضاها السماح –الشفاهي- للأقباط بممارسة طقوسهم الدينية في الملكيات الخاصة. وهو الوضع الذي أثار كثيراً من الأحداث الطائفية خاصة في الريف المصري.
ثالثاً- قانون بناء الكنائس 2016
على وزن لائحة العزبي بشروطها العشرة، صدر قانون بناء الكنائس بعشرة مواد، يمكن تلخيصها فيما يلي: (1) تعريف دقيق لكل الكلمات المفتاحية الواردة في القانون وهي: الكنيسة، ملحق الكنيسة، مبنى الخدمات، بيت الخلوة، مكان صناعة القربان، الرئيس الديني المختص، المحافظ المختص، الطائفة، الممثل القانوني للطائفة، الأعمال المطلوب الترخيص بها. (2) تناسب مساحة الكنيسة المطلوب الترخيص ببنائها، مع عدد وحاجة مواطني الطائفة المسيحية في المنطقة مع مراعاة معدلات النمو السكاني. (3) يتقدم الممثل القانوني للطائفة إلى المحافظ بطلب الحصول على الترخيص مشفوعاً بالمستندات اللازمة، ويعطى ما يفيد استلام طلبه يوم تقديمه. (4) يجوز للممثل القانوني التقدم بطلب هدم وإعادة بناء كنيسة مرخصة أو تم توفيق أوضاعها. (5) يلتزم المحافظ بالرد على الطلب المشار إليه في مادة 3، 4. في مدة لا تتجاوز أربعة أشهر، وإذا كان الرد بالرفض يجب ذكر السبب. (6) أن تلتزم الجهة المرخص لها بالأحكام والشروط الواردة في قانون البناء رقم 119/2008. (7) لا يجوز تغيير الغرض من المبنى المرخص له إلى أي غرض آخر. (8) يتقدم الممثل القانوني خلال سنة من تاريخ العمل بالقانون، إلى لجنة توفيق الأوضاع، بحصر وطلبات توفيق أوضاع لكل المباني الدينية المقامة قبل صدور القانون. (9) يعتبر مرخصاً ككنيسة كل مبنى قائم في تاريخ العمل بالقانون، وحاز موافقة لجنة توفيق الأوضاع. (10) يعتبر مرخصاً كل مبنى يستخدم كملحق كنيسة أو مبنى خدمات أو بيت خلوة قائم في تاريخ العمل بالقانون، وحاز موافقة لجنة توفيق الأوضاع.
وبكل أريحية، يمكن القول أن قانون بناء الكنائس، يعد خطوة متقدمة تحسب للبرلمان والحكومة المصرية، وتصب في مسار تحقيق المواطنة الكاملة للأقباط. ولدينا خمسة أسباب لتبرير صحة هذا الافتراض: (1) أن سلطة إصدار القرار النهائي بالترخيص أو عدمه أصبحت في يد محافظ الاقليم، وليس رئيس الدولة كما كان الحال منذ عصر محمد علي، ولا يصدر قرار عدم الترخيص إلا مسبَّباً بحيث يمكن الاحتكام للقضاء في ذلك. (2) أن قرار الترخيص من عدمه يستغرق حيز زمني لا يتجاوز أربعة أشهر، ما يعني القضاء نهائياً على الدورة البيروقراطية العقيمة. (3) نص القانون على توفيق أوضاع كافة المباني المقامة قبل صدور القانون. (4) وحتى في حال عدم توفيق أوضاعها، تبقى المنشأة غير المرخصة تمارس دورها الديني، بنص في المادة الثامنة (وفي سائر الأحوال لا يجوز منع أو وقف ممارسة الشعائر والأنشطة الدينية في أي من المباني المشار إليها أو ملحقاتها لأي سبب) لأن عدد كبير من المباني الموجودة في القرى، يصعب من الناحية الأمنية توفيق أوضاعها بحساب التناسب الوارد في المادة الثانية. (5) يحسب للقانون أنه خلا من ثنائية توشي بالتضاد والتناقض: الكنيسة/المسجد، المسلمين/المسيحيين التي وضعت في لائحة العزبي، فوسمتها بالتمييز والطائفية.
وتبقى المادة الثانية، مثيرة للجدل، فقد نصت المادة على أن: يراعى أن تكون مساحة الكنيسة المطلوب الترخيص ببنائها وملحق الكنيسة على نحو يتناسب مع عدد وحاجة مواطني الطائفة المسيحية في المنطقة التي تقام بها، مع مراعاة معدلات النمو السكاني، ويجوز أن تضم الكنيسة أكثر من هيكل أو منبر وأكثر من صحن وقاعة معمودية ومنارة.
ومثار الجدل هنا في كيفية حساب التناسب بين عدد الطائفة في المنطقة التي يقام بها المبني ومساحة المبنى الكافي لسد حاجة مواطني الطائفة لهذه الخدمة. لأن الجهة التنفيذية لا تفصح عن نسبة السكان الأقباط وأماكن توزيعهم في الحضر والريف والأحياء والتوابع. على معنى أنه لا توجد معلومات موثقة يحتكم إليها الطرفان (الجهة التنفيذية، والطائفة) في حال الاعتراض على قرار الجهة الادارية. ولا ندري كيف سيقوم القضاء بمعالجة هذا النص في أحكامه.
والحقيقة أن الحكومة تملك المعلومة لأن نوع الديانة مدرج في بطاقة الرقم القومي، وعليه فإن إحصاء عدد الأقباط والمسلمين في المنطقة السكنية هو إحصاء موجود، ولكنه غير متاح للعامة. فهل في نية الحكومة الإفصاح عن هذه المعلومات بعد إصدار هذا القانون، بحيث تنحصر المشكلة فقط في تحديد نوع المذهب الذي ينتمي إليه مسيحيو هذه المنطقة، وهو أمر يمكن حسابه بالمسوح الميدانية رغم تكلفته المالية العالية.
ومع ذلك، فإن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية برئاسة البابا تواضرس الثاني، أصدر بيان الموافقة على القانون بالصيغة المعدلة التي قُدِّمت للبرلمان، وألمح البيان إلى أن مرحلة التطبيق هي التي ستحسم الموقف النهائي منه. فإما أن يبقى نقطة تحول تاريخية، أو نقطة لانطلاق نقاش جديد ومطالبات قانونية جديدة. ونأمل أن يكون نقطة تحول تلبي مطالب الأقباط المشروعة في نيلهم كامل حقوق المواطنة المصرية في أعقاب المتصل الثوري 25-30، الذي أطاح برئيسين وكتبت دستورين.