تندرج نتائج الانتخابات في النمسا في سياق سلسلة من النجاحات الانتخابية أحرزتها أحزاب توصف بالشعبوية في أوروبا. وتدعو هذه الأحزاب الى تقوقع الشعب «القح» أو «الأصلي»، وفي بعض الأحوال، الى إعادة النظر في دولة القانون. وحين بلغ يورغ هايدر الحكومة النمسوية في العام 2000، وقع الخبر وقع الفضيحة في أوروبا، وأقصيت النمسا رمزياً في المؤسسات الأوروبية. واليوم، يبدو أن مد الموجة الشعبوية يشمل الدول الشيوعية السابقة، مثل هنغاريا وبولندا، والأنظمة الاشتراكية – الديموقراطية في شمال أوروبا: فالديموقراطيون في السويد حلّوا في المرتبة الثالثة. وبلغت الشعبوية هولندا التي عرفت طوال عقود بميلها الى الليبرالية، والمملكة المتحدة التي ابتكرت فكرة الديموقراطية التمثيلية حيث يهدد نايجل فاراج الحزبين الكبيرين، وألمانيا ونموذجها الديموقراطي، وفرنسا حيث يحول دون رجحان كفة ماري لوبان نموذج الاقتراع فحسب. ودونالد ترامب في الولايات المتحدة شعبوي كذلك. فهو يرفع لواء أميركا «الحقة»، ويطعن طعناً راديكالياً في المؤسسات والسياسيين ويدين المهاجرين ويقول إنهم سارقون ومغتصبون، ويسعى الى إغلاق الحدود.
ووراء المد الشعبوي الإرث الديموقراطي الطري العود في الدول الشيوعية السابقة. فالصلة بالماضي شائكة، والطبقة السياسية لم تتجدد، والانتقال الى الاقتصاد الليبرالي همّش اشخاصاً كثراً وتركهم جانباً ونهباً للبؤس الاجتماعي. وتشعر دول شرق اوروبا بالمهانة جراء غلبة الغرب. وفي الاشتراكيات – الديموقراطية، يعم شعور بالتضامن فهو الجسر الى توزيع الثروات. ولكن هذا التضامن يضعف حين تشرع الحدود أمام الغرباء.
وعلى رغم الأحوال السياسية المتباينة في الدول الأوروبية، يجمع بينها الجوار والتاريخ والمؤسسات والقيم. فالأمم الديموقراطية تمر في تطورات متشابهة. ومنذ الحرب العالمية الثانية، أرسيت أسس أوروبا على النموذج الاشتراكي – الديموقراطي الذي كان خلاف الايديولوجية الشيوعية واقترح مشروعاً يجمع الحماية الاجتماعية الى الحريات السياسية. وكانت الحياة السياسية تدور على تداول السلطة بين المسيحيين - الديموقراطيين، والاشتراكيين – الديموقراطيين. ومنذ انهيار جدار برلين وتحولات الاقتصاد المعولم، تعصف أزمة بهذا المشروع. والاقتصاد المعولم يقتضي إصلاحات عميقة، ولا شك في أنها أليمة في الأمد القصير ولكن من دونها يتراجع الاقتصاد، على نحو ما حصل في فرنسا. وطموحات الديموقراطيين لا سقف لها الى الاستقلال وظروف العيش الأفضل. وفي مثل هذه الحال، الخيبة متوقعة مهما كانت السياسات. والخيبة تحمل على التقوقع والطعن في كل من يحسب (الساخطون) انه مسؤول عن اخفاقهم وحد طموحاتهم. وفي أزمات الهوية يبحث الساخطون والمهانون عن مسؤولين. فهم يقلقون من المستقبل ولا يرون أن المثقفين والسياسة التقليدية يحملون جواباً. لذا، يتعاظم عدد المنددين بالنظام والغرباء. ويلفظون الديموقرطية ويرفضون ما تفترضه من قيود، فيخرجون عن المواطنة. وما يجمع بين الأمم الأوروبية هو إصابة كل مشروع سياسي بالوهن والضمور، سواء كان محلياً وطنياً أو أوروبياً. ومثل هذا الوهن أصاب السياسة في أميركا. وكأنه من الآثار المأسوية والغريبة المترتبة على الغلبة على الامبراطورية السوفياتية في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989. نقلا عن الحياة
* دارس اجتماعيات، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 10/5/2016، إعداد منال نحاس