لم تأت التصريحات الأولى البريطانية والأمريكية- بشأن كارثة الطائرة الروسية فوق سيناء- فى سياق حشد العالم ضد الإرهاب، وإنما فى سياق مواصلة ضغوط تستهدف تمكين الإخوان و محاولة تركيع مصر، مع تأليب الرأى العام فى روسيا ضد محاربتها الإرهاب بسوريا. ثم جاء قرار بوتين الصادم بوقف الرحلات الجوية من روسيا الى مصر وإجلاء السائحين، منحازا لفرضية عملية إرهابية وراء سقوط طائرة الركاب الروسية فى سيناء، لكن هذه الفرضية، حتى وإن أثبتتها التحقيقات، لا ينبغى أن تُرتِبَ مكافأة الإرهاب؛ بضرب السياحة والاقتصاد فى مصر.
وأسجل أولا، أن التصريحات الأمريكية حفلت بتناقضات فاضحة. فقد زعم رئيس الوزراء البريطانى أنه يرجح وقوع تفجير قنبلة وراء كارثة الطائرة؛ ثم أعلن أن بريطانيا لا يمكن أن تكون على يقين ثابت بأن الهجوم الإرهابى سبب الكارثة؟! وصرح مصدر أمريكى مسئول: بأن فرضية انفجار قنبلة تعتمد على نتائج اعتراض مكالمات بين عناصر إرهابية، ثم أكد أن سى آى إيه ووكالات الاستخبارات الأخرى، لم تتوصل بعد لأى استنتاجات نهائية؟! وأخيرا، أعلن الرئيس أوباما أنه يعتقد أن هناك احتمالا لوجود قنبلة على متن الطائرة؛ ثم قال إن المعلومات الاستخباراتية الحالية ليست حاسمة لإعلان كيف سقطت الطائرة بالتحديد؟! وبِفَرض ترجيح فرضية العمل الإرهابى كان على أمريكا وبريطانيا، أن تتضامنا مع مصر فى حربها ضد الإرهاب، لا أن تواصلا الخطأ فى (التنشين)، ورعاية الإرهاب بوهم النأى عن مخاطره وتوظيفه لدعم مخطط الفوضى الهدامة، لأنهما لم ولن تفلتا من جرائمه.
وثانيا، أن ما يجرى ضد مصر- انطلاقا من فرضية تفجير الطائرة الروسية- غير مسبوق، فلم يحدث مثل هذا بعد تفجير لوكيربى فوق بريطانيا، وتفجير الطائرة الماليزية فوق أوكرانيا، مثلا، ولا بعد اختراق المطارات الأمريكية واختطاف طائراتها وتفجيرها فى برجى مركز التجارة العالمية إبان غزوة 11 سبتمبر الإرهابية!! وكما تضامنت مصر والعالم مع أمريكا فى مواجهة الغزوة الجريمة، كان على أمريكا وأوروبا دعم محاربة مصر للإرهاب، لو توافرت لديها معلومات تتسم بالمصداقية بأن إسقاط الطائرة الروسية كان نتيجة عمل إرهابى، وكان على أمريكا وأوروبا تشجيع السياحة الى مصر، وتعزيز التعاون معها بسد أى ثغرات محتملة تهدد أمن الطائرات المغادرة منها وأمن السائحين بها، لا أن تكافىء الإرهاب. وهذا هو الموقف المبدئى والعملى حتى فى حال ثبوت أى تقصير أمنى محتمل، أو ثبوت اختراق محتمل لخلية إرهابية نائمة، فقد كشفت التحقيقات الأمريكية عن أوجه قصور أمنية فادحة سهلت اختراق عدة مطارات لارتكاب جريمة 11 سبتمبر، فكانت الوقفة ضد الإرهاب لا التوقف عند التقصير.
وثالثا، أن رد فعل دولة صديقة مثل روسيا كان ينبغى - كما تضمن بيان الرئاسة الروسية نفسه- تعزيز التعاون مع مصر لتعزيز أمن الطيران والسياح، وليس مكافأة الإرهاب، وكان يكفى تكثيف التعاون بين أجهزة الأمن والسلطات الجوية فى البلدين، لضمان أعلى معايير الأمن للمواطنين الروس فى مصر، ورفع فعالية الإجراءات الخاصة بأمن الرحلات الجوية الروسية فى المطارات المصرية، وهو ما اتفق الرئيسان بوتين والسيسى عليه، وفقا لوكالة (تاس). وقد يكون القرار الروسى- قصير النظر- لإرضاء فئات غاضبة لأسباب اقتصادية أو سياسية فى الداخل الروسى، أو جماعات معارضة للتدخل العسكرى الروسى فى سوريا، وربما لإرضاء بجانب تصور إرضاء دوائر غربية لن ترضى عن بوتين حتى وإن أقدم على ما يتمنونه من تركيع لمصر، الذى يمثل الجائزة الكبرى لأصحاب مخطط الفوضى الهدامة، دون تهوين من مخطط تفكيك سوريا.
ورابعا، أن قرار روسيا يتسم بالعجلة، حيث لم تظهر التحقيقات التى تشترك فيها أى نتائج بعد. ولا يعدو نيرانا صديقة تلحق أفدح الضرر باقتصاد مصر فى ظل ما يعانيه من أزمة وحصار. ويقينا تدرك روسيا ورئيسها حجم الضرر، فقد أبرز موقع (روسيا اليوم) أن الضربة القاصمة التى تلقتها القاهرة جاءت بإعلان وقف الرحلات الجوية الروسية إلى مصر، مع اتخاذ كل التدابير اللازمة لاستعادة السياح الروس من مصر، وهو القرار الذى سيؤثر بشكل كبير على قطاع السياحة المصرية والفنادق. ووفقا لروسيا اليوم فإن 50% من سياحة شرم الشيخ يعتمد على السياحة الروسية، كما أن نحو 3.2 مليون سائح روسى يزورون شرم الشيخ سنويا، وهو الأمر الذى يصيب شرم الشيخ بالشلل التام قبل أسابيع من عيد الميلاد ورأس السنة!؟
وخامسا، أظن أنه على الرئيس السيسى توجيه خطاب مكتوب- شفاف ورصين- يخاطب الرأى العام الغربى والعالمى، يدعوه للتضامن مع مصر فى محاربتها الإرهاب بكل صوره، ويخاطب الرأى العام المصرى بما يعزز تحالف ثورة 30 يونيو ضد الفاشية التكفيرية والإرهابية. وليته يطرح فى خطابه هدفا الى تصنيع مصر، للحد من الواردات وتنمية الصادرات؛ بدلا من تكريس الاعتماد شبه المطلق على إيرادات مصادر الدخل التصديرية الريعية، والتى تتعرض لتقلبات عنيفة، مثل السياحة والبترول والتحويلات وقناة السويس، وأن يعلن أن النظام الاقتصادى الاجتماعى يرتكز الى تكامل أدوار الدولة والسوق بما يحقق غايتى التخصيص الرشيد للموارد والتوزيع العادل للدخل. وأتصور أنه على الرئيس أن يدعو فى خطابه الى الموقف ـ العملى والمبدئى ـ الوحيد فى مسألة المصالحة مع الإخوان، وهو دمج فى المجتمع غير المدانين بأحكام قضائية باتة وخاصة مرتكبى جرائم الإرهاب، مادام التزموا بمبادىء الدستور وأذعنوا لأحكام القانون، وبعد الحل المحتوم لتنظيمات جماعة الإخوان. ببساطة لأنه هذا هو الطريق الوحيد الذى عرفته العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية مع المنتمين للأحزاب النازية والفاشية والعنصرية فى الدول الديمقراطية؛ لأنه وفقا للدستور لا مكان فى دولة الموطنة الديمقراطية لتنظيمات ودعوات الفاشية التكفيرية والإرهابية بكل صورها.
ويبقى على المصريين أن يثقوا فى انتصارهم وقدرتهم على تحقيق تطلعاتهم، وأقول للشامتين الآثمين: إن الأمة المصرية، شعبا وجيشا، منتصرة دون ريب. نقلا عن الأهرام