علي امتداد الزمان والمكان, ومهما يكن التوافق أو التناقض مع المباديء, فقد انطلقت مواقف الدول دوما من الدفاع عن مصالحها, سواء التقت أو تعارضت مع مصالح الأطراف التي تناصرها أو تعاديها في الصراعات الدولية. وانطلاقا من المصالح المتبادلة جاء قرار التدخل العسكري الروسي الجسور في سوريا لمحاربة الإرهاب وإنقاذا للدولة السورية, تماما كما كان الدعم السوفيتي الإستثنائي لمصر في معاركها من أجل التحرر والتنمية انطلاقا من مصالح مصرية وسوفيتية متبادلة, رغم اختلاف السياق.
وأقصد باختلاف السياق: أن روسيا في عهد بوتين, من جهة, ليست القوة العظمي الاشتراكية السوفيتية, وإن كانت وريثا لأهم قدراتها, وخاصة العسكرية والجيوبوليتيكية, وأن سوريا تحت حكم بشار, من جهة أخري, وبسبب خطايا النظام قد انزلقت الي أزمتها, التي وظفتها قوي الهيمنة العالمية مع قوي عربية وإقليمية لتفكيك الدولة السورية بتسليح وتمويل الفاشية التكفيرية والإرهابية والعميلة. ويفرض اختلاف السياق سؤالان: أولهما, أين يكمن الالتقاء بين مصالح كل من روسيا وسوريا؟ وثانيهما, هل بمقدور التحالف بين موسكو ودمشق أن يحقق غاياته؟
وأسجل أولا, أن روسيا تنطلق من تأكيد مكانتها باعتبارها قوة كبري في النظام الدولي, وأنه ليس بمقدور أمريكا أن تتجاهل مصالحها. وفي هذا السياق تبرز دعوة رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يانكر إلي تحسين العلاقات الأوروبية مع روسيا, وتصريحه بأنه علي الاتحاد الأوروبي أن يستعيد العلاقات مع روسيا, وألا يسمح للولايات المتحدة أن تملي عليه السياسة المتبعة في هذا الشأن. وانتقد يانكر وصف الرئيس الأمريكي باراك أوباما لروسيا بأنها مجرد قوة إقليمية; مضيفا أنه لابد من أن تعامل روسيا بالشكل اللائق.(بي بي سي9 أكتوبر2015). والأمر, أن الولايات المتحدة الأمريكية, التي تحلم باستمرار هيمنة القطب الأمريكي الواحد علي العالم, واصلت السعي الي تركيع روسيا وحصارها, بل وتفكيكها إن أمكن, رغم استسلام موسكو في الحرب الباردة وانهيار النظام الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفييتي وضم دول حلف وارسو الي حلف الناتو!! ومع الصحوة الوطنية الروسية تحت قيادة بوتين, وقرار روسيا باسترداد شيه جزيرة القرم الروسية, والتي كانت قد تنازلت عنها لأوكرانيا في سياق ترسيم للحدود بين الجمهوريات السوفيتية, وفي سياق مخاوف روسيا المشروعة من توجه أوكرانيا للإنضمام الي حلف الناتو, كان دعم روسيا لحلفائها في مناطق غرب أوكرانيا ذات الصلات العرقية والثقافية والجغرافية والاقتصادية بروسيا, فكانت العقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا, وكانت الغطرسة الأمريكية في التعامل المهين مع روسيا, والتي دفعت برئيس المفوضية الأوروبية الي إطلاق التصريح المذكور. وقد تجدر الإشارة هنا الي واقعة مهمة- سجلها الدكتور ممدوح عبد المنعم في كتابه الجدير( روسيا تنادي بحق العودة الي القمة)- حين حذر وزير خارجية قطر مندوب روسيا في مجلس الأمن من استخدام حق الفيتو في المشكلة السورية, فرد المندوب الروسي: إحترم نفسك!! فأنت ضيف علي مجلس الأمن, وما يدور في المجلس هو بين دول عظمي, وإذا تطاولت أكثر من ذلك يمكن أن تري دولتك غير موجودة علي خريطة العالم غدا!!.
وثانيا, أن روسيا تنطلق من استيعاب خطر الارهاب علي روسيا, وأعلن الكرملين أن تنظيم الدولة الإسلامية قد يأتي إلي روسيا ما أن يفرغ مما يفعله بسوريا, وهو ما استوعبه الرأي العام الروسي, رغم ما يعانيه من مصاعب, فاقمها الحصار الاقتصادي الغربي وتدهور أسعار النفط. ونشرت رويترز أن استطلاعات الرأي أظهرت أن نسبة من يؤيدون التدخل العسكري المباشر في سوريا لم تتعد14% من الروس قبل أسبوعين, وارتفعت نسبتهم الي72% هذا الأسبوع.( رويترز,9 أكتوبر2015). وبتوجيه الصواريخ البالستية فائقة الدقة من سفنها الحربية ببحر قزوين لتدمير مواقع داعش وجبهة النصرة كانت رسالة موسكو بأنها لن تنزلق الي حرب برية للدفاع عن مصالحها وحماية أمنها.( روسيا اليوم9 أكتوبر2015). وقد شنت الولايات المتحدة مع شركائها في التحالف الدولي أكثر من7000 ضربة جوية في سوريا والعراق ضد داعش, لكن تأثير هذه الضربات كان محدودا حتي وفقا لأكثر التقييمات تفاؤلا. والأمر أنه يمكن للقوة الجوية أن تحقق الكثير بالتنسيق مع قوات برية للسيطرة علي الأرض, وهنا- كما تعترف بي بي سي- يكمن أعظم الفروق بين الضربات الجوية الروسية وتلك التي تقودها الولايات المتحدة, لأن الجيش السوري النظامي- رغم تكبده خسائر فادحة وتعرضه لانشقاقات- قوة يمكن لروسيا الاعتماد عليها داخل سوريا.( بي بي سي9 أكتوبر2015). وقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها ستوقف تدريباتها لقوات سورية معارضة جديدة؟؟ بعد انتقادات لبرنامجها التدريبي, الذي تكلف500 مليون دولار, بعد أن سلم المقاتلون الذين دربتهم الولايات المتحدة مركباتهم لجبهة النصرة, التابعة لتنظيم القاعدة!! وعلي نقيض رؤية التحالف الأمريكي فان استهداف روسيا للإرهاب ليس انتقائيا, إذ أكد المسئولون الروس أكثر من مرة أن العملية العسكرية الروسية في سوريا تستهدف تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية دون استثناء.( روسيا اليوم9 أكتوبر2015).
ومن منظور مصر, أري أن الموقف المصري- الرافض لإزدواج المعايير في محاربة الإرهاب, والداعم لوحدة الدولة السورية- يجسد دون ريب توافقا بين العملي والمبدئي في السياسة الخارجية المصرية, وهو ما عبر عنه تأكيد وزير خارجيتها حين أكد أهمية مشاركة روسيا في الحرب علي تنظيمات الإرهاب التكفيرية المسلحة في سوريا, بما في ذلك داعش وجبهة النصرة وتنظيم القاعدة وجيش الفتح بغير تمييز, ويأتي متكاملا معه التنسيق المصري الروسي لدفع جهود التسوية السياسية للازمة السورية. ويبقي علي مصر أن تواصل جهدها لتحجيم التداعيات السلبية المحتملة لموقفها علي علاقاتها مع السعودية وأمريكا, اللتين لم تتعلما درس دعمهما للإرهاب الذي ارتد اليهما, بتفجيرات11 سبتمبر في أمريكا والتفجيرات الإرهابية في السعودية, وسيرتد!!. نقلا عن الأهرام