البحث عن المكانة: حول الدور الإقليمي لمصر
فى القرن التاسع عشر، وعندما بدأت تتضح معالم النهضة التى بدأتها مصر فى الاقتباس عن الغرب والثقافة الغربية وفنون الإدارة والتعليم الأوروبية، بعثت اليابان بوفد إلى مصر لدراسة تجربتها فى الانفتاح والتعامل مع القوى الغربية على الصعيد الثقافى والعلمى والتكنولوجى، وكيفية الحفاظ على هويتها وخصوصيتها الحضارية والثقافية واستقلالها، وفى ثمانينيات القرن العشرين وقبل انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، عكف السوفييت على دراسة التجربة المصرية فى الانتقال من الاقتصاد المركزى المخطط الذى تديره الدولة، إلى عتبة اقتصاد السوق الرأسمالية وتجنب مخاطر هذا الانتقال وتداعياته إذا ما استثنينا انتفاضة الخبز فى 18، 19 يناير عام 1977. والقصد من هذه التذكرة أن مصر قادرة بحكم موقعها وتاريخها وثقافتها وخبرتها التاريخية الموروثة والمكتسبة أن تكون ملهمة للآخرين، وبمقدورها أن تقدم إسهاما مؤثرا ليس فحسب بالنسبة للإقليم الجغرافى الذى يحيطها، بل للعالم أيضاً، وفى تقديرى أن هذا الإشعاع الذى تمثله مصر فى الإقليم وفى العالم هو جوهر رسالتها ودورها.
مصر قادرة بحكم موقعها الفريد وتاريخها وثقافتها على بلورة نموذج متكامل فى السياسات الداخلية والخارجية، كما فعلت فى عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر حيث بلورت مصر سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز والاشتراكية العربية ودعم حركات التحرير الوطنى فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ومقاومة الاستعمار، وهذا النموذج تجاوز تأثيره حدود مصر إلى الإقليم العربى والعالم.
أولاً- الثورات المصرية واستعادة الدور الثقافي
فى ظروف ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 وموجتها الثانية فى 30 يونيو عام 2013، يمكن لمصر أن تستأنف مسيرتها لتصنع نموذجا جديدا على ضوء المعطيات والمتغيرات والمستجدات الراهنة وطبيعة الطلب الشعبى والجماهيرى على الديموقراطية والحرية، يتأسس هذا النموذج على دعم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وحريات التعبير والعدالة الاجتماعية والتى لخصتها شعارات الثورة الثلاث "عيش حرية عدالة اجتماعية" وهى الشعارات التى استندت إلى الخطاب العالمى الحقوقى حول حقوق الإنسان وموروث الثقافة السياسية حول العدالة، وتجنبت الدوجمائية القومية والدوجمائية الدينية على حد سواء.
إن هذا النموذج المتمحور حول الديموقراطية هو الذى يكفل استئناف زخم الدور المصرى الإقليمى فى المرحلة الراهنة، لأن المنطقة العربية تطمح إلى حلول متوازنة لتلك الثنائيات المتعارضة التى تدور فيها من زمن طويل منذ بداية التعامل مع الحداثة والتحديث والنهضة مثل ثنائية التراث (التجديد، التقليدية والحداثة أو الأصالة والمعاصرة أو الدولة الدينية والدولة العلمانية، وهنا يكمن الدور المصرى السياسى والثقافى أى ابتكار حلول خلاقة وبناءة لهذه التعارضات أى بناء دولة مدنية تحترم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية فى ضوء احترام الأديان والعقائد وإنقاذ البلاد والعباد من فتنة الإسلام السياسى والطائفية الدينية والعرقية والمذهبية. بيد أن الحديث عن دور مصر الإقليمى لا يعنى بحال من الأحوال أن هذا الدور معطى نهائى وقدر محتوم لمصر، عليها أن تؤديه بصرف النظر عن الظروف، بل يرتبط هذا الدور بقدرة مصر على استعادة الاستقرار وبناء دولة المواطن والقانون وقدرة الدولة على تلبية حاجات المجتمع والمواطنين بل وقدرة مصر على دفع ثمن هذا الدور وتحمل أعبائه وتكلفته، ولن يتأتى هذا لمصر دون دفعة قوية للاقتصاد والإنتاج واستنهاض القدرات والإمكانيات القائمة والمحتملة حتى تستطيع مصر أن تؤدى دورها وألا يكون أداؤها لهذا الدور على حساب الأوضاع الداخلية وأوضاع المواطنين الاقتصادية.
ثانياً- الموقع الجغرافي ومحاولة استعادة الدور
ويعزز من ذلك أن مصر بحكم موقعها وجغرافيتها تمتلك منظومة واسعة من المصالح المتشابكة مع انتماءاتها المتنوعة، فمصر تنتمى للنظام العربى وتنتمى أيضا للشرق الأوسط كما أنها تنتمى لحوض المتوسط وأفريقيا وحوض النيل وكل من هذه الانتماءات ينفرد بأجندة خاصة ومتميزة من المصالح والأولويات التى يتعين على مصر أخذها فى الاعتبار والتعامل معها.
تمكنت مصر بعد الموجة الثورية الثانية فى 30 يونيو عام 2013 من إرساء بعض المبادئ الأساسية التى تسترشد بها السياسة الخارجية المصرية، والتى يتم على ضوئها توجيه هذه السياسة، فى مقدمة هذه المبادئ استقلال القرار الوطنى المصرى ورفض أية إملاءات خارجية، وكذلك استعادة التوازن فى توجهات وعلاقات مصر بالخارج خاصة علاقات مصر بروسيا والصين والهند والبرازيل وغيرها من القوى الكبرى الصاعدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن محاربة الإرهاب والتطرف والدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى وعقد تفاهمات إقليمية مع الدول المعنية بالبؤر الإرهابية فى البلدان المختلفة. قد لا ترقى هذه المبادئ إلى مستوى الرؤية الشاملة لتوجهات مصر الخارجية فى الحقبة الراهنة أو مستوى الوثيقة الرسمية التى تحدد توجهات مصر ضمن استراتيجية للأمن القومى المصرى فى الحقبة الراهنة ولكنها على أية حال بداية مهمة لإحداث النقلة النوعية المطلوبة فى توجهات وسياسات مصر الخارجية. إن مستقبل الدور الإقليمى لمصر يرتبط بقدرة مصر على بلورة نموذج حضارى وسياسى وثقافى للمنطقة يجمع بين الاعتدال والانفتاح على الثقافة الحديثة وبين الخصوصية الثقافية والثقافة الكونية وبين قوة الدولة وقوة المجتمع وبين الحضور الفاعل فى النظام الدولى والعمل على تغيير وتعديل توجهاته إزاء قضايا العرب والمسلمين وبصفة خاصة قضية العرب المركزية وهى القضية الفلسطينية.
ومن البديهى أن الدور المصرى الإقليمى تتوفر له فى الوقت الراهن أحد أهم أركان ومقومات هذا الدور ألا وهو القبول الداخلى لممارسة مصر لدورها، حيث إن جانبا كبيرا من الغضب الثورى الذى رافق مجريات ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 وموجتها الثانية كان يتعلق بتدهور مكانة مصر وتخليها عن دورها وانسحابها، أما القبول العربى فحدث ولا حرج إذ يدرك العرب بصورة متزايدة أهمية دور مصر للمنطقة والإقليم وهذا القبول العربى يجمع بين الصفة الرسمية وغير الرسمية أى بين الدول وبين الشعوب العربية، ومن شأن هذا القبول والترحيب الداخلى والخارجى تحفيز الإرادة المصرية على القيام بأعباء هذا الدور.