الانتخابات الجزائرية: تحديات كبرى وفضاء سياسي مختنق
في الثامن من مايو 2012، أعلن الرئيس
الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عن نيته في التخلي عن السلطة، وقال في خطاب ألقاه
بمدينة سطيف، "طاب جناني، ولا يكلف اللـه نفسا إلا وسعها"(تعبير
بالدارجة الجزائرية، يعني أنه اكتفى ولم يعد قادرًا على الاستمرار في المنصب).
وبمجرد الإعلان عن ذلك، لم تتوقف مؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية
الموالية للسلطة عن المناشدات، مطالبة
الرئيس بوتفليقة بالترشح لفترة (عهدة) رئاسية رابعة. خفّت وتيرة هذه المناشدات بعد
تعرض بوتفليقة إلى وعكة صحية شديدة، أبعدته عن الجزائر عدة أشهر، وعادت بقوة، مع
عودة بوتفليقة إلى الجزائر، رغم ندرة ظهوره ولقاءاته. وفي اللحظة التي ظن فيها
المعارضون، أن الرجل فقد القدرة على إدارة شئون البلاد، يباغت الجميع، بمن فيهم
المولاة، بأحد أهم القرارات الرئاسية، ربما في تاريخ الجزائر بعد التعددية
السياسية، وهو تفكيك جهاز المخابرات، يجيب هذا المقال عن سؤال: كيف يمكن قراءة
الأجواء التي تتم فيها الانتخابات الرئاسية التي ستجري غدًا في الجزائر؟
أولاً:
ثالوث القوة في الجزائر
تتمتع المؤسسة العسكرية وجهاز المخابرات،
بوضع له خصوصية تاريخية في الجزائر، يرجع إلى ثورة التحرير، فبعد الجدل والصراع
بين جناحي الثورة السياسي والعسكري، على طبيعة الكفاح ضد المستعمر الفرنسي، يحسم
الجناح العسكري خيار المواجهة المسلحة ضد الاستعمار، وترتوي أرض الجزائر بمليون
شهيد، وتنتصر إرادة الجزائريين، ويخرج الجيش الوطني الجزائري للوجود، بطلا
للاستقلال، ومن ذلك الحين، والجيش والمخابرات، هما القوة الفاعلة الحقيقية في
إدارة الدولة الجزائرية.
بعد الاستقلال، عاشت الجزائر، كبقية
الجمهوريات العربية المستقلة، مرحلة الحزب الأوحد، وانتقل الصراع المدني-العسكري
إلى داخل حزب جبهة التحرير، وهو ما انعكس سلبًا على أداء الجبهة، كما تذهب عالمة
الاجتماع الجزائرية مغنية الأزرق: "فبعد الاستقلال، ظهر من أداء حزب جبهة
التحرير أنه يحمل في طياته تلك الاختلالات، فعدم كفاية المعالجات السياسية، وتصاعد
دور القوة العسكرية، جعل من الحزب ميدانًا للتناقضات بين البروليتاريا،
والبورجوازية الصغيرة، وأصحاب المشاريع الخاصة، والتكنوقراط. ولأنه نشأ ليعبر عن
كافة القوى الوطنية، ويضم كافة الطبقات، ولم يظهر في أي وقت أنه يمثل طبقة بعينها،
فقد انتهت الباحثة إلى أن حالة الحزب الأوحد في الجزائر، تجسد غياب التمييز بين
الحزب والطبقة والحكومة، وأنه أخفق بسبب ذلك في تضييق الفجوة بين النظرية
والممارسة، وظل يفتقر لثقة الجماهير.
ثانياً:
فرحة التعددية ومأتم العشرية السوداء
ولم تتغير الحال كثيرًا بعد التعددية السياسية، وانقضاء عهد الحزب الأوحد رسميًّا، في عام 1989، رغم ارتفاع الروح المعنوية الجمعية للجزائريين، طامحين في مستقبل ديمقراطي، يبشر بميلاد الجمهورية الثانية، وبأن يتقلص نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية، غير أن القدر لم يمهل الجزائر كثيرًا، فبعد فوز الجبهة الاسلامية للإنقاذ، تدخل الجيش، وتم تعطيل المسار الديمقراطي، لتلج الجزائر أتون حرب عصابات، بين الجيش والجبهة، راح ضحيتها أكثر من 200 ألف جزائري. الأمر الذي أعاد تكريس دور الجيش، والمخابرات العسكرية على وجه الخصوص، فأمست المخابرات تسيطر على مفاصل الدولة، وتتدخل في صناعة القرار، وطالت سطوتها، مؤسسة الجيش، وامتدت هذه السطوة على مستوى الحياة اليومية الجزائرية، فصارت مجالا للقلق والخوف والتهكم الحزين في آن واحد. وحتى صبيحة الانتخابات الرئاسية 2014، تبقى للمؤسستين معًا – رغم الصراعات البينية- الفاعلية الأكبر في الحياة السياسية.
ثالثاً:
المرشح المستورد يتحول إلى زعيم وطني
في ديسمبر 1998، يعلن عبد العزيز
بوتفليقة، العائد بعد سنوات طويلة من الغربة، أنه ينتوي الترشح لمنصب الرئاسة،
كمرشح حر، يوصف في حينها من قبل الشارع الجزائري، بالمرشح المستورد، تنافس
بوتفليقة، مع ستة مرشحين، (حسين آيت أحمد، أحد قادة ثورة التحرير، ومقداد سيفي
التكنوقراطي، الذي رأس الحكومة خلال الفترة من أبريل 1994 إلى ديسمبر1995 ، وعبد
اللـه جاب اللـه، القيادي الإسلامي المثير للجدل، ومؤسس حركة النهضة الجزائرية،
مولود حمورش، مهندس الإصلاحات، ورئيس الحكومة في الفترة من سبتمبر 1989 إلى يونيه
1991، أحمد طالب الإبراهيمي، الوزير السابق، ونجل أحد مؤسسي جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين، صاحبة الدور البارز في ثورة التحرير، يوسف الخطيبي، طبيب
ومناضل في جبهة التحرير). ينسحبون جميعًا قبل الاقتراع بيوم واحد، بدعوى أن الجيش
سوف يساند بوتفليقة في انتخابات مزوّرة. وينجح المرشح الذي لا يعرفه جيل الشباب، بالتزكية، ويتولى
منصبه في أبريل من عام 1999.
وفي غضون ستين يومًا، تحول المرشح
المستورد، إلى زعيم وطني حقيقي، حين أصدر بوتفليقة القانون رقم 99، في 13 يوليو
1999، والذي عرف بقانون الوئام المدني، وبموجبه، أعطى الفرصة لكافة المورطين
والمتورطين في أعمال العنف والإرهاب، لكي يتم إدماجهم في المجتمع مرة أخرى، وتلقّى
الشارع والقوى السياسية والدينية القانون بالرضا والطمأنينة.
رابعاً:
إعادة البناء والتنمية
تفرغ بوتفليقة، في الولايتين الأولى والثانية لإعادة البناء والتنمية، وعلق المواطن آماله على الرئيس الجديد، وبالفعل انشغل بوتفليقة في الفترتين، بإزالة آثار العشرية السوداء، فأعاد ترميم اقتصاد الدولة المهلهل، وقام بضخ الاستثمارات في مشروعات البنية التحتية التي تعثرت أو توقفت، ما أدى إلى تحسن مؤشرات التنمية في تلك الفترة. ولكنه لم يستطع تفكيك شبكة المصالح المستغلة لثروات الجزائر، ورغم براعته السياسية فإنه خضع لمراكز القوة، وذلك عندما قبل في عام 2005 أن يرأس حزب جبهة التحرير، ليمنح الحزب قبلة الحياة، ومن ثم إعادة انتاج نفس أدوات اللعب السياسي الفاعلة منذ مرحلة الحزب الأوحد.
خامساً:
فضاء مختنق وربيع على الأبواب
حافظ بوتفليقة بقوة شخصيته، وبراعته السياسية،
على الإمساك بالخيوط في يده، خلال هذه الولاية، لكن الإنجازات الاقتصادية تراجعت
بشدة، مع توغل الفساد بكافة أشكاله في أروقة البناء الاجتماعي، والمناخ المقيد
للحرية. وفي أعقاب عملية مجمع الغاز في
عين أميناس بجنوب الجزائر، ظهر عجز جهاز المخابرات، وفشلها في تقدير الموقف،
وتنبيه صانع القرار قبل حدوثه. وفي الوقت الذي ظن فيه الجميع أن بوتفليقة لم يعد
قادرًا على اتخاذ القرارات الصعبة، يفاجأ الجميع، بإصدار مجموعة من القرارات
الناجزة، بتفكيك بعض مديريات الجهاز، وإلحاقها برئاسة أركان الجيش، وأيد الجيش هذه
القرارات، كما أنها وجدت ترحيبًا من الشارع الجزائري.
سادساً:
المنافسة المحصورة
لا أظن أن الرئيس بوتفليقة راغب بشكل
شخصي في الاستمرار في الحكم، أو أن شهوة الحكم قد تملكته، لكن يبقى السؤال: ما
الذي يمكن أن يقدمه بوتفليقة، من جديد في ملفات: العلاقة بين الجيش والمخابرات
والرئاسة، أزمة الدستور، مشكلة الحريات، التيبس الذي أصاب عملية تداول السلطة،
الفجوة الجيلية العميقة داخل النظام السياسي، الفساد المستفحل، البطء الذي أصاب
برامج التنمية في السنوات الأخيرة، البطالة المحبطة، التحديات التي تواجه الأمن
الوطني، من الجماعات الإرهابية والمتطرفة، الوضع المضطرب على الحدود الجزائرية
شرقًا وغربًا وجنوبًا، وفوق ذلك وبسببه، حالة اليأس الذي تخيم على الشارع الجزائري
في أجواء فضاء مختنق. ربما يرغب الرجل أن يختتم خدمته الرئاسية، بإجراء إصلاح عميق
في الملفات المذكورة، فهل يمكن أن يولد الأمل من رحم اليأس.
المراجع:
-
مغنية الأزرق، نشوء الطبقات في الجزائر، دراسة في الاستعمار والتغيير الاجتماعي-
السياسي، ترجمة سمير كرم، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1980).
خبير
بالمركز العربى للبحوث والدراسات