خطة كيري... هل تنجو من لعنه التسوية؟!
تعانى عملية التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي، خاصة في جانبها
المتعلق بالقضية الفلسطينية، من تعثر وفشل يلاحقانها كالقدر، منذ أوسلو في عام
1993، وهذه التسوية تنتقل من فشل لآخر، وما أن تتقدم خطوة حتى تعود إلى الوراء
خطوتين، تشبه عملية التسوية إحدى الديانات الوثنية القديمة التي يتذكرها بعض مريديها
بين الفينة والفينة، فيقومون بتأدية شعائرها وطقوسها بطريقة روتينية ومكررة، وفى
الكثير من الأحيان مملة؛ وكأنهم لا يؤمنون بها فعلاً ولا يعتقدون في جدواها، أو
أنهم فقدوا الثقة في مبادئها والأسس التي ترتكز إليها.
وفى كل مرة تقام شعائر وطقوس هذه التسوية ينقسم المراقبون، ليس العرب فحسب
بل والأجانب أيضاً، ما بين متفائل ومتشائم بمصير تلك الجولة أو الجولات المتتالية
من هذه التسوية؛ وغالباً ما يكون الصواب في جانب المتشائمين باختصار لأنهم يعرفون
معوقات هذه التسوية وأين مكمن الخلل فيها؟، ولماذا تدور تلك العملية في حلقة مفرغة
وشريرة؟ تعود بها في كل مرة إلى نقطة الصفر أو المربع رقم واحد؛ رغم تراكم وبلورة
معالم الحل للمشكلات القائمة، تلك المعوقات وهذا الخلل يتلخصان في عبارة مختصرة
ألا وهى اختلال موازين القوى لصالح الطرف الأقوى أي إسرائيل؛ ليس فحسب على الصعيد الفلسطيني
الإسرائيلي، بل أيضاً على الصعيد العربي الإسرائيلي.
دخل جون كيري، وزير الخارجية الأمريكية، على خط التسوية في الولاية الثانية
للرئيس أوباما، رغم أنه قد رأى بعينه وسمع بأذنيه فشل رئيسه في إلزام إسرائيل
بتجميد الاستيطان، وهو الشرط الذي كانت قد وضعته السلطة الفلسطينية لبدء المفاوضات
بعد توقفها أعواماً ثلاثة؛ والحال أن وزير الخارجية الأمريكي ومعه الولايات المتحدة
الأمريكية والسلطة الفلسطينية، مدعومة بمنظمة التحرير الفلسطينية، ولجنتها
التنفيذية قد قبلا الدخول في مثل هذه المفاوضات قبل تحقق وقبول إسرائيل شرط
استئنافها، وذلك بعد جولاته العديدة في المنطقة التي تعيد إلى الأذهان جولات سلفه
الأسبق كيسنجر منذ ما يفوقه الثلاثين عاماً.
يعتقد جون كيري أن الوصول إلى "أي اتفاق حتى ولو كان ناقصاً خير من
ألا يتم التوصل إلى اتفاق على الإطلاق"، بيد أن هذه الصياغة قد لا تفي بالهدف
الحقيقي من التسوية ألا وهو تحقيق وتنفيذ السقف الدولي المقبول عربياً وفلسطينياً
للتسوية؛ وهو حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية في حدود عام 1967 بجانب دولة
إسرائيل وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين والقدس، والحدود، وهى القضايا الأساسية التي
يتوجب حلها في أية تسوية، من ناحية أخرى فإن أي اتفاق أفضل من لا اتفاق يتجاهل
طبيعة القضية الفلسطينية والحدود الدنيا المقبولة فلسطينياً وعربياً للحل حتى
يستطيع مثل هذا الاتفاق الصمود والحياة والقابلية للتنفيذ.
أولا: مفهوم جون كيري للتسوية
لم يستطع جون كيري إحداث اختراق سياسي
لإحياء العملية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين، بسبب "اللاءات
الإسرائيلية" المتكررة لإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 ووقف
الاستيطان وتقسيم القدس مقابل الاعتراف الفلسطيني بيهودية دولة إسرائيل، وبرغم ذلك
فقد أعلن خطته أمام المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في 25 مايو عام 2013 في
البحر الميت، باعتبارها أحد مسارات ثلاث بجانب المسار السياسي والأمني وأنها كفيلة
بإحداث انفراجة "جدية وملموسة".
استوحى وزير الخارجية الأمريكي خطته من المفهوم الإسرائيلي للسلام خاصة
السلام الاقتصادي "بمعناه المزدوج العمالي، الذي طرحه بيريز في مشروعه للشرق
الأوسط الجديد، والليكودي الذي طرحه نتنياهو والذي يتركز على تحسين شروط حياة
الفلسطينيين الاقتصادية والإبقاء على الاحتلال، وتجاهل المضمون التحرري للنضال الفلسطيني
من الاحتلال الإسرائيلي، وقيام الدولة الفلسطينية.
والحال أن جون كيري استبدل المسار التفاوضي السياسي بإجراءات اقتصادية
هدفها تحسين الوضع الاقتصادي في الأراضي المحتلة واعتبار ذلك حافزاً يشجع السلطة
الفلسطينية على الجلوس إلى مائدة التفاوض، وتجاهل شروط المرجعية المعتمدة
للمفاوضات ووقف الاستيطان.
وضع كيري خطته في إطار ما أسمى "بناء الثقة" لتهيئة أجواء
التفاوض بين الطرفين، من خلال إزالة بعض الحواجز العسكرية وتسهيل حركة التنقل
وتوسيع نطاق سيطرة السلطة خاصة في المنطقة (ج) وفق اتفاق أوسلو عام 1993، وكذلك
تطوير البنية التحتية وتخفيف قيود البناء والإفراج عن أسرى ما قبل أوسلو.
تتضمن هذه الخطة ضخ 4 مليارات من الدولارات كاستثمارات في الأراضي المحتلة،
وهذه الاستثمارات ستدفع نحو زيادة الناتج المحلى الإجمالي الفلسطيني بنحو 50% في
ثلاث سنوات، وتخفيض نسبة البطالة إلى الثلثين وتزيد من قيمة المرتبات بنحو 40%،
بالإضافة إلى ذلك السماح للسلطة باستغلال الفوسفات من البحر الميت وتطوير حقول الغاز
أمام شواطئ غزة.
وقد تحفظت السلطة الفلسطينية على هذه التسهيلات الاقتصادية، واعتبرت أن ذلك
ليس موضع الاهتمام الشعبي والرسمي، وأن
المطلوب عملية سياسية جادة وفق أسس واضحة لإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة
الفلسطينية المستقلة في حدود 1967، وانتقدت القوى والفصائل الفلسطينية هذه المحصلة
التي انتهت إليها جولات كيري المكوكية، وأنها تجاهلت جوهر القضية الفلسطينية.
ورغم انخفاض سقف خطة جون كيري والتفافها على أسس ومرجعية وجوهر القضية
الفلسطينية، فإن ما تضمنته هذه الخطة يتناقص مع الوقائع التي خلقها الاحتلال الإسرائيلي
على الأرض؛ حيث أحكم الاحتلال السيطرة على المنطقة (ج) في الضفة الغربية، وقام
بنهب الموارد الطبيعية الفلسطينية، والهيمنة على مفاتيح الاقتصاد والمعابر والحدود
والتجارة والتنقل عبر الجدار العنصري والطرق الالتفافية والاستيطان وحصار غزة وعزل
القدس.
ثانيا: الظروف الإقليمية والدولية لجولة التسوية الحالية
تجئ هذه الجولة من التسوية في ظروف إقليمية ودولية تبدو لغير صالح الطرف الفلسطيني
والعربي، وأن محصلة التغير في البيئة الإقليمية والدولية تتجه لتعزيز التصلب الإسرائيلي
إزاء حقوق الشعب الفلسطيني.
فمن ناحية، أفضى المناخ الذي رافق الثورات العربية في مصر وتونس واليمن
وليبيا وسوريا إلى انصراف الاهتمام الدولي والإقليمي لحصاد هذه الثورات والتوازنات
التي ستسفر عنها، وعلاقة هذه التوازنات بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية
والاتحاد الأوروبي في المنطقة، ومن ثم فالقضية الفلسطينية وفقاً لذلك تشهد تراجعاً
في الاهتمام الدولي والإقليمي.
ومن ناحية أخرى، فإن الثورات العربية والنظم التي أفضت إلى إقامتها، لم
تعزز مركز القضية الفلسطينية- ولو إلى حين- بل بدت هذه الثورات وكأنها وضعت أجندة
جديدة أمام هذه النظم قوامها الأوضاع الداخلية ومواجهة التحديات خاصة الاقتصادية
والمعيشية التي أطلقتها الثورات من عقالها، وبناء نظم جديدة في طريقة التحول
الديمقراطي، والحال أن الثورات لم تفضي إلى تغير طبيعة التوازنات القائمة بين
العرب والفلسطينيين وإسرائيل، بل على العكس من ذلك تبددت مخاوف إسرائيل من صعود
الإخوان المسلمين وحلفائهم إلى السلطة، وتأكدت من حرص هؤلاء على معاهدة السلام
والاحتفاظ بالعلاقات الطيبة مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، أو على الأقل
التأكد من الإبقاء على المعاهدة مع إسرائيل على ما هي عليه، ودخول مصر بالتحديد في
مهمة البناء الداخلي التي تستغرق وقتاً يمكن إسرائيل من تعبئة مواردها لمواجهة
كافة الأخطار المحتملة.
لقد طغى اهتمام الولايات المتحدة والدول الأوروبية بمعالجة الملف النووي الإيراني،
ونجح أوباما ووزير خارجيته في عقد الاتفاق المعروف مع إيران، وتنشغل إدارتها
الحالية بإعادة ترتيب الأوراق والأدوار في الإقليم الشرق أوسطى، والامتناع عن
التدخل العسكري على النحو الذي ميز الإدارة السابقة "بوش"، واكتشف
أوباما بعد رفض إسرائيل لتجميد الاستيطان أن نتيناهو يحظى بشعبية في الكونجرس أكثر
منه!.
وربما من أجل ذلك كله اكتشف كيري ومعه الإدارة الأمريكية أن الفرصة مواتية،
لعقد اتفاق حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يصب في مصلحة إسرائيل، ويستثمر المناخ
السائد عربياً وفلسطينياً ودولياً لتوفير غطاء سياسي لمثل هذا الاتفاق.
يعتقد العرب أن أوباما في ولايته الثانية سوف يتحرر من ضغط اللوبي الصهيوني
واليهودي والأصوات التي يستحوذ عليها في الانتخابات، ومن ثم فسوف يكون أكبر قدرة للتعاطي
مع ملف القضية الفلسطينية، في حين تشير الشواهد خاصة المتعلقة بخطة كيري، إلى
انحياز الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب الأقوى أي إسرائيل وليس إلى جانب
الفلسطينيين والعرب.
ثالثا: مصير خطة كيري وجولة التسوية الحالية
يتراوح مصير خطة كيري للتسوية بين دوافع النجاح التي تحيط بها ودوافع الفشل
التى يمكنها أن تعرقلها، ويتوقف الأمر على محصلة هذه العوامل المتشابكة
والمتداخلة.
في مقدمة عوامل النجاح لهذه الخطة ربما يكون ضعف حركة حماس وافتقادها
للظهير الإخواني المصري، ومن ثم ضعف المعارضة التي يمكن أن تقودها في مواجهة ما
يسفر عنه التفاوض، خاصة مع اضطراب الأوضاع في سوريا ووقوف حماس مع المعارضة
وفقدانها لدعم سوريا، وربما ضعف الدعم الإيراني، بيد أن هذا الدافع لا يمكن التعويل
عليه في حالة التوصل لاتفاق لا يحوز رضا وتوافق الفلسطينيين في مجملهم؛ حيث ثمة
حركات وفصائل أخرى قد تبادر إلى رفض الاتفاق خاصة إذا ما تضمن تنازلات واضحة فيما
يتعلق باللاجئين والحدود والقدس.
والحال أن ضعف حماس قد يرى باعتباره عاملاً يدفع القيادة الفلسطينية للسلطة
والمنظمة لتوقيع اتفاق تتمكن من احتواء نتائج معارضته. من ناحية أخرى، فإنه على
الجانب الإسرائيلي فإن الفرصة قد تبدو مواتية لانتزاع تنازلات فلسطينية جديدة في
ظل قيادة فلسطينية أقل تشدداً، ووضع فلسطيني يتميز بعمق الانقسام، وعدم القدرة على
تجاوزه عبر تعطيل مسار المصالحة وعدم تفعيل مبادئها المتفق عليها.
يضاف إلى ذلك توفر بيئة إقليمية أفضل نتيجة تعثر مسارات الإصلاح والثورة
والتغيير، وانهيار محور الممانعة وضعفه وتعزيز مواقع محور الاعتدال في الساحة
العربية واستعداد أمريكي غربي لاستثمار حالة الضعف والفوضى والصراعات التي تشهدها
المنطقة لتكوين خريطة جديدة تتوافق مع تركيبة المصالح الغربية الإسرائيلية في
المنطقة.
يعزز من هذه العوامل إدراك الإسرائيليين لمخاطر الديموجرافيا الفلسطينية
على مستقبل الهوية اليهودية للدولة، وأن مستقبل إسرائيل مرهون بتحولها إلى
"دولة طبيعية" وأن الطريق الوحيد لذلك هو إقرار تسوية تنهى حالة الصراع.
في مقابل هذه العوامل التي قد تدفع في اتجاه إنجاح التسوية، توجد مجموعة أخرى من
العناصر التي تعمل في اتجاه مضاد، أي إفشال هذه الحلقة من التسوية، في مقدمة هذه
العناصر عدم قدرة الجانب الفلسطيني على تقديم تنازلات أخرى إضافية، وصعوبة ترويج
ذلك في الوقت الحاضر، في نفس الوقت فإن الإسرائيليين بدورهم غير مهيئين لتقديم
تنازلات للفلسطينيين، فالحكومة متطرفة وكذلك المجتمع الإسرائيلي أيضاً.
يضاف إلى ذلك عدم رغبة الطرف الأمريكي في الضغط على إسرائيل، أو عدم قدرته
– لتقديم تنازلات للشعب الفلسطيني، وكذلك عدم استقرار البيئة الإقليمية العربية
والإسلامية التي تتسم بعدم اليقين وعدم السيطرة على تفاعلاتها، وهو الأمر الذي قد
تفقد معه أية تسوية معناها وجدواها مع أي تغير في هذه البيئة، كما وأن الاستراتيجية
التفاوضية الإسرائيلية تقوم أساساً على "إدارة الأزمة" والصراع وليس
حلهما، وتغيير المعطيات على الأرض عبر الاستيطان والمصادرة والتهويد.
يتوقف مصير خطة كيري على محصلة عناصر النجاح والفشل المحيطة بها، والكيفية التي
سيتم العمل بها لتعظيم آثار هذه العناصر وتغليب بعضها على بعضها الآخر، ويرتبط هذا
الأمر بدور الطرف الأمريكي واستعداد الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي للدخول في صلب
القضايا المطروحة خاصة وأن المفاوضات السابقة والتي انتهت إلى الفشل قد خلفت
عنصراً إيجابياً وحيداً؛ أولا وهو توفير الحلول الممكنة لكافة القضايا المطروحة
سواء تعلق الأمر بتبادل الأراضي أو قوات
الإنذار المبكر والأمن ومصير المستوطنات والحدود والقدس.
على ضوء ما تقدم فإنه يمكن القول: أن مصير خطة كيري وجولة التسوية الحالية
قد تفضي إلى أحد الاحتمالات الآتية:
الاحتمال الأول:
التوصيل إلى اتفاق حول قضايا الوضع النهائي؛ أي اتفاق يؤكد إقامة دولة
فلسطينية منزوعة السلاح على حدود عام 1967 باستثناء ما تعلق منه بتسليح أجهزة
الأمن مع تبادل محدود للأراضي بالنسب المعروفة، مع وجود ممر آمن يربط بين غزة
والضفة الغربية، بالإضافة إلى حل رمزي لقضية اللاجئين تحت شعار "جمع شمل
العائلات" ودرجة ما من السيادة في شرقي القدس، وبعض الضمانات لكلا الطرفين،
وذلك مقابل قبول معظم الدول العربية للتسوية وتطبيع العلاقات بين الدول العربية
وإسرائيل.
الاحتمال الثاني: إعلان مبادئ جديدة
تقر بموجبه الأطراف بعدم جاهزيتها للتوصل لحلول دائمة، لقضايا الوضع النهائي،
والموافقة على إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة في مساحة 60% أو 70% من الضفة
الغربية، واستمرار احتفاظ إسرائيل بالسيطرة على المداخل والمخارج والمعابر في
انتظار الحل النهائي.
ويعنى هذا الاحتمال الدخول في مفاوضات أخرى لتفسير وتأويل المبادئ المتفق
عليها، وإعادة إنتاج مسار أوسلو بمسميات مختلفة وربما مصير مشترك.
الاحتمال الثالث:
ترتيبات مؤقتة الهدف منها تجنب إعلان الفشل وانهيار المفاوضات، والتمهيد
لترتيبات جديدة على غرار توسيع محدود للمناطق التي تديرها السلطة ومزيد من
المحفزات والتسهيلات الاقتصادية وإطلاق سراح بعض الأسرى.
الاحتمال الرابع:
إعلان فشل المفاوضات ويتضمن ذلك انسحاب إسرائيل من المفاوضات وعزم الجانب الإسرائيلي
على الانسحاب من المناطق التي يريدها دون مفاوضات مع الفلسطينيين على غرار ما حدث في
غزة، ووفق مفهوم الأمن الإسرائيلي والمصالح الأمنية الإسرائيلية، أو إعلان فشل
المفاوضات مع إبقاء الأمور كما هي عليه، ويستند هذا الأمر على أساس أن أية تنازلات
إسرائيلية لا يقابلها فوائد وعوائد ملموسة لإسرائيل، وأن بناء الحقائق على الأرض
قد يجبر المفاوض الفلسطيني على قبول الرؤية الإسرائيلية والأمر الواقع الإسرائيلي.
وإذا ما قدر للفلسطينيين ألا يتوصلوا إلى حلول مرضية لتطلعاتهم المشروعة في
حدودها الدنيا المقبولة فلسطينياً وعربياً ودولياً، وألا يخرجوا منها بمكاسب
ملموسة ومقبولة، فعلى الأقل ينبغي ألا يخسروا المزيد من النقاط في جولة التفاوض
الراهنة.
من بين هذه المحاذير التي تجنب الفلسطينيين خسارة المزيد من النقاط، هو
العمل على ألا يتحمل الفلسطينيون نتيجة الفشل إعلامياً وسياسياً ومسئولية هذا
الفشل، على غرار ما حدث في كامب دافيد 2000، عندما تمكنت إسرائيل وحلفاؤها من
تحميل عبء الفشل للقيادة الفلسطينية، التي صمتت حينئذ بسبب عنف الحملة الإعلامية،
ولم تتضح الصورة الحقيقية لما حدث في عام 2000 إلا متأخراً، عندما كتب بعض ذوى
الصلة بالمفاوضات بعض التوضيحات.
من ناحية ثانية، فإنه ينبغي تجنب فخ إعلان المبادئ تمهيداً لبحث القضايا
فيما بعد، فمثل هذا الإعلان سيخضع مرة أخرى للتأويل والترجمة والتنفيذ، وكل هذه
العمليات سترتكز على علاقات القوى القائمة، أي أن إسرائيل هي التي ستحظى بنصيب
الأسد من هذه التأويلات وفق مفهومها للسلام.
وأخيراً وليس آخراً أن تلتزم القيادة الفلسطينية بالوفاء بوعدها للشعب الفلسطيني
بإجراء الاستفتاء حول ما تم الاتفاق عليه، وذلك وفق الضمانات الديمقراطية
المعروفة، وضمان مشاركة كافة فصائل العمل الوطني الفلسطيني لعرض وجهات نظرها في
الاتفاق، وخضوع الاستفتاء للمعايير الدولية للمراقبة المعمول بها في مثل هذه
الحالات.
أما من الناحية السياسية فيجب توفير ظهير عربي رسمي وشعبي للمفاوض الفلسطيني،
وبعث العمق العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، حتى يمكن التقليل من آثار اختلال
موازين القوى على المحصلة النهائية للمفاوضات، وذلك يستلزم إعادة دمج القضية
الفلسطينية ضمن جدول أعمال أنظمة ما بعد الثورات العربية على نحو أو آخر، وبالطرق
والأساليب الممكنة في ظل الأوضاع الراهنة.
من ناحية أخرى فإن إعادة هيكلة الوضع الفلسطيني تبدو مهمة لا غنى عنها، إن في
جولة المفاوضات الحالية أو في غيرها من الجولات ونقصد بذلك إتمام المصالحة
الفلسطينية وإنهاء الانقسام والتحدث بصوت موحد للمجتمع الدولي وفى مواجهة إسرائيل،
وتفعيل مبادئ المصالحة التي تم إقرارها فيما سبق، وإدراك أن استمرار الانقسام لا
يخدم لا القضية الفلسطينية عامة ولا التفاوض خاصة وكما تبدو مهمة استعادة وحدة
القضية الفلسطينية شديدة الأهمية وهذه الوحدة تعنى إنهاء الفصل بين الداخل والخارج
أي استعادة اللُّحْمة بين قضية اللاجئين والفلسطينيين في الداخل، وإعادة نظم
العناصر المختلفة للقضية الفلسطينية في إطار منظومة موحدة لا يمكن حل أحد جوانبها
دون حل مختلف الجوانب الأخرى.
وإذا كان كيري يؤكد أن "أي اتفاق خير من لا اتفاق" فإنه بمقدورنا
القول أن العبرة ليست بعقد الاتفاق، وإنما العبرة بالوفاء بالمطالب المشروعة للشعب
الفلسطيني المعترف بها عربياً ودولياً، ومن ثم فإنه يمكن القول" أن لا اتفاق
أفضل بكثير من اتفاق" لا يحقق أهداف الشعب الفلسطيني.
هذا جزء من
مقال نشر فى العدد الثانى من مجلة آفاق سياسية
* مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام