التحول في ليبيا: آفاق المصالحة بعد القمة العربية وعاصفة الحزم
هي ذات المشكلة التي تواجه دول الربيع العربي، حين يتم إسقاط رموز النخبة الحاكمة، فينكشف المجال السياسي، وتظهر عورته التاريخية، ورخاوة التربة التي تأسس عليه هذا المجال منذ استقلال البلدان العربية. في ليبيا الأمر لا يختلف، مع أنه أقل تعقيدا من الحالتين اليمنية والسورية، إلا أنه لا يقل خطورة. بعدما تصدرت المشهد نخب سياسية-عسكرية هنا وهناك، ليست إفرازا لتطور بنيوي تاريخي، ولا تملك ظهيرا اجتماعيا معتبرا، وإنما هي إفراز المؤقت والراهن المحلي والإقليمي والدولي على حد سواء. في ظل هذا الوضع المأزوم تُطْرَح الأسئلة الجديدة التي كانت مطوية في حزم الأسئلة القديمة التي لم نجد لها حلا: كيف تطورت الأزمة السياسية في ليبيا؟ ما المنطق الذي يقف خلف المصالحة، وهل يقبل الفرقاء بتشكيل حكومة وحدة وطنية؟ هل تأثرت جهود المصالحة بقرار الجامعة العربية الأخير الداعي إلى تشكيل قوة عسكرية عربية مشتركة؟ وهل تأثرت الحالة الليبية بشن الحرب لتمكين الرئيس الشرعي في اليمن؟
أولاً- مراحل تطور الأزمة السياسية الليبية
صحيح أن العنف لم يتوقف لحظة واحدة منذ سقوط نظام القذافي، فقد استمرت الفصائل السياسية-العسكرية تمارس هيمنتها على الشارع، ونجح البعض منها في بسط الهيمنة على أجزاء من التراب الليبي، وصل لحد المطالبة بتقسيم ليبيا تقسيما فيدراليا في بداية عام 2012، ثم إعلان درنة ولاية إسلامية تابعة لخلافة دولة البغدادي في العراق والشام. ووجود قسمة ثنائية بين ما يسمى الطرف الشرقي والطرف الغربي في الأزمة الليبية.
ومع ذلك فإن بداية الخلاف السياسي الحقيقي، يعود إلى ثلاثة تحولات أدت إلى تفاقم الأزمة الليبية، يمكن عرضها على النحو التالي:
(1) مماطلة المؤتمر الوطني العام في استكمال خارطة الطريق التي حددها الإعلان الدستوري، ونذكّر القارئ بأن هذه الهيئة قد انتخبت في يوليو 2012 انتخابا حرا، بناء على هذا الإعلان ، ومن بين مهام هذه الهيئة الدعوة لانتخابات عامة في مهلة عام ونصف العام تنتهي في فبراير 2014.
وخلال فترة ولاية المؤتمر الوطني، جرت أسوأ ممارسة سياسية، فالتيارات الإخوانية والسلفية، أدارت العمل داخل المؤتمر، بطريقة همجية تعسفية، الاحتكام فيه لم يكن سوى للقوة، وصار من المألوف تمرير القرارات عنوة داخل لجان المؤتمر، تحت تأثير القوة العسكرية للميليشيات الإخوانية والسلفية، مع تعقب المخالفين، بالترهيب، الذي يصل حد السحل أو الاختطاف أو القتل كما شاهدنا أكثر من مرة خلال فترة ولاية هذه الهيئة، وبطبيعة الحال فإن أعضاء المؤتمر الوطني كانوا على يقين بأنهم يفقدون الشارع الليبي، ولا سبيل أمامهم سوى الافتئات على الديمقراطية، للحيلولة دون اجراء الانتخابات البرلمانية.
وقبيل انتهاء المهلة الدستورية، أقدمت التيارات الإخوانية والسلفية داخل المؤتمر على إجراء تعديل دستوري يتيح لهم البقاء حتى ديسمبر 2014. وهي القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد انتفض الليبيون معارضين لهذا التعسف. وأسفرت هذه الصحوة الشعبية عن انصياع المؤتمر للرأي العام، والبدء في اجراءات الانتخابات البرلمانية.
(2) جاءت نتيجة الانتخابات البرلمانية، لتضع النقاط على الحروف بكل وضوح، وأعلن الليبيون أنهم مع خيار الدولة المدنية، ومُنِيَ تيار الإخوان بهزيمة ثقيلة في الانتخابات. وهنا جرى تفجير الوضع الأمني بصورة متصاعدة ومتلاحقة، من قبل الطرف الخاسر، الذي لم يقبل بالنتائج ولم يعترف بشرعية البرلمان المنتخب في أي وقت من الأوقات، وانقسمت ليبيا إلى شطرين: بحيث أصبح البرلمان المنتخب وبقايا الجيش الليبي، في دائرة مركزها طبرق من جهة الشرق، والمؤتمر الوطني المنتهية ولايته وغالبية كتائب الاخوان والسلفيين والغرب الليبي في دائرة مركزها طرابلس في جهة الغرب.
(3) ولأن الشرعية والاعتراف الدولي باتا من نصيب البرلمان المنتخب، فلا بد من منازعته في هذه الشرعية، وهو ما حدث بالفعل بالضغط على المحكمة الدستورية العليا، ترهيبًا وترغيبًا، وصدر حكمها العجيب بحل البرلمان في السادس من نوفمبر 2014، هذا الحكم لم يمنح شرعية للمؤتمر الوطني المنتهية ولايته، ويحجبها عن البرلمان المنتخب فقط، ولكنه أسس لنزاع طويل الأمد في ليبيا.
ثانياً- منطق المصالحة الوطنية ومغالطاته
الأزمة الليبية، تتشابك فيها المصالح بصورة شديدة التعقيد، فدول الجوار لكل منها مصالحها، البعض يخشى من تحول ليبيا إلى دولة فاشلة وتغدو مركزًا للتطرف والإرهاب في الشمال الإفريقي، وعلى النقيض البعض يسعى لذلك. بعض الدول ترتبط عضويا بالدولة الليبية، بصورة أو بأخرى مثل مصر والجزائر وتونس. والبعض الآخر يسعى لفك الارتباط بين ليبيا وجارتيها الكبيرتين (مصر والجزائر) وعلى المستوى الإقليمي والدولي، توجد تركيا وقطر وربما إيران، والاتحاد الأوربي بخاصة فرنسا وايطاليا، والولايات المتحدة والأمم المتحدة. الجميع يحاول حل أو تعقيد الأزمة الليبية بطريقته ووفقا لأهدافه ومصالحه. بدليل تعدد مسارات حل الأزمة، بداية من اجتماعات جنيف في يناير 2015، ثم الاجتماعات التي تعقد في المغرب والجزائر وبروكسل ومصر، فالمفاوضات في المغرب لممثلي المجتمع المدني، وفي الجزائر للزعماء والناشطين السياسيين، وفي بروكسل لممثلي المجالس البلدية، يناقشون إجراءات بناء الثقة، واجتماع آخر متصل بالجماعات المسلحة.
ولا شك أن البعض يحاول إيجاد مخرج حقيقي للأزمة، بينما يروج البعض – وتحت مظلة الأمم المتحدة- لحلول تكسر إرادة المواطن الليبي، معتمدين منطقا لإتمام هذه المصالحة به العديد من المغالطات، حيث نجد أنه (1) منطق يفترض وجود أطراف متساوية الشرعية، وهو ما يرفضه غالبية الليبيين (2) ينطلق من مغالطة أن القوى السياسية المدعوة لحل الأزمة منبتة الصلة عن الإرهاب الذي تشهده ليبيا، وفي ذلك خلط كبير للأوراق، وتبرئة لساحة قوى سياسية-عسكرية متلوثة بدماء الليبيين، وتبرئة لساحة قوى إقليمية متورطة في تأجيج الصراع الليبي، ولدينا في هذه النقطة اتهامات صريحة وجهها رئيس الوزراء الليبي عبدالله الثني لكل من قطر والسودان وتركيا (3) يقصي المواطن من المعادلة، ويعصف بكل الاجراءات الديمقراطية، والتضحيات التي بذلها الليبيون من أجل تغيير النظام القديم.(4) تحاول بعض الأطراف الراعية للاجتماعات هنا وهناك تكريس فكرة عدم وجود جيش ليبي، يقف خلفه الليبيون ويعتبرونه الأداة الباقية لعودة الدولة، وفي ذلك تجاهل لحقيقة تاريخية تقول بأنه تلزم هيمنة قوة عسكرية شرعية على الأرض لإنفاذ المصالحة.
ثالثاً: قرارات القمة العربية وعاصفة الحزم.. هل من تأثير؟
قبل التفكير في تأثير قرارات القمة العربية وعاصفة الحزم، لا بد من العودة إلى الوراء قليلا والنظر في ثلاثة متغيرات: أولا، قبل الغارة الجوية المصرية على مواقع داعش، ردا على المذبحة البشعة التي ارتكبت ضد المصريين، كانت عمليات الجيش الليبي، المدعومة بقوات اللواء حفتر، تتقدم ببطء ورتابة شديدين، وبعد الغارة واستثمارًا لتأثيرها المادي والمعنوي، تحولت وتيرة الأعمال العسكرية إلى السرعة والدقة وتحقيق المكاسب. ثانيًا، دعم البرلمان المنتخب لعملية الكرامة، ثم تصديقه على تعيين اللواء حفتر قائدا عاما للجيش الليبي، ما أدى إلى دمج قوات حفتر في الجيش الليبي تحت قيادة واحدة، وبدأت الآثار الإيجابية تظهر في التقدم نحو السيطرة على بنغازي ثم التخطيط لاستعادة العاصمة طرابلس. ثالثا، صدور قرار مجلس الأمن رقم 2214، قبل انعقاد القمة العربية بيومين، وفيه إشارة واضحة على اعتبار التنظيمات الارهابية في ليبيا، تنظيمات تهدد السلم والأمن الدوليين، وتضمن القرار مطالبة لجنة العقوبات المشرفة على توريد السلاح إلى ليبيا، بسرعة البت في طلبات التسليح المقدمة من الحكومة الليبية لمكافحة الإرهاب. هذه المتغيرات الثلاثة، دعمت كثيرا من موقف الحكومة الليبية، في حربها ضد الارهاب، وسعيها لبناء جيش وطني خالي من العناصر المتطرفة.
وإذا انتقلنا لأثر عاصفة الحزم لاستعادة الشرعية في اليمن، فعلى الرغم من أن هناك اختلافات كثيرة بين الحالتين اليمنية والليبية، فإن تأثير هذه العملية، يكمن في أن الدول العربية أظهرت قدرتها على المبادرة في إعادة تشكيل توازن القوى في المنطقة. أما قرار القمة بتشكيل قوة عربية مشتركة، اختيارية ومقصورة على الدول العربية، وتعمل تحت مظلة الجامعة العربية، فإن له مردودا كبيرا على موازين القوى في الداخل الليبي، حتى وإن كان على المدى المتوسط.
ويبقى الأثر المباشر والفعال لقمة شرم الشيخ ، في بيانها الختامي الذي دعا إلى تقديم الدعم السياسي والمادي الكامل للحكومة الشرعية بما في ذلك دعم الجيش الوطني، ومطالبة مجلس الأمن بسرعة رفع الحظر عن واردات السلاح إلى الحكومة الليبية باعتبارها الجهة الشرعية، وتحمل مسئولياته في منع تدفق السلاح إلى الجماعات الإرهابية. وشدد البيان على دعم الحكومة الليبية في جهودها لضبط الحدود مع دول الجوار، وهو قرار تحفظت قطر عليه بالكامل.
خاتمة
من جملة ما سبق يتضح أن توازن القوى في ليبيا بدأ في التغير، قبل القمة العربية وعاصفة الحزم، عبر المتغيرات السابق ذكرها، وقد تأكد بعد القمة وعاصفة الحزم، أن مجلس النواب المنتخب والحكومة الليبية صارتا تتمتعان بدعم مادي ومعنوي وسياسي أكثر من ذي قبل، وهو الأمر الذي يسهم في حوار المصالحة ولا يضعفه. وربما على هذا المحمل، يمكن تفسير قرار قوات فجر ليبيا التصدي لتنظيم داعش، وكذلك قرار المؤتمر الوطني المنتهية ولايته، بإقالة رئيس وزراء حكومة طرابلس الدكتور عمر الحاسي، ورفض الأخير للقرار إلا بعد التشاور مع شركائه الثوريين، بأنه صور تجليات التغير في توازن القوى، وبداية حلحلة الأزمة.
غير أن جهود المصالحة، لن تؤتي ثمارها، طالما يصر المبعوث الأممي برناردينو ليون، على فرض سيناريو غير واقعي في معالجة الأزمة، يقوم على إعادة قوى الاسلام السياسي للمشهد على حساب القوى الشرعية القائمة التي تكتسب دعما متزايدًا يوما بعد يوم. ولا يخفى عن ليون حقيقة الشعور الوطني تجاه هذا السيناريو، بدليل أنه عند زيارته لطبرق نهاية شهر مارس الماضي، رفض رئيس مجلس النواب عقيلة صالح استقباله، فيما خرجت أعداد كبيرة من المحتجين الذين أغلقوا الطريق الواصل بين المطار والمدينة ومنعوا ليون مغادرة القاعدة الجوية، ممّا أضطره إلى عقد اجتماع مصغّر مع وزير الخارجية الليبي وعدد من النواب.
والمرجح، بناء على ما سبق، إن كانت ثمة مصالحة، فلن تتم إلا باتفاق يُبْقي على مجلس النواب المنتخب، كهيئة قائدة لاستكمال المرحلة الانتقالية في ليبيا، ومن الممكن بعد ذلك تسوية بقية الأمور. كتشكيل حكومة وحدة وطنية من تكنوقراط مستقلين، والاتفاق على آليات نزع سلاح الكتائب والميليشيات، وترتيبات إجراء الانتخابات الرئاسية. يساعد على إنفاذ هذا السيناريو أن القوى الرافضة للشرعية، لم يعد لديها من الأوراق ما تلعب به داخل المجتمع الليبي، ومن فضل اللـه على الشعب الليبي أنه شعب متجانس، فغالبيتهم من العرب السنة المالكية، على معنى أن أدوات تأجيج التمايزات الإثنية والعرقية وإثارة النعرات الطائفية، لا تجد لها محلا في الحالة الليبية، عكس ما يحدث في العراق وسوريا واليمن، ما يجعل الصراع في ليبيا، صراعاً صريحاً على السلطة، يتغذى على الخارج، ويفتقد الأرضية الاجتماعية والثقافية، ولا يملك سوى خطابات فضفاضة عن الثورة المضادة أو الإسلام مقابل العلمانية، والواقع أن المجتمع القبلي الليبي لم يتأثر كثيرا بهذه الخطابات، وقد علمته كما علمتنا التجارب التي تعيشها ليبيا وكل بلدان الربيع العربي.