مستقبل آسيوي غامض: تناطح القوة بين التنين الصينى والساموراي الياباني
إذا كان العالم
قد تغير في 11 سبتمبر 2011 عندما تعرضت رموز القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية
في نيويورك وواشنطن للعمليات الإرهابية، فإن التغيرات الأكثر درامية يبدو أنها في
طريقها إلى الحدوث في شرق آسيا. حيث تقف الصين واليابان، ثاني وثالث أكبر
اقتصاديات العالم على الترتيب، على أعتاب مرحلة جديدة، ربما تكون الأخطر في مرحلة
ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن وصل التوتر والفتور في علاقاتهما إلى مرحلة
غير مسبوقة منذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بينهما في عام 1972. وهو الأمر الذى
يثير مخاوف عديدة على مستقبل آسيا، التي يتوقع عدد من دارسي العلاقات الدولية ان
تلعب دوراً محورياً في التفاعلات الدولية خلال القرن الحادي والعشرين، حتى أن
البعض ذهب إلى القول بأن هذا القرن سيكون قرنا "آسيويا"، بامتياز، كما
كان القرن العشرين "قرناً أمريكياً"، والقرن التاسع عشر "قرناً
أوروبياً". فالدولتان تلعبان حالياً دوراً مهماً وملموساً في دفع النمو
الاقتصادي في كافة الدول الآسيوية المهمة تقريباً، سواء من خلال عمليات التبادل
التجاري أو الاستثمارات المباشرة في المجالات الصناعية أو مجالات البنية الأساسية
أو عن طريق المنح المالية والفنية. ولاشك أن هذا الدور سوف يتقلص بشكل كبير، إذا
لم يتلاش نهائياً، إذا ما قادت التطورات الراهنة إلى خروج "الساموراي"
الياباني من قمقمهم الذى قمعوا فيه طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية،
نتيجة تكبيل قواتهم العسكرية بقيود الدستور السلمي، ومادته التاسعة الشهيرة التي
تمنع استخدام القوة العسكرية في حل المنازعات الدولية، لمواجهة "التنين"
الصيني، الذي اكتسب قدرات اقتصادية وعسكرية، ربما تدفعه في الفترة المقبلة إلى
محاولة تغيير الوضع القائم في شرق آسيا لتتلاءم مع ما وصل إليه من قوة.
أولا: جيل جديد من الزعامات السياسية
العلاقة بين
العملاقين الآسيويين تأثرت كثيرا خلال العام الماضي بصعود جيل جديد من الزعامات
إلى موقع السلطة السياسية في كلا من طوكيو وبكين. وهو الأمر الذي دفع صحيفة كبيرة
مثل سترايت تايمز، وهي من أكثر الصحف انتشاراً في منطقة جنوب شرق آسيا، إلى اختيار
كلاً من رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي والرئيس الصيني "شي جينبينج"
باعتبارهما أهم القادة الآسيويين في عام 2013. وقالت الصحيفة، التي تتخذ من
سنغافورة مقرا لها، أن الزعيمين، رغم
أنهما حديثي عهد بالسلطة، كان لهما تأثيرا
ملموسا على تطور الأحداث الآسيوية في الفترة القصيرة التي تولَّيا فيها سدة الحكم،
نتيجة سياساتهما الاقتصادية الإصلاحية من جهة وزيادة الصراع الإقليمي بين دولتيهما
حول الجزر المتنازع عليها، والمعروفة في اليابان بـ "سينكاكو" وفي الصين
بـ "دياويو" من جهة أخرى.
غير أن الأثر الكبير لصعود القيادات
الجديدة في كلا من اليابان والصين خلال العام الماضي، لم يقتصر فقط على جيرانهم
الآسيويين، وإنما امتد أيضاً إلى علاقة العملاقين الكبيرين. حيث تفاقم التوتر في
هذه العلاقة، إلى الحد الذي جعل عدد من المراقبين يصفها بأنها "تمر بواحدة من أسوأ فتراتها منذ استعادة العلاقات
الدبلوماسية بين طوكيو وبكين في عام 1972". وقد نجم هذا التوتر مؤخرا، بشكل
رئيس، من وجود صراع شديد بين البلدين حول موارد البترول والغاز
الطبيعي في الجزر المتنازع عليها، دون وجود أفق
سياسي واضح لحل هذا النزاع، خاصة مع تصلب صناع القرار في الجانبين على أحقية
بلادهما بهذه الجزر.
ويمكن تتبع
مسار التوتر وعدم الثقة بين العملاقين الآسيويين بوضوح منذ سبتمبر 2012، عندما
قامت محافظة
طوكيو بشراء ثلاث جزر من الجزر الخمس المتنازع عليها من مالكها الشخصي، وهو ما
يعني تأميمها عمليا من جانب اليابانيين، وبالتالي تجاهل المطالب الصينية بشأنها
والتي تؤكد على أنها محتلة من جانب السلطات اليابانية ويجب عودتها إلى الوطن الأم.
وقد ترتب على ذلك، حدوث موجة عارمة من المظاهرات المناوئة لليابان في جميع أنحاء
الصين تقريبا، ودعوات متعددة على شبكات الاتصال الاجتماعي على شبكة الانترنت من
اجل مقاطعة المنتجات والشركات اليابانية في الصين. ويبدو أن هذه التحركات ساهمت
ذلك بشكل كبير في تراجع إجمالي التبادل التجاري بين العملاقين الآسيويين. حيث
انخفض هذا التبادل بنسبة 10.8 في المائة في النصف الأول من عام 2013، ليصل إلى
147.3 مليار دولار، في أول انخفاض من نوعه منذ أربع سنوات، كما هبطت أيضا
الاستثمارات اليابانية المباشرة في الصين بنسبة 31 في المائة، وتراجعت الصادرات
اليابانية إلى الصين بنسبة 16 في المائة.
وبالتزامن مع "برودة"
العلاقات الاقتصادية بين العملاقين الآسيويين، حدثت "برودة أكبر وفتور أشد
وتوتر أعلى" في العلاقات السياسية بين الجانبين، خاصة في ظل القيادات الجديدة
التى تولت السلطة مؤخرا. ففي طوكيو،
جاء شينزو آبي، الذي يوصف بكونه أحد الصقور القومية المتشددة، إلى منصبه في 26
ديسمبر 2012، رافعا شعار "استعادة اليابان القوية" اقتصاديا وعسكريا.
وعلى الجانب الآخر، تولى الرئيس الصيني شي
جينبينج منصبه في شهر مارس 2013، حاملا لواء القضاء على الفساد وتحقيق "الحلم
الصيني" في النمو والازدهار داخليا واكتساب الاحترام والمكانة اللائقة
خارجيا. وكان جينبينج قد تم اختياره كرئيس
للدولة وزعيم للحزب الشيوعي الصيني، وقائدا أعلى لجيش التحرير الشعبي الصيني، في
نوفمبر 2012. وبمجرد وصولهما إلى السلطة،
حرص الزعيمان الياباني والصيني على تشكيل مؤسسات جديدة لتعزيز الأمن القومي، على
غرار مجلس الأمن القومي الأمريكي، رغم ان هذه المؤسسات كانت مطروحة للنقاش في كلتا
الدولتين، منذ أكثر من عشرة سنوات، دون ان يتم اتخاذ قرار نهائي بشأنهما، وهو ما
عكس توجس وقلق القيادتين تجاه تصرفات بعضهما البعض. ففي 12 نوفمبر 2013، وبعد
الجلسة الثالثة للمؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، أعلن جينبينج عن إقامة
لجنة أمن الدولة الصينية، والتي تهدف إلى حماية الأمن القومي الصيني في جميع
المجالات. وفي 27 نوفمبر 2013، وافق مجلس المستشارين الياباني على قانون جديد،
قدمته حكومة آبي، لتأسيس مجلس الأمن القومي، الذي يهدف إلى صياغة السياسات الأمنية
والخارجية لليابان.
ثانيا: عودة الساموراي الجدد
نظرت دوائر صنع
القرار في بكين إلى سياسات شينزو آبي في المجال العسكري، باعتبارها انعكاسا لأفكار
التيار القومي المتشدد الهادف إلى توسيع دور اليابان العسكري في العالم، والتخلي عن الدستور السلمي الذي يحظر استخدام
القوة العسكرية في الخارج، وتعزيز التحالف الأمني والاستراتيجي مع الحليف
الأمريكي. وعبر العديد من المسئولين والأكاديميين الصينيين، الذين التقيت بهم في
بكين، على أن اليابان، في ظل زعامة آبي، تبدو عازمة، بالتنسيق مع إدارة أوباما
الأمريكية، على إعادة عسكرة اليابان، وبعث "الساموراي" (طبقة المحاربين
القدامى) من جديد لمواجهة ما يسمونه بـ "التهديد الصيني"، وهو ما
يضر بشكل كبير بالثقة المتبادلة مع بكين، ويفاقم حدة التوتر بشكل سريع بين
الدولتين حول الجزر المتنازع عليها. ويدلل هؤلاء على صحة مقولتهم بالقول إن آبي،
منذ بداية توليه السلطة، يتمسك بسيادة اليابان على هذه الجزر، وبشكل "غير
قابل للتفاوض" على حد تعبير رئيس الوزراء الياباني نفسه. وفي ضوء ذلك، وافق
مجلس الوزراء، بزعامة آبي، على زيادة الميزانية العسكرية اليابانية للمرة الأولى
منذ 11 عاما، لتصل إلى 52 مليار دولار في العام المالي 2012/2013.
كما رفعت حكومة آبي أيضا عدد قوات الدفاع الذاتي البرية لأول مرة منذ ثمانية
سنوات، وأنشئت مجلسا جديدا للأمن القومي الياباني. ولم تقتصر التوجهات العسكرية
اليابانية العدائية تجاه بكين، في ظل زعامة شينزو آبي، من وجهة النظر الصينية على
ذلك. حيث كشفت صحيفة "نيكاي" اليابانية في أول شهر يوليو الماضي أن
الحكومة اليابانية الحالية تنوي إطلاق تسعة أقمار اصطناعية على مدى الخمسة أعوام
القادمة لمراقبة المحيطات. ومن ناحية أخرى، دعا الكتاب السنوي الأبيض لوزارة الدفاع
اليابانية، وهو الأول الذي يصدر بعد تولي آبئ لمنصبه، إلى تقوية قوات الدفاع
الذاتي اليابانية مع التأكيد على ضرورة الحصول على قدرات عسكرية لمهاجمة قواعد
العدو. وعلى الصعيد الميداني، وافق آبئ على إجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع
الولايات المتحدة في أوائل عام 2013 على ساحل كاليفورنيا. وقد وصف المراقبون هذه
التدريبات بأنها "تاريخية" و"غير مسبوقة"، لأنها ركزت على
عمليات غزو الجزر والمناطق الساحلية، في وقت يتصاعد فيه التوتر بين اليابان والصين
بشأن الجزر المتنازع عليها إلى ذروته. وجاءت أهم الإشارات التى أثارت قلق دوائر صنع القرار الصيني تجاه الجار
الياباني في 17 ديسمبر الماضي، عندما أصدرت حكومة آبي إستراتيجية
جديدة للأمن القومي الياباني، بدلا من تلك التى كانت قائمة منذ عام 1957. وتشير هذه الإستراتيجية، التي ستكون بمثابة الأساس المحوري للسياسات الأمنية
والخارجية خلال العشرة سنوات القادمة، إلى أن دوائر صنع القرار
اليابانية لم تعد تعتبر روسيا اكبر تهديد لأمنها القومي، وإنما أصبحت تنظر إلى
القوة العسكرية الصينية المتنامية (والتهديدات النووية والصاروخية من جانب كوريا
الشمالية) باعتبارها أخطر التهديدات التى تواجهها اليابان في الوقت الراهن، بل
ومصدر قلق لشرق آسيا والمجتمع الدولي بأسره. ومن أجل تنفيذ هذه الإستراتيجية، التي تتضمن إمكانية المبادرة بشن هجوم
استباقي على مصادر التهديد المحتملة للأمن القومي الياباني، على أرض الواقع، وافقت
حكومة آبئ على تخصيص 24.7 تريليون ين (240 مليار دولار تقريبا) للإنفاق على برنامج
الدفاع الياباني في الفترة من 2014 إلى 2019، وهو ما يمثل زيادة نسبتها 5 في
المائة مقارنة بالأعوام الخمسة الأخيرة.
وبناء على كل ذلك، نظر القادة الصينيون
إلى سعي رئيس الوزراء الياباني لإنعاش الروح العسكرية اليابانية، عن طريق تضخيم ما
يطلق عليه "التهديد الصيني"، باعتباره انفصالا عن التقاليد اليابانية
الراسخة منذ تأسيس العلاقات الرسمية بين الدولتين في 1972، والمعترفة بخطأ الغزو
الياباني للصين. وقد رسخ من هذه النظرة السلبية تجنب آبي أي تعبير عن الندم تجاه
"العدوان "الياباني على الصين في الماضي، بل وحرصه أيضا على "تحريف
التاريخ" لتصوير هذا العدوان باعتباره "استعمار" يجب تمجيده لدوره
في إنقاذ الشعوب الآسيوية، ومن ضمنها الشعب الصيني، من براثن الإمبراطوريات
الغربية الاستعمارية في القرن الماضي.
ثالثا: ظهور التنين
الصيني
وعلى الجانب
الآخر، تنظر معظم دوائر صنع القرار في طوكيو حاليا إلى تصاعد القوة الاقتصادية
والعسكرية للصين باعتباره تهديدا خطيرا للأمن القومي الياباني، مؤكدة على ان
"التنين الصيني" قادم لا محالة، لاسيما بعد التصعيد الصيني الأخير بشأن
الجزر المتنازع عليها مع طوكيو. فهذا التصعيد، من وجهة نظرهم، بمثابة رسالة تحذير
ووعيد لكل من يهمه الأمر في اليابان، والدول المجاورة، بأن بكين أصبحت من القوة،
بحيث تستطيع ان تجبر الجميع على الانصياع لرغباتها، خاصة مع تنامي المشاعر
الصينية بأن اليابانيين، وجيرانهم الآسيويين، قد أصبحوا في حاجة إليها اقتصاديا
أكثر من احتياج الصين إليهم، بما يشجع القادة الجدد في بكين على التشدد في مواقفهم
الاقتصادية والدبلوماسية. وفي ضوء ذلك، يتعين على حكومة آبي العمل على خلق
"يابان جديدة" في أسرع وقت ممكن، خاصة مع حالة الضعف والإنهاك التى
أصابت القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، ومع ضعف احتمالات تخلي كوريا
الشمالية عن برامجها النووية والصاروخية. و"اليابان الجديدة"، في
تصورهم، هي التى تستطيع أن تدافع عن مصالحها في عالم مضطرب، والتى تلعب دورا
عسكريا فعالا على الصعيد العالمي يتناسب مع وضعها كثالث أكبر اقتصاد في العالم.
وهى أيضا تلك اليابان القادرة على إرسال القوات العسكرية إلى الخارج، وإنتاج
وإطلاق أقمار التجسس، وإنشاء نظم دفاعية مضادة للصواريخ، وإنتاج السلاح النووي إذا
ما تطلب الدفاع عن البلاد ذلك.
ومن هذا
المنظور، لم يكن غريبا أن يتصاعد التوتر في العلاقات المتأزمة بالفعل بين
العملاقين الآسيويين، بعد إعلان بكين عن إقامة منطقة جديدة للدفاع الجوي في بحر
الصين الشرقي، في 23 نوفمبر الماضي. فأنصار مقولة التهديد الصيني في
طوكيو نظروا إلى هذا الإعلان باعتباره مؤشرا خطيرا على ظهور التنين الصيني
"المخيف ذو العضلات العسكرية" لأن المنطقة المذكورة تتقاطع بالفعل مع
المجالات الجوية المعلنة لليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وهو ما يزيد من
احتمالات حدوث تشابكات جوية بين هذه الدول في المستقبل. كما أن هذه المنطقة تشمل
أيضا المجال الجوي للجزر المتنازع عليها بين الصين واليابان، وهو ما يعني حسبما
رأى جون كيري وزير الخارجية الأمريكي أن بكين تحاول فرض أمر واقع جديد في منطقة
شرق آسيا.
ونظرا لخطورة إقامة منطقة الدفاع الجوي
الصينية الجديدة على توازن القوى القائم ومصالح الأطراف الفاعلة في منطقة شرق
آسيا، توالت ردود الأفعال الغاضبة تجاه بكين،خاصة من جانب طوكيو، وحلفائها في
واشنطن وسول. حيث استدعت الحكومة اليابانية السفير الصيني في طوكيو وقدمت له
اعتراضا شديد اللهجة على إقامة هذه المنطقة. وأعلن رئيس الوزراء الياباني، رفضه
التام للاعتراف بهذه المنطقة. وجاء في بيان أصدرته وزارة الخارجية اليابانية أن
"إنشاء هذه المنطقة من جانب واحد يزيد التوتر المحيط بجزر سينكاكو وقد يؤدي
إلى مواقف غير محسوبة."
ومن ناحية أخرى، أبدت الولايات المتحدة
"قلقها الشديد" إزاء إعلان الصين إقامة هذه المنطقة، وأكدت وزارة الدفاع
الأمريكية (البنتاجون) أن طائراتها العسكرية ستواصل عملها في المنطقة "بشكل
عادي" دون إبلاغ بكين. وبالفعل قامت قاذفتان أمريكيتان غير مسلحتين، من طراز
بي-52، بالتحليق فوق المنطقة المذكورة في مهمة تدريبية بعد ساعات قليلة من الإعلان
الصيني في تحد سافر لبكين. ومما زاد من خطورة الوضع أن اليابان وكوريا الجنوبية، انضموا
إلى واشنطن في تحدي الصين، وأرسلوا طائرات عسكرية مقاتلة إلى منطقة الدفاع الجوي
الصينية الجديدة دون إخطار بكين. وقد ترتب على ذلك، قيام الصين بإرسال عدة مقاتلات
وطائرة إنذار مبكر للمنطقة، وهو الأمر الذي أثار المخاوف بشان إمكانية انفلات
الوضع في هذه المنطقة مستقبلا، إذا ما تكرر دخول الطائرات الأمريكية واليابانية
منطقة الدفاع الجوي الصينية الجديدة.
رابعا: تنامي
المشاعر القومية والصور المشوهة
التوتر
المتزايد في العلاقات اليابانية الصينية يمكن تفسيره بلجوء القيادات الجديدة في
العملاقين الآسيويين إلى تغذية المشاعر القومية من أجل كسب التأييد الشعبي.
فالقومية الصينية تعود جذورها التاريخية إلى "قرن الذل والهوان"، وهو
الفترة الزمنية الممتدة من حرب الأفيون إلى تأسيس جمهورية الصين الشعبية، والتى
عانى فيها الصينيون كثيرا على يد الاستعمارين الغربي والياباني. بل أن العديد من
الصينيين يشعرون بأن "الذل الأكبر" قد لحق بهم على يد اليابانيين.
وبالتالي يستطيع قادة الصين الجدد كسب ود القوميون الصينيون بسهولة عن طريق إثارة
المشاعر المعادية لليابان. وربما يفسر ذلك صعوبة التوصل إلى صيغة توافقية بين بكين
وطوكيو بشأن الجزر المتنازع عليها في بحر
الصين الشرقي، رغم أن الصين توصلت في وقت سابق لتسوية نزاعها الحدودي مع روسيا،
وذلك لأن أنصار التيار القومي الصيني المتشدد، وصقور المؤسسة العسكرية الصينية، لن
يتقبلوا بيسر فكرة تقديم تنازلات مهمة إلى الدولة التى قامت في الماضي بغزو
أراضيهم وسلب ثرواتهم.
ومن جهة أخرى،
يعزو المراقبون تنامي مشاعر القومية اليابانية في السنوات الأخيرة إلى التهديدات
العسكرية المتزايدة من جانب جيران طوكيو الآسيويين، خاصة في الصين وكوريا
الشمالية. وقد ولدت هذه المشاعر ضغوطا هائلة على الساسة الحاليين في طوكيو، وربما
القادمين أيضا، من أجل عدم التوصل إلى اتفاق مع بكين بشأن الجزر المتنازع عليها
لأنه سيكون بمثابة "خيانة" و "تفريط".
وبالإضافة إلى
ذلك، يضخم المشاعر السلبية للشعبين الياباني والصيني تجاه بعضهما البعض وجود صور
مشوهة وغير دقيقة. ففي الصين، على سبيل المثال، لا يعرف كثير من أبناء الشعب
الصيني أن اليابان دولة مسالمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن دستورها
يحظر استخدام القوة العسكرية في الخارج، بل أن أغلبية الشعب الصيني ما تزال تنظر
إلى اليابان باعتبارها "دولة عسكرية" و"عدوانية"
و"توسعية". وعلى الجانب الآخر، وبصورة مغلوطة أيضا، يعتقد كثير من
اليابانيين أن الصين "دولة دكتاتورية خطيرة يحكمها نظام شيوعي صارم يحرم الصينيين
من الحرية".
خامسا: مستقبل آسيا
يمكن تشبيه
التوتر والفتور في العلاقة بين بكين وطوكيو، والذي يغذيهما المشاعر القومية
المتنامية لدى الشعبين الياباني والصيني في ظل قادتهما الجدد، بالبركان، الذي يمكن
أن ينفجر في أي لحظة، ليتحولا إلى مواجهة وصدام عنيفين. وإذا انفجر هذا البركان
فسيكون له على الأرجح تداعيات كارثية ليس فقط على صعيد العلاقات الثنائية بين
العملاقين الآسيويين، وإنما أيضا على مستوى الأمن والسلم الدوليين، في منطقة شرق
آسيا، التي أصبحت مع باقي دول القارة الآسيوية الكبرى بمثابة القاطرة التي تجر
الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة. فهذا التوتر يبدو أنه سيستمر في المستقبل
المنظور، خاصة بعد أن قامت بكين بإنشاء منطقة دفاع جوي جديدة تشمل الجزر المتنازع
عليها مع اليابانيين، وبعد أن قررت طوكيو استراتيجية جديدة للأمن القومي الياباني
تجعل الصين بمثابة التهديد الأول لها. وهو ما يعني عمليا غلق الباب أمام
أية محادثات بناءة بين الجانبين في المدى المنظور لتسوية الخلافات العالقة بينهما،
وفي مقدمته مسألة الجزر.
وبالإضافة إلى
ذلك،
يوجد عاملان مهمان من شأنهما صب الزيت على النار المشتعلة بين
العملاقين الآسيويين. العامل الأول هو انتقال المشاعر العدائية والصدامية من مستوى
النظم الحاكمة إلى المستويات الشعبية، وهو ما يظهر بشكل واضح وملموس في المسيرات
والمظاهرات الضخمة التى تجوب شوارع المدن الكبرى في الدولتين رافعة الشعارات
المعادية للدولة الأخرى من ناحية وفي الحملات العدائية المكثفة على مواقع التواصل
الاجتماعي على شبكة الانترنت من ناحية أخرى. أما العامل الثاني فهو مساندة واشنطن
القوية والواضحة لطوكيو في صراعها مع بكين، خاصة بعد أن
أعلن وزير الدفاع الأمريكي مؤخرا صراحة أن المادة الخامسة مع المعاهدة الأمنية
الأمريكية - اليابانية تغطي الجزر المتنازع عليها بين اليابان والصين. ويكشف ذلك أن الولايات
المتحدة، بدلا من ان تلعب دور الوسيط في تهدئة التوتر المتصاعد بين العملاقين
الآسيويين، تبدو عازمة على تعزيز أواصر التحالف الأمني والاستراتيجي مع طوكيو
لاحتواء "التهديد الصيني"، في ظل استراتيجية أوباما الجديدة، التي يٌطلق
عليها "الانعطاف العسكري نحو آسيا". وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى
أن مستشارة الأمن القومي الأمريكي سوزان رايس قد أكدت مؤخرا على أن واشنطن سترسل
60 في المائة من قواتها البحرية لمنطقة المحيط الهادئ من أجل مواجهة تنامي القوة
العسكرية والاقتصادية للتنين الصيني، وأنها ستوفر أيضا أسلحة أكثر تطورا لحلفائها
في المنطقة.
وفي نفس الوقت، سوف تمثل التوجهات
الحالية لرئيس الوزراء الياباني لعسكرة اليابان مرة أخرى تحديا كبيرا للقيادة
الصينية الجديدة، لأن أي تنازل في "الحقوق" الصينية في الجزر المتنازع
عليها مع اليابان، سيمثل تفريطا غير مقبول، ومؤشرا على ضعف هذه القيادة، وعدم
أهليتها للاستمرار في السلطة، من وجهة نظر صقور الجيش الصيني.
وفي ضوء كل ذلك، ليس من الصعب توقع حدوث
مواجهة عسكرية ما في المدى المنظور بين العملاقين الياباني والصيني، وهو ما قد
يشعل النيران في المنطقة كلها. وسيكون المنتصر في هذه المواجهة، التي ستكون ساحتها
على الأرجح الجزر المتنازع عليها بين البلدين، هو زعيم القارة الآسيوية الجديد،
وربما العالم.
هذا جزء من مقال منشور في مجلة
"أفاق سياسية"