هدى رؤوف*
فى مقال لوزير الدفاع الإسرائيلى السابق إيهود باراك ،نشر تحت عنوان " Middle east security in 2014" ، يطرح واحد من أهم صناع القرار فى إسرائيل رؤيته للمتغيرات التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، حيث يرى، بداية، أن الشرق الأوسط يشهد تغيرات وتحولات تذهب معها كل التوقعات والتحليلات هباء، ويذكر أن عام 2013 أظهر أن أزمات الشرق الأوسط ليس منبعها صراع الحضارات، فالصراع فى الشرق الأوسط يدور داخل الدين الإسلامي مرتكزاً على الانقسام بين الشيعة والسنة. وأن إجمالي عدد ضحايا العنف والصراعات المتفجرة فى كل من مصر وأفغانستان وسوريا واليمن والعراق وليبيا بلغ مئات الآلاف، متجاوزاً عشر مرات عدد ضحايا الصراع الفلسطينى الإسرائيلى منذ 1948، فضلاً عن أن الملايين، من اللاجئين، يعيشون حياة بائسة فى البلاد المجاورة. ويؤكد باراك أن مسارات الربيع العربى الجامدة والمتعثرة الآن تجعل التوقعات بشأن عام 2014 قاتمة، لكنه يؤكد أنه مازالت هناك فرص قد تكون مطروحة الآن على الطاولة وهناك البعض الآخر قد يظهر مع مرور الوقت ولكن ذلك يتطلب قيادة دولية ووضوحاً إستراتيجياً وحسماً وهو ما كان غائباً خلال العام المنصرم. ويوضح باراك مقصوده بغياب القيادة الدولية والحسم بتأكل الدور الأمريكى فى المنطقة أمام عديد من القضايا الهامة واتفاق الجميع، من الحلفاء والخصوم والمنافسين، على ذلك، مدللاً بضعف تأثير الدور الأمريكى تجاه عدد من القضايا منها تجاوز الأسد للخطوط الحمراء التى حددها الرئيس الأمريكى أوباما باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد خصومه والموقف الأمريكى من عودة الحكم العسكرى لمصر بحسب زعمه، والموقف من الاحتجاجات التى شهدتها إيران عام 2009، وعدم الاستقرار الذى يشهده كل من العراق وأفغانستنان وباكستان. معتبراً أن التردد الأمريكى جعل المحور الراديكالى الذى يجمع بين إيران وسوريا وحزب الله أكثر جرأة فى محاولته استثمار إنجازاته العام الماضى لتحقيق مكاسب سياسية أكبر خلال العام الحالى.
الموقف من بقاء الأسد
فبشار الأسد، وبعد صدمة استخدام الأسلحة الكيماوية التى أدخلته فى مفاوضات نزع السلاح وهى حتى الأن فى طور التنفيذ، تم منحه فرصة للاستمرار فى منصبه ومحاربة خصومه المعارضين. ويتنبأ باراك بأنه -أي الأسد- سيحاول خلال العام الجارى عرقلة تنفيذ عملية نزع الأسلحة لكسب مزيد من الوقت يتمكن به من إضعاف خصومه ويمكنه حتى أن يماطل إلى الانتخابات النصفية فى الولايات المتحدة الأمريكية فى نوفمبر المقبل، حينها يكون من الصعب انتقاده سياسياً واتخاذ موقف منه. أما حزب الله فسيظل يدعم الأسد، حيث ترتبط قوته بقوة واستمرار نظامه.
على الجانب الآخر من الأزمة السورية يرى باراك أن الاقتتال الداخلى فى صفوف المقاتلين السوريين وتباعد المواقف بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب أدى إلى إضعاف موقف هؤلاء المقاتلين وتقليص فرص نصرهم على الواقع، كما يشكك فى نجاح مفاوضات جنيف ما لم يكن الأسد فى موقف ضعيف.
تحجيم نفوذ حزب الله
يشدد باراك على استمرار سياسة إسرائيل القائمة، تجاه سوريا، على منع وقوع الأسلحة والصواريخ السورية فى يد حزب الله وهو ما قد يستدعى قيامها بمواجهات عسكرية، الأمر الذى يبرره بإمكانية أن يعود بالنفع أيضاً على لبنان، فحصار قوة حزب الله من شأنها تحجيم نفوذه ومنع سيطرته الكاملة داخلياً.
أما عن مصير سوريا بعد الأزمة، فيرى باراك أنه برغم احتمالات بقاء الأسد فى الوقت الراهن إلا أن سوريا، كحالة العراق وليبيا، تسير فى اتجاهات التفكك إلى كيانات أصغر متجانسة عرقياً أو الانفصال التام أو كيانات ضعيفة مرتبطة ببعضها على غرار ما حدث فى يوغوسلافيا بعد حكم تيتو. فهو يرى أن المرشح لملء الفراغ الذى تتركه النظم الديكتاتورية يكون النزعات الطائفية. معتقداً أن تصاعد النزاعات الطائفية والانقسامات فى المنطقة مرده نشاط إيران بعد سنوات طويلة من تجمد دبلوماسيتها فى المنطقة.
التهديد الإيراني
ينتقل باراك إلى نتائج المفاوضات الغربية مع إيران التى انتهت بتوقيع الاتفاق المؤقت، ويتوقع أن الاتفاق قد يوقف النشاط النووى الإيرانى مؤقتاً إلا أنه سيسهم بشكل أكبر فى رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وهو المكسب الذى حققته إيران بمقابل ضعيف، فحتى الآن لم تختبر نوايا إيران بشكل حقيقى ومع ذلك فهو يرى أن الخطر الحقيقى يتمثل فى كون إيران ما زالت تمتلك القدرة على تخصيب اليورانيوم وأن قرار المضى قدماً فى البرنامج النووى هو لإيران التى ستسغل الفرصة حينما تكون الولايات المتحدة غير قادرة على اتخاذ قرار ووقتها لن يكون هناك ما يحول دون تحولها لقوة نووية عسكرية. وهو نفس النهج الذى اتبعته كل من باكستان وكوريا الشمالية من قبل. وعطفاً على المسار الأمريكى فى التعامل مع أزمة استخدام الأسلحة الكيماوية السورية فإن خيار القوة العسكرية سيكون مستبعداً أيضاً فى حالة إيران. وكعادة الإسرائيليين فى التلويح بالمخاطر والتهديدات يقول باراك إن وجود إيران ذات قوة نووية عسكرية يمكن أن يهدد كلاً من الاستقرار العالمى والنظام الإقليمي نتيجة لدخول المنطقة فى سباق تسلح نووي. فالسعودية لن تتردد فى امتلاك أسلحة نووية وسوف تتبعها مصر وتركيا، مما سيترتب عليه انهيار ما بُنى عليه النظام الدولى لمنع انتشار الأسلحة النووية. كما أن إيران لن تتردد فى دعم العمليات الإرهابية فى الخارج طالما أنها فى مأمن من التدخل الدولى.
ويحاول باراك التلويح بإمكانية اللجوء للخيار العسكرى مرة أخرى معتبراً أن انهيار المفاوضات النهائية مع إيران قد يدفع بإسرائيل والولايات المتحدة لاتخاذ حلول أخرى تجاهها، لذا فهو يتوقع الدخول فى اتفاق مؤقت ثانى فى مقابل رفع أكثر للعقوبات الاقتصادية وأن مرحلة المفاوضات النهائية الدائمة قد ترحل لما بعد عام 2014، حيث الانتخابات الأمريكية فى نوفمبر المقبل والتى تفرض ديناميكياتها حالة من الجمود والشلل على صانع القرار الأمريكى.
ويختتم إيهود باراك المقال بالإشارة إلى مهارة الإيرانيين فى المناورة وأنه مازال هناك وقت لتوصيل الرسائل لإيران بأن المجتمع الدولى يتفهم احتياجاتها ولن يتم إحراج وضعها دولياً، إلا أنه مازال أمامها الوقت لتفكيك قدراتها العسكرية فى الأشهر المقبلة وإلا عليها مواجهة عواقب وخيمة.
وكغيره من المحللين والسياسيين الإسرائيليين يرى باراك أن الشرق الأوسط يشهد اضطرابات وتحولات مستمرة لم تتشكل وتستقر بعد، ومن ثم حالة عدم اليقين والسيولة التى جعلت من الصعب التنبؤ بمآلات وتاثيرات هذه المتغيرات على المنطقة برمتها، محاولاً، بشكل مبالغ فيه، استغلال الاضطرابات التى صاحبت الربيع العربى، ليثبت للمجتمع الدولى أن الصراع الفلسطينى الإسرائيلى والصراع العربى الإسرائيلى فى مجمله ليس هو مصدر عدم استقرار الشرق الأوسط، وذلك لدحض تصريحات الدول العربية بأن حل الصراع العربى الإسرائيلى من شأنه العمل على تعزيز الاستقرار فى المنطقة، كما تسعى هذه الفكرة لإضعاف الصورة النمطية عن إسرائيل كدولة محتلة تتعنت فى المفاوضات وتماطل فى عملية التسوية وإقامة الدولة الفلسطينية وبالتالى رفع الضغوط الدولية والأوروبية خصوصاً من عليها ومحاولات نزع الشرعية والمقاطعة التى تتعرض لها فى الأونة الاخيرة. ذلك أن الاتحاد الأوروبي بدأ فى فرض بعض العقوبات على المنتجات الإسرائيلية، انطلاقاً من اعتباره جميع الأنشطة الإسرائيلية فى المناطق العربية المحتلة بعد 1967 تتنافى مع مبادىء القانون الدولى باعتبارها أراضى محتلة، كما أنها تقضى على فرص إقامة دولة فلسطينية مستقة وبالتالى القضاء على فرص السلام واستمرار الصراع وتداعياته على المنطقة وامتدادها للعالم أجمع.
وتتفق تلك الرؤية مع تقييمات الجيش الإسرائيلى والاستخبارات حيال الوضع الأمنى الإسرائيلى بعد الربيع العربى. حيث ترى أن الأوضاع فى المنطقة، منذ 2011 وحتى الآن، تسير فى اتجاه حربين ليست إسرائيل طرفاً فيهما، الأولى حرب سنية -شيعية والأخرى داخل مصر. فالحرب السنية الشيعية قد تمتد إلى لبنان بفعل تدخل حزب الله فى الأزمة السورية، كما أن السعودية، التى تتزعم العالم السنى الآن، تقود حرباً ضد سوريا وإيران.
ويرى باراك أنه مع دخول التحولات المرتبطة بالربيع العربى فى مرحلة جمود يتطلب وجود قيادة عالمية قوية تستغل الفرص المتاحة والمقصود ضمناً هو تعزيز الدور الأمريكى. فمن منظور أوسع تقتضى مصلحة إسرائيل أن تعيد الولايات المتحدة تأثيرها الاستراتيجي ومصداقيتها وقدرتها على الردع فى المنطقة، خاصة مع تأكل الردع والمصداقية الأمريكية فى السنوات الثلاث الأخيرة مع اضطرابات الربيع العربى لاسيما مع تعالى أصوات المسئولين فى الإدارة الأمريكية بضرورة تقليص التدخل الأمريكى فى شئون تلك الدول وتوجيه التركيز نحو شرق آسيا. واعتبر أن دلائل ومؤشرات التراجع الأمريكى ظهرت بدءاً من اتخاذ موقف متردد من الربيع العربى وعدم الحسم أمام تجاوز الأسد واستخدام الأسلحة الكيماوية ومن قبلها ضعف الموقف أمام قمع النظام الإيراني للاحتجاجات التى اندلعت فى 2009 ثم الموقف من عودة الجيش للعب دور فى مصر وعزل مرسى وهو مايشير، ضمناً، إلى التأثير السلبى وفقدان مكاسب محتملة لإسرائيل من استمرار نظام الإخوان المسلمين فى الحكم، على عكس ماروج له من ترحيبها بعودة الحكم العسكرى. ويعتقد باراك أنه مع تراجع هذا الدور تعززت فرص بقاء الأسد فى الحكم. فوفقاً للأهداف الإسرائيلية بعيدة المدى ليس من مصلحة إسرائيل انتهاء الصراع الدائر فى سوريا لصالح النظام القائم والذى يمثل بدوره انتصاراً وتعزيزاً لمكانة حلف سوريا - إيران - حزب الله. لكن يذكر باراك، تحسباً للتداعيات الأمنية والاستراتيجية، التى يمكن أن تطال إسرائيل فقد حددت مصالحها الإستراتيجية إزاء الأزمة السورية، أيا كانت مآلات التسوية، فى خطوط حمراء لابد أن تراعى هذه المصالح والتى لا ينبغى تجاوزها متمثلة فى منع سقوط ترسانة الأسلحة البيولوجية والكيميائية فى أيدي عناصر متطرفة أو فى أيدى حزب الله أو إيران واستمرار الهدوء عبر حدودها الشمالية.
ويتوقع سيناريو تقسيم سوريا إلى كيانات أقل على أسس طائفية وذلك على خلفية تصاعد النزعة الطائفية والإثنية والدينية فى صراعات المنطقة. وتدور سيناريوهات نهاية الأزمة السورية جميعها حول تفكيك سوريا. وهناك اتجاه، فى داخل إسرائيل، يرى أن تفكك الدول فى المنطقة قد يؤثر سلباً على الوضع الاستراتيجي لإسرائيل فى المدى القصير فهو سيجلب بعض التوتر وعدم الاستقرار فى الدول المجاورة التى سيصاحبها انتشار جرائم التهريب واللاجئين والإرهاب وانتشار الأسلحة وتوترات الحدود. لكن على المدى البعيد فإن تفكك الدول القومية يعنى حل الجيوش العربية النظامية التى مثلت تهديداً فى الماضى وتهديداً محتملاً فى الحاضر، وبناء علاقات مع أقليات متنوعة تتولى مقاليد الحكم ومن ثم تؤثر تلك المتغيرات الجيوبوليتيكية على إعادة تشكيل التحالفات بالمنطقة وعلى سوق الطاقة العالمى. ويمكننا ملاحظة تخصيص باراك الجزء الأكبر من المقال للحديث عن التهديد الإيرانى وهو ما يعكس أن التقييمات الإسرائيلية متفائلة إلى حد ما بشأن الوضع الإقليمى والأمنى الإسرائيلى فيما يخص الربيع العربى وتحصر التهديد الرئيسى فى النووى الإيرانى معتبرة أن التعامل الأمريكى من شأنه تشجيع سباق التسلح فى المنطقة ورفع حظر الانتشار النووى. فإسرائيل تريد الحفاظ على قوة ردعها بأن تظل محتفظة بتفوقها فى امتلاك الأسلحة التقليدية وغير التقليدية خاصة بعد وضع ترسانة الأسلحة السورية تحت الإشراف الدولى وهو ماساهم فى تلاشى قوة الردع السورية.
وأخيراً، يؤكد على مهارة القادة الإيرانيين التفاوضية، ذلك أن إيران لا تسعى إلى امتلاك السلاح النووى فى أسرع وقت وإنما امتلاكه بطريقة آمنة، فهدفها أن تكون دولة على أعتاب قنبلة نووية.
* باحثة فى الشئون الإسرائيلية