مشروع الدولة الاتحادية في اليمن: الفرص والتحديات
يبدو أن اليمن سيبقى محكوماً عليه، مثله مثل معظم دول الموجات الثورية
العربية أن يعاني من حالة عدم استقرار ممتدة، أسوأ ما فيها، أن حجم التدخل
الخارجي، وحجم المصالح الخارجية يفوق بكثير تأثير العوامل الداخلية. فمؤتمر الحوار
الوطني الذي تشكل من معظم إن لم يكن كل، الفصائل الوطنية اليمنية وبدأ أعماله في
مارس 2013، كمحاولة أخيرة، لابد منها، لإنقاذ الثورة وإنقاذ البلاد من مخاطر الحرب
الأهلية والاقتتال الداخلي في ظل تفاقم تداعيات هذا الاقتتال، وجد نفسه أمام
استحقاقات فرضت نفسها أبرزها بالطبع شبح ذلك الحل الأمريكي الذي جرى تفصيله بداية
من أجل العراق تحت مزاعم إنهاء أزماته وهو "التقسيم هو الحل"، رغم أن
هذا المؤتمر جرى تشكيله لإنقاذ البلاد من خطر هذا التقسيم بسبب الاقتتال الداخلي
الذي تدثر بدعوة انفصالية وعلى الأخص من جانب ما يُسمى بـ "الحراك
الجنوبي" الذي تشكل عام 2007 من عدة جماعات وقوى سياسية أبرزها الجزء الأكبر
من الحزب الاشتراكي اليمني الذي حكم الشطر الجنوبي من اليمن عقب استقالة مباشرة
عام 1967 ودخل شريكاً في دولة الوحدة عام 1990 مع حزب المؤتمر الشعبي العام برئاسة
الرئيس المعزول على عبد الله صالح.
كانت هناك ثلاثة حركات تقود البلاد نحو خيار: "التقسيم هو الحل".
فإلى جانب دعوة وحروب الحراك الجنوبي من أجل القصاص من دولة الوحدة والعودة مجدداً
إلى "عهد التشطير" الذي قسم اليمن تاريخياً إلى دولة الشمال، ودويلات
الجنوب التي وحدها الحزب الاشتراكي عقب الاستقلال في دولة اليمن الديمقراطية
الشعبية، برزت الدعوة الحوثية في محافظة صعدة الشمالية وأخذت تتمدد نحو العاصمة
اليمنية صنعاء في طموح يرمي إلى تأسيس دولة زيدية المذهب باتت أقرب إلى الشيعة
الأثنى عشرية منها إلى المذهب الزيدي، ومن ثم أضحت مفتوحة على الدعم الإيراني
والطموح الإيراني نحو فرض دولة أو دويلة أو جيب شيعي في الخاصرة الجنوبية لشبه
الجزيرة العربية. وفي مواجهة هذا المد الحوثي- الشيعي تفاقم خطر الحروب التي
يخوضها تنظيم القاعدة في محافظات يمنية عدة، كما تفاقمت الضربات الأمريكية الموجهة
ضد معاقل القاعدة في المحافظات اليمنية، الأمر الذي هدد اليمن لأن يتحول إلى دولة
فاشلة وعاجزة عن تحقيق الأمن والمحافظة على استقرارها السياسي.
لمواجهة هذه المخاطر وتهديدها للوحدة الوطنية اليمنية جرى تشكيل
"مؤتمر الحوار الوطني" الذي كان مقرراً له أن يكمل أعماله خلال ستة أشهر
من وقت تأسيسه أي في سبتمبر 2013، لكنه شاء أن يمدد اجتماعاته إلى الخامس والعشرين
من يناير 2014، وهو اليوم الذي عقد فيه جلسته الختامية بحضور عربي وإقليمي ودولي
ملحوظ. قبل انعقاد هذه الجلسة الختامية نجح المؤتمر في التصويت بأغلبية كبيرة على
ما سُمي بـ "وثيقة الحوار" التي تضمنت النص على تشكيل دولة اتحادية
بدلاً من الدولة المركزية الحالية، كما تم الاتفاق على تشكيل لجنة فرعية برئاسة
الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وعضوية 22 شخصية تمثل مختلف القوى السياسية في
اليمن تكون مهمتها دراسة وإقرار الخيارات الممكنة لتأسيس الدولة اليمنية
الاتحادية. كانت هناك ثلاثة خيارات أساسية مطروحة وبارزة فرضت نفسها على مجرى
حوارات ومناقشات مؤتمر الحوار الوطني هي أولاً خيار تأسيس دولة اتحادية من ستة
أقاليم (4 أقاليم في الشمال وإقليمين في الجنوب). وثانياً خيار تأسيس دولة اتحادية
من إقليمين كبيرين واحد في الشمال والآخر في الجنوب (المشاركون في الحوار من
الحراك الجنوبي كانوا دعاة هذا الخيار على قاعدة عودة دولتي اليمن السابقتين لوحدة
عام 1990). أما الخيار الثالث، فهو خيار غير محدد المعالم، وترك لمناقشات اللجنة.
وفي العاشر من فبراير 2014 أنهت اللجنة التي حملت اسم "لجنة تحديد
الأقاليم" أعمالها مرجحة الخيار الأول، أي خيار الأقاليم الستة وحظى التصويت
على هذا الخيار بأغلبية كبيرة من أعضاء اللجنة، وبالذات ممثلي أحزاب: الإصلاح
والناصري والمؤتمر الشعبي العام، وحزب العدالة والبناء، ومكونات المرأة والشباب،
ورفض الحزب الاشتراكي وجماعة الحوثي التي تطلق على نفسها اسم "أنصار
الله" هذا الخيار، وهاجموا اللجنة وتشكيلها، وقدم كليهما مبررات هذا الرفض
الذي جاء مقترناً بتهديدات شديدة اللهجة أعادت الأمور إلى أجواء ما قبل تشكيل
مؤتمر الحوار الوطني، بمعنى أنها أعادت إنتاج خيارات الفشل والحلول الفاشلة مرة
أخرى، ووضعت اليمن أمام تحديدات جديدة – قديمة تقول أن اليمن يواجه خطر التقسيم والحرب
الأهلية.
اتحاد أم تقسيم؟
المتحمسون لما توصلت إليه اللجنة يعتبرون أن قرار تقسيم اليمن إلى ستة
أقاليم هو قرار حماية اليمن من الانقسام وفرض خيار الانفصال الذي يراهن عليه البعض
وخاصة الحزب الاشتراكي والمتطرفين من "الحراك الجنوبي"، والتأكيد على أن
الهدف من التقسيم هو إقامة دولة اتحادية حديثة تملك إدارات حديثة في الأقاليم يكون
في مقدورها أن تشرف عن قرب على قضايا التنمية والتطوير والنهوض والأمن والاستقرار.
الضمانة الأهم من وجهة نظر هؤلاء هو الدستور الذي سوف يكون محور العمل
الوطني خلال الأشهر المقبلة ضمن مرحلة انتقالية جديدة بعد أن تم التجديد للرئيس
اليمني عاماً رئاسياً جديداً لإكمال هذه المهمة. ووفقاً لما جاء على لسان مسئولين
باللجنة التي أعدت مقترح التقسيم فإن الحدود الحالية للمحافظات المنضوية في كل
إقليم ستشكل إجمالي حدوده، على أن يتضمن قانون الأقاليم إمكانية مراجعة الحدود
الداخلية الحالية المكونة لكل إقليم، وتوزيعه الإداري، وفقاً لضوابط محددة بعد
دورة انتخابية أو أكثر، وينظم بقانون تصدره السلطة التشريعية لكل إقليم. كما أقرت
اللجنة ضمانات الشراكة الحقيقية لكل إقليم في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وذلك
بتطبيق "مبدأ التدوير" في هيئة رئاسة المجلس التشريعي، وعدم سيطرة
محافظة بعينها على التشكيل الحكومي في الإقليم، كما أوضح أعضاء في اللجنة أن تقسيم
الأقاليم راعى عوامل الترابط الجغرافي والتجانس والتقارب والعلاقات الاجتماعية
والقدرات الاقتصادية، في الوقت الذي احتفظ فيه لكل من صنعاء وعدن بوضع خاص
لمكانتهما السياسية والاقتصادية.
هذه الرؤى وجدت من يدعمها من بعض رموز الحراك الجنوبي من المشاركين في
مؤتمر الحوار الوطني على عكس موقف باقي قادة ورموز هذا الحراك الرافضين من البداية
للمؤتمر ومخرجاته والأشد حرصاً على الانفصال بالشطر الجنوبي عن باقي اليمن. فقد
اعتبر ياسين مكاوي عضو "لجنة تجديد الأقاليم" عن الحراك الجنوبي المشارك
في الحوار أن هذا التقسيم يحقق للجنوبيين، بشكل خاص، والشماليين بشكل عام، ما لم
تحققه جميع الحروب السابقة، كما اعتبر أن قرار التقسيم ليس إلا مجرد خطوة أولى نحو
إعادة البنيان للجنوب في إطار المؤسسات القادمة، معولاً على أن تأتي المجالس
المنتخبة لتساعد في إعادة الأمور إلى نصابها من خلال "وثيقة ضمانات"
تنفيذ مخرجات الحوار.
الموقف مختلف تماماً من جانب الفريق الآخر في الحراك الجنوبي، وكذلك الحزب
الاشتراكي الذين قاطعوا الحوار الوطني، واعتبر "المجلس الأعلى للحراك
الجنوبي" مع بدء أعمال مؤتمر الحوار الوطني في العام الماضي أن "هذه
الخطوة المنبثقة عن المبادرة الخليجية لا تعني الجنوبيين الذين يطالبون بالحرية
والاستقلال واستعادة دولة الجنوب". كما اعتبر هذا المجلس أن "المبادرة
(مبادرة الحوار الوطني)، لم تأتي لحل القضية الجنوبية، وإنما جاءت لتسوية الأزمة
بين السلطة والمعارضة في الشمال".
موقف على سالم البيض الرئيس السابق لليمن الجنوبية الديمقراطية (الشطر
الجنوبي) نائب رئيس الجمهورية اليمنية السابق جاء أكثر حدة، فقد اعتبر أن قرار
تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم يعتبر "لعبة ستأخذ وقتها لا أكثر"، وقال
تعليقاً على قرار "لجنة تحديد الأقاليم" أنه رفض منذ البداية الدخول في
الحوار الذي يهدف إلى حل مشكلة الصراع على مقاعد الحكم في صنعاء على حد قوله، وأنه
لا يتوقع من القوى التي أسماها بـ "المتنفذة" في صنعاء من تقديم أي نظام
ديمقراطي على الإطلاق، وأكد "رفض الجنوبيين لقرار اللجنة لأنه لن يقدم أي
جديد كون القوى الاجتماعية غير قادرة على تنفيذه".
البيض مقتنع تماماً أن الحكم في صنعاء "بات تحت الوصاية الدولية من
قبل الدول الراعية للمبادرة الخليجية، وأن قرار الأقاليم لم يكن لصالح دولة
بعينها، لكن الدول الراعية للمبادرة الخليجية كان لها دور في هذا القرار بما أن
الحكم هناك واقع تحت وصايتهم".
يأتي موقف الحوثيين ليفاقم التحديات أمام مشروع الدولة الاتحادية من
منظورين؛ الأول، هو رفضهم للإقليم الذي يخصهم، والثاني للحرب التي يخوضونها ضد
الدولة اليمنية. فهم يعتبرون أن مشروع التقسيم على النحو الذي جاء عليه سيقسم
اليمن إلى "أغنياء وفقراء". والدليل عندهم هو أن هذا التقسيم أتي
بمحافظة صعدة مع محافظة عمران ومحافظة ذمار (هذا الإقليم أخذ اسم إقليم آزال وعاصمته
صنعاء ويضم أربعة محافظات هي صعدة وعمران وذمار وصنعاء)، والمفروض من وجهة نظرهم،
أن تكون صعدة الأقرب ثقافياً وحدودياً واجتماعياً من محافظتي حجه والجوف مع هاتين
المحافظتين. ويرون أن قرار التقسيم، على النحو الذي جاء عليه، جاء بناء على ضغوط
ومطالب سعودية لأنه يعطي، من وجهة نظرهم، للمملكة السعودية مساحة كبيرة قبلية
ونفطية على الحدود وبالذات مع إقليمي سبأ وجضرموت الغنيتين بالنفط والحدود بين
اليمن مع السعودية، واللذين تربط بين القبائل فيهما والسعودية علاقات قبلية وطيدة.
واعتبر الناطق باسم الحوثيين محمد عبد السلام أن قرار التقسيم عكس رؤية قوى سياسية
بعينها، ولا يحقق شراكة حقيقية، ولا يمثل حلاً للقضية الجنوبية التي جاء من أجلها،
ولا المشاكل الأخرى بالبلاد، ونفى مشاركة صالح هيره رئيس المجلس السياسي للجماعة
الحوثية في لجنة تحديد الأقاليم، وأن من حضر هو حسين العزي الذي رفض التوقيع.
من أهم دوافع رفض الحوثيين لقرار التقسيم على النحو الذي جاء عليه هو أن
القرار وضع محافظة صعدة في إقليم ليست له أية منافذ بحرية ما يعني حرمانهم من
التواصل مع الخارج وبالذات مع الدعم الخارجي.
هذا الرفض الحوثي لقرار التقسيم يتزامن مع مواجهاتهم الدامية والمستمرة مع
العديد من القبائل المناوئة لهم والموالية لحزب التجمع اليمني للإصلاح على وجه
الخصوص في محافظة عمران، وفي منطقة أرحب بالقرب من مطار صنعاء، وهي مواجهات لا
تتوقف ولا ينافسها غير المعارك التي
يخوضها تنظيم القاعدة في مناطق متعددة باليمن ضد الدولة ومع الأمريكيين.
معنى هذا أن قرار تقسيم اليمن في ظل هذه المواقف الرافضة لقرار التقسيم وفي
ظل عدم توقف الاقتتال الداخلي لن يكون حلاً لأزمات اليمن رغم أنه جاء تحت غطاء حل
الصراع على السلطة والثروة في اليمن، وهو صراع ممتد وشديد الارتباط بالتكوين
التاريخي للدولة في اليمن وبالتاريخ السياسي الذي أتت منه الدولة اليمنية الموحدة،
وقبل ذلك دولتا الشمال والجنوب، وهو تاريخ مفعم بالصراع على السلطة والثروة.
الواقع يقول أن هذا الصراع لن يتوقف وسيؤدي إخفاق قيام الدولة الاتحادية،
في حالة حدوثه، إلى فرض خيار تفكيك الدولة الوطنية اليمنية التي دفع اليمنيون
أرواحهم ودماءهم من أجل إقامتها، والتي جددت الأمل العربي في الوحدة الشاملة يوم
أعلنت الجمهورية اليمنية عام 1990 التي أنهت ما كان يسمى بـ "عهد
التشطير" أي عهد التقسيم لليمن، لكن يبدو أن أعداء هذه الوحدة العربية الشاملة
لم يكتفوا بفرض التقسيم والتجزئة على الوطن العربي والحيلولة دون توحده، ولكنهم
يعملون، منذ أن أعلنوا مشروع "الشرق الأوسط الكبير" قبيل غزو العراق
واحتلاله عام 2003، إلى إعادة تقسيم ما سبق تقسيمه وإعادة تجزئة ما سبق تجزئته من
أرض العرب تحت شعار "إعادة ترسيم الخرائط السياسية" وهو الشعار الأساسي
لغزو واحتلال العراق ومشروع الشرق الأوسط الكبير. كان المبرر هو إقامة دول أكثر
تجانساً بدلاً مما أسموه بـ "الدول الفاشلة" التى تضم مكونات عرقية
ودينية وطائفية غير متجانسة.
فشل الدولة الاتحادية في اليمن، إن حدث، سيكون شعاره هو: إقامة الدويلات
المتجانسة، بما يعنيه هذا الشعار من إعادة تقسيم المقسم إلى دويلات عرقية ودينية
وطائفية، أي إعادة إحياء مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي فشل في
العراق وربما يكون إفشال الدولة الاتحادية هدفاً في ذاته لتعميم تجربة التقسيم
الجديدة في باقي الدول العربية.