مسار جنيف .. وفرص الأسد فى البقاء
بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات على
اندلاع شرارة الثورة السورية انخرطت بعض أطراف الأزمة فى مباحثات لحلها فيما يعرف
بمسار جنيف، ويبدو أن هذه الأزمة فى طور شديد التعقيد؛ يصعب معه حصر السيناريوهات
التى يمكن أن تنتهى إليه، فالثورة التى بدأت سلمية محملة بمطالب شعبية، تحولت إلى
حرب أهلية تداخلت معها المصالح الإقليمية والدولية، ولعب المال السياسى والسلاح
دوراً بارزاً فى حرف مسارها نحو اتجاه أشد تعقيداً، وبات الحل مرهوناً بتوازنات
ومصالح كثيفة التشابك والتداخل، أجلت بدورها فرص التوصل إلى أى تسوية، وذلك على
الرغم من الحجم الهائل للخسائر البشرية والمادية التى تحملتها الدولة السورية
وشعبها على مدار ثلاث سنوات، وعلى ما يبدو
أن المعطيات فى المرحلة الراهنة، ولا سيما بعد انخراط غالبية الأطراف فى مفاوضات
لحل الأزمة، تقف أمام تساؤل جوهري حول فرص بقاء الأسد كجزء من التسوية فى المستقبل
باعتبار رحيله المطلب الأول الذى تتمسك به المعارضة وداعموها كشرط للانخراط فى
عملية التسوية؟
محاولات فاشلة:
منذ الشهور الأولى للأزمة مطلع 2011 بدأت وساطات
إقليمية أقرب إلى نصائح ومشورة من دول ومنظمات من أجل إقناع النظام السورى بإجراء
إصلاحات جوهرية باعتبارها السبيل الوحيد لتجنيب سوريا منزلقاً خطيراً، لكن النظام
السورى لم يبد استجابة فعلية، وتحولت الأزمة من احتجاج شعبى محدود إلى حرب أهلية
واقتتال داخلى لا يخلو من تأثيرات خارجية.
وبضغط خليجى اقترحت
الجامعة العربية مرحلة انتقالية لا صلاحيات فيها للأسد. وكأن هذه المبادرة أكدت
على أهمية فكرة التغيير كمحدد رئيسى لتحريك الملف السورى. لكن رفضها النظام السورى
وحلفاؤه وأهمهم روسيا وإيران، وعندما استنفدت الجامعة العربية جهدها وعجزت عن
مقاربة حل يمكن من خلاله وضع حد للمأساة التى تعيشها سوريا، لم تجد بداً سوى
الشروع في تحريك الموقف الدولى عبر مجلس الأمن، لكن تصدت روسيا والصين فى مجلس
الأمن من بداية الأزمة، عبر استخدام حق الفيتو، لمنع تمرير أى قرار يمكن أن يكون
مدخلاً لحل الأزمة.
كما
لم تفلح جهود أخرى فى الجمعية العامة للأمم المتحدة وكذلك مؤتمر أصدقاء سوريا
وغيرها فى إيجاد بديل عن تطور الصراع نحو حرب أهلية، واتضح من طرح الأزمة دولياً
أن وجهات نظر القوى الإقليمة والدولية تحمل حجماً هائلاً من التناقضات والتعقيدات
تعوق فرص التسوية خلال هذه المرحلة، وكان الفشل الدائم بالنسبة للوضع الداخلى
بمثابة إضافة مزيد من الزيت على النار.
ومن
ثم انحسر الصراع بين أطراف لا ترى بديلاً عن انتقال سياسي لا دور للأسد فيه،
وهؤلاء هم المعارضة فى الداخل والخارج والولايات المتحدة والدول الغربية وغالبية
الدول العربية، وبين طرف يرى أن ما يحدث بسوريا مؤامرة وإرهاب ويعارض أى حل مفروض
من الخارج، أو أى حل يشترط، مسبقاً، إبعاد الأسد عن المشهد، وهؤلاء هم النظام
وإيران وروسيا والصين، وهنا يتضح أن الخلاف انتقل إلى ساحة أكثر اتساعاً وانحسر
بين خيارين.. التغيير أم بقاء الوضع كما كان قبل 2011، وأن ساحات الخلاف كانت فى
الداخل والإقليم والخارج وعلى كافة المستويات العسكرية والاعلامية واللوجستية.
مرجعية جنيف
وصل
قطار الأزمة السورية عند محطة جنيف ـ1 مثقلاً بتضارب المصالح والتناقضات داخلياً
وخارجياً، وهو ما انتبه إليه المبعوث الدولى المشترك كوفى عنان فوجه جهوده نحو
التوفيق بين أطراف الأزمة السورية والقوى الفاعلة دولياً وإقليمياً لإنجاح مهمته،
فدعا إلى اجتماع مجموعة العمل حول سوريا فى جنيف فى 30 يونيو 2012 من أجل الاتفاق على
مجموعة من الإجراءات الإضافية بين الأطراف التى تتمتع بنفوذ لدى سوريا، لوضع حد
لتفاقم الأزمة.
كان
أهم ما جاء فى بيان مؤتمر جنيف الأول ضرورة الالتزام بتنفيذ خطة عنان فوراً.
واتفقت مجموعة العمل على المبادئ والخطوط التوجيهية لعملية انتقالية بقيادة سورية
وفق جدول زمنى محدد، على أن تشمل المرحلة الانتقالية إقامة هيئة حكم انتقالية تهيئ
بيئة عمل محايدة تتحرك فى ظلها العملية الانتقالية، ويمكن أن تضم أعضاء الحكومة
الحالية والمعارضة من المجموعات الأخرى.
لكن البيان كونه لم يحسم بشكل قاطع مصير الرئيس
بشار الأسد فإنه حمل تفسيرات وتأويلات متضاربة من جانب أطراف الأزمة كل وفق رؤيته.
بجانب رفض بعض الدول مقترح عنان بمشاركة إيران فى الاجتماع، رغم أنها، بحسب رؤيته،
تمثل ركيزة فى الحل، ما جعل الاجتماع بلا تأثير، حيث كان مقرراً أن يُدعم البيان لاحقاً
بقرار من مجلس الأمن وفق البند السابع بما يضمن نجاحه.
لا
شك أن فشل جنيف1 الذى كان بالأساس خلافاً بين الوكلاء روسيا والولايات المتحدة قبل
أن يطرح على الأطراف الأصليين، مثل نقطة فارقة فى مسار الأزمة السورية، حيث أدى
فشله فى إحداث اختراق ما إلى تحويل حالة الاستقطاب والخلاف الاقليمى والدولى فى
سوريا نحو توجيه الجهود المختلفة نحو محاولة تغيير موازين القوى على الأرض، حتى يذعن
أحد الطرفين لوجهة النظر الأخرى.
وقد
قدمت القوى الخارجية خلال هذه الفترة لطرفى الصراع دعماً مادياً وعسكرياً ولوجستياً
انعكس بشكل كارثى على كافة الأوضاع فى سوريا لا سيما الإنسانية منها. ولأننا على
أعتاب جنيف مرة ثانية وثالثة فمن المشروع أن نتساءل حول المتغيرات المحيطة بالأزمة
وفرص الأسد فى البقاء فى المرحلة المقبلة؟
فرصة قائمة
لا شك أن فرص بقاء
الأسد تتعزز من خلال ملاحظة ما يلى:
1- تماسك النظام وقدرته
على مواجهة الفصائل المسلحة، بل وتحقيق بعض المكاسب العسكرية واستعادة السيطرة على
بعض المناطق. واستفادة النظام من الاقتتال بين فصائلها بما يسمح له بقدر كبير من
المناورة السياسية والعسكرية، بجانب الانفصال بين ممثلى المعارضة فى الخارج
والفصائل المقاتلة فى الداخل.
2- تنامى قوة الكتائب
المتطرفة المحسوبة على القاعدة فى سوريا ونجاح الأسد فى وضع الغرب أمام معادلة
صعبة بين بقائه وبين ترك سوريا للمتطرفين. وهذه العوامل السابقة قد تمكن النظام من
تقويض قدرة الفصائل المسلحة وتثبيت وجوده على الأرض، لكن بالطبع لن تنهى وجودها.
3- تواصل الدعم المقدم
للنظام من روسيا وإيران فى مقابل تراجع الدعم الخارجى المقدم للمعارضة لا سيما فى
مجال التسليح، بما يضمن تفوق النظام عسكرياً، وهذا التراجع جاء بعد اتفاق تسليم
السلاح الكيماوى السورى، وبعد استيلاء تنظيم داعش فى الشمال على الحدود التركية
السورية على بعض مستودعات السلاح المقدمة من الغرب للجيش السورى الحر.
4- ضعف تنظيم
المعارضة، وعدم قدرتها على إنشاء كيان واحد يحتكر الحديث باسم الثورة السورية
ومطالبها.
5- خبرة النظام
السورى الطويلة وإجادته لتوظيف المعطيات والأوراق الإقليمية والدولية فى التخلص من
الضغوط.
6- الاستفادة من
التقارب الايرانى الغربى، لا سيما بعد الاتفاق النووى فى جنيف، والذى تضمن حزمة من
الترتيبات والمصالح المرتبطة بالدور الإيرانى فى المنطقة وسوريا حتماً جزء أصيل
منها. ولعل دعوة إيران لحضور مؤتمر جنيف ـ 2 ، قبل سحبها، تحت ضغوط المعارضة ودول
الخليج تؤكد ذلك.
7- التغيير الذى طرأ
على الموقف الأمريكى من الأزمة السورية والذى بدأ مع اتفاق تسليم النظام السورى
للسلاح الكيماوى، حيث اتفق الطرفان الروسى والأمريكى على ضرورة "جمع الطرفين
المتصارعين في سوريا على طاولة الحوار" لوقف النزاع الدموي. وقد تأكد هذا
التوافق فى قرار رقم 2118 من مجلس الأمن فى 27 سبتمبر 2013، والذى تضمن بنداً يشير
إلى "عقد مؤتمر دولي في أقرب وقت ممكن لتطبيق بيان جنيف ـ1 حول سوريا"
وطالب كافة الأطراف السورية بالمشاركة بشكل جاد وبناء، والالتزام بتحقيق المصالحة
والاستقرار، وهو ما قد يمهد لتغير استراتيجى فى الموقف الأمريكى وقد عبرت دوائر
أمريكية وغربية عدة عن أن بقاء الأسد قد يكون السيناريو الأفضل من بين سيناريوهات الحرب
الطائفية أو التقسيم.
8- التفسير القانونى
لبيان جنيف ـ1 والذى يشير صراحة إلى أن تشكيل هيئة حكم انتقالى يتم من خلال اتفاق
مشترك بين المعارضة والنظام، ومن ثم يجب أن يكون النظام جزءاً من هذه الهيئة التى
تدير المرحلة الانتقالية، وهذا ما يعول عليه الجانب الروسى وما اقنع به الجانب
السورى لقبول الحضور لجنيف.
وإجمالاً يمكن القول
إن هذه المحددات قد تبقى الأسد بشخصه كجزء من الحل، بل من مستقبل سوريا، وقد تنحيه
شخصياً لكن تبقى جزءاً من نظامه كحل توافقى يكسر حالة الجمود حول المفاوضات.
تحديات
صعبة
بينما هناك فى
المقابل عوامل أخرى تمثل تهديداً وجودياً لبقاء الأسد فى المستقبل وهى:
1- عدم قدرة النظام
على بسط سيطرته على الأوضاع فى الداخل فى مواجهة الفصائل المسلحة التى لا تعترف
ولا تلزم نفسها بأى تسوية تبقى الأسد أو نظامه فى المرحلة الانتقالية، خاصة إذا
حصلت تلك المعارضة على مساعدات متنوعة مؤثرة على حالة التوازن القائم فى المرحلة
الحالية، بجانب تحقيقها مكاسب عسكرية وشعبية لا سيما بعدما وجهت المعتدلة منها
جهودها نحو محاربة الفصائل التكفيرية والإرهابية، بما يدحض المخاوف التى يروجها
النظام ويغرى الغرب بمزيد من التعاون معها دون قلق على مستقبل سوريا.
2- التركة الثقيلة
التى خلفها نظام الأسد منذ اندلاع الثورة على المستوى الإنسانى والاجتماعى، بما
يجعله رئيساً ممثلاً لكل السوريين محل شك كبير.
3-الموقف العربى ولا
سيما الخليجى المتمسك بعدم إتاحة أى فرصة للأسد للبقاء كجزء من مستقبل سوريا،
ويعزز هذا العامل أن هذه الدول تتحمل عبء رعاية وتمويل الأطراف المعارضة للنظام فى
الداخل والخارج، وتنسق جهودها مع حلفائها على المستوى الدولى لدعم هذا التوجه.
4-الموقف الأمريكى، رغم
تراخيه وتردده، فإنه يمثل ركيزة أساسية بجانب الموقف الغربى عموماً فى فرض عقوبات
على النظام ومحاصرته، وكذلك فى الإصرار على مرحلة انتقالية لا يكون الأسد شريكاً
فيها.
5- أن روسيا ربما
ترفع الغطاء الحديدى الذى تنسجه حول الأسد عند مرحلة ما، عندما ترى أنها حصلت منها
على تطمينات فيما يتعلق بمصالحها فى سوريا وفى شرق البحر المتوسط، لا سيما وأن
الولايات المتحدة تجعل العقدة عند وجود شخص الأسد.
وفى النهاية فإن فرص
نجاح جولات جنيف فى المرحلة الراهنة تكاد تكون معدومة، فالأسد، وفق المعطيات، باق
إلى أجل ليس بقريب والإرادة غائبة ومن ثم شروط النجاح ما زالت بعيدة المنال، ومن
ثم أقصى ما يمكن أن تحققه جولات المرحلة الراهنة فى جنيف هو بعض المعالجات
الإنسانية، وحتى مسألة وقف إطلاق النار أو أى إجراء يمهد الطريق نحو فرض تسوية بالقوة
للأزمة فهو غير متوفر، لأنه يحتاج إلى تدخل دولى يستند على شرعية دولية وفق الباب
السابع من ميثاق الامم المتحدة وهو أمر ليس محل إجماع فى مجلس الأمن.
وفى حال فشل جنيف
تبقى الدولة السورية ذاتها تحت وقع تهديد وجودى، حيث سيكون خيار التقسيم أكثر
جاذبية، فالأسد غير قادر على حسم المعركة بصورة نهائية تكسبه شرعية حكم كل الدولة،
ومن ثم فهو إما باق كحاكم صورى لدولة فاشلة تعيش حرباً متعددة الأبعاد، أو أنه باق
على جزء منها فى إطار مشروع تقسيمى جديد ربما لن تنجو من تداعياته المنطقة برمتها.
باحث في مؤسسة
الأهرام