مصر وحماس... المسارات المتوقعة لعلاقة مأزومة
تتبع المحطات المختلفة للعلاقة بين مصر وحماس، يوضح أن تلك العلاقة ظلت فاترة في كل الأوقات. ازدادت فتوراً في أحيان كثيرة، وتراجعت درجة ذلك الفتور في أوقات أخرى، لكنها ظلت فاترة بكل الحالات، ورافقها دوماً تبادل للشك والريبة وفقدان للثقة المتبادلة، مع ذلك استمر هذا التأرجح المتواصل فيها متصلاً دائماً ولو بخيط رفيع في أسوأ اللحظات، وذلك لاعتبارات لها أهميتها لدى الطرفين، اقتضت الإبقاء على " شعرة معاوية" فى لحظات التوتر الأشد.
لكن مؤخراً بدا، من خلال المعالجة الإعلامية، أن العلاقة بين الطرفين تخرج عن إطار ذلك المألوف طيلة السنوات الست الماضية، لتشق طريقها نحو تجاوز درجات التأزم الشديد(على النحو الذى شهدته منذ الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين في الثالث من يوليو الماضي) إلى ملامسة مراحل " كسر العظم "، وذلك عقب ما كشفه مسئولون أمنيون كبار في القاهرة تحدثوا عن أمر إسقاط حكم الحركة علانية هذه المرة، وهو ما دفع قادة الحركة لشن هجوم مضاد، ينتقد ما اعتبروه "تورط القاهرة في الملف الفلسطيني الداخلي بهدف تدمير قوى المقاومة". فى سياق كهذا اعتبر البعض أن هذه التصريحات ربما تؤسس لمرحلة جديدة من الخلاف بين الطرفين، يخرجه من دائرة التصريحات الإعلامية إلى " العمل الحاد " !! خاصة وأن المسئولين فى القاهرة لم يكتفوا هذه المرة بتوجيه اللوم لحماس، أو اتهامات بالتدخل في شؤونهم الداخلية من خلال الانحياز لجماعة الإخوان المسلمين ، إنما أعلنوا هذه المرة ( ربما وفق خطوات مدروسة مع أعلى سلطات القرار في القاهرة) عن نيتهم إسقاط حكم الحركة في قطاع غزة .
وكانت وكالة " رويترز" قد بثت فى تقرير لها، منتصف يناير الجاري، نقلاً عن أربعة مسئولين مصريين كبار، ما يفيد عزم النظام المصرى، بعد سحق جماعة الإخوان المسلمين في الداخل، على إضعاف حركة حماس التي تدير قطاع غزة، وصولاً إلى إسقاطها فى نهاية الأمر خلال عدة سنوات من الآن . ونقلت فى ذات التقرير على لسان أحد هؤلاء المسئولين الأمنيين الكبار، قوله:" إن غزة هي التالية.. ولا يمكن أن نتحرر من إرهاب الإخوان في مصر دون وضع نهاية له في غزة الواقعة على حدودنا". فيما أفاد آخرون بأن رجال مخابرات يخططون، بمساعدة نشطاء فى الساحة الفلسطينية، لإضعاف مصداقية الحركة التي سيطرت على غزة في عام 2007، بعد القتال مع حركة فتح . مع دعم الأنشطة الشعبية المناهضة لنظام حماس في غزة.
هذه المعطيات وغيرها تثير حتماً التساؤلات والتكهنات بشأن خيارات الدولة المصرية تجاه " نظام حماس" الذي يسيطر منذ سنوات على قطاع غزة ، وكذلك بشأن ردود فعل " حماس" المتوقعة تجاه ما ترسمه القاهرة من سياسات وسيناريوهات بشأنها .
مصر وحماس بين التنفيس وإنضاج الطبخة:
واقع الأمر أن التردي الحاصل،على هذا النحو المتسارع، فى العلاقات المصرية – الحمساوية في المرحلة الراهنة، يذكرنا(مع الفارق) بتلك الأيام التالية مباشرة لإحكام حركة حماس سيطرتها على قطاع غزة، خلال الأحداث الدامية التي وقعت في يونيو 2007. فآنذاك أعطى تخوف النظام المصري من وجود قوة سياسية لديها جناح عسكري على حدودها، ذات صلة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر(وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من إمكانية تلاقى الطرفين على أجندة مشتركة تتعلق بالشئون الداخلية المصرية) وزناً نسبياً أعلى للمحددات الأمنية للعلاقة. ولهذا ظل الموقف المصري- لبعض الوقت- غير محسوم بشكل قاطع إزاء سيطرة حماس على قطاع غزة في يونيو2007، بحيث بدا، وقتها، أن ثمة منهجين رئيسيين داخل الإدارة المصرية، في تقدير الأخطار الناجمة عن هذا الوضع: أحدهما ركز على خطر هيمنة " حماس الإخوانية" على قطاع غزة في لحظة كان يتصاعد فيها الصدام بين النظام المصري و(الجماعة الأم) في القاهرة. ومؤدى هذا المنهج هو إنهاء تلك الهيمنة في أسرع وقت عبر إفشال حكم حماس.
فى حين ركز المنهج الثاني على الخطر الذي يمكن أن يترتب نتيجة فرض الحصار بغرض إفشال حكم حماس، وحدوث فوضى تدفع بالآلاف من أبناء القطاع إلى التدفق نحو المدن المصرية. ومؤدي هذا المنهج هو تجنب الحصار الشامل وكل ما يؤدي إلى فوضى في القطاع.
وبمضي الوقت اختارت مصر أن تصوغ سياستها بطريقة تجمع بين الاعتبارين معاً، من خلال السعي إلى تغيير الوضع القائم في القطاع، ولكن بطريقة استئناف الحوار، وليس من خلال السعي لإفشال حكم حماس عبر الحصار.
وعليه فقد تبنت مصر، في تلك المرحلة، خيار أو تكتيك " الحدود اللينة " الذي يتشكل نطاقه بين حدين، يمثل الأول التزام القاهرة سياسة إغلاق معبر رفح، ويمثل الثاني حالة التسامح التي تبديها مصر، بين الفينة والأخرى، مع تدفق أهالي القطاع عبر حدودها، لدواع إنسانية بهدف الإغاثة وسد الرمق.
وبما أن هدف الحصار هو إسقاط حماس، وبما أن علة التسامح هو عدم حصول كارثة إنسانية، وبما أن القاهرة كررت فتح معبر رفح للمعطى نفسه، فإن هذا يعنى، فى التحليل الأخير، التجاوب مع سيناريو الاستمرار في إنهاك حماس لإسقاطها، أو لإجبارها على تقديم تنازلات بشأن الحوار الداخلي. ولعب معبر رفح في هذا الإطار دوراً مركزياً، تارة في التنفيس الذي يمنع الانفجار، وتارة أخرى في الضغط " لإنضاج الطبخة ".
في الوقت الراهن: وفى ظل اتهامات لحركة حماس، توجه لها من قبل دوائر رسمية مصرية، بالتورط ميدانياً في استهداف الجيش ومساندة إخوان مصر، وتدريب وتسليح "عناصر جهادية"، وهو ما تنفيه الحركة جملة وتفصيلاً. بالإضافة إلى التورط السياسي والاعلامى( لا يقل أهمية أو خطورة عن التورط الأمني خاصة في مراحل السيولة) للحركة في الشؤون المصرية الداخلية، وهو ما لا يحتاج إلى دليل لإثباته فى ظل إصرار " حماس" على تبنى " الرواية الإخوانية" بحذافيرها لما جرى ويجرى في مصر، من خلال منابر إعلامية وصحفية، تابعة لها، تصر على الاستمرار في هجومها العنيف على الحكومة المصرية، ناهيك عن "الاستعراضات العسكرية" المدججة بإشارات " رابعة" وصور مرسي، وشعارات الجماعة في مصر، مع توافر مؤشرات مقلقة للغاية تتعلق بآليات اتخاذ القرار فى " حماس"، بعد أن غابت أسماء كبيرة عن "السمع" و"البصر" منذ عدة أشهر، و صعدت أسماء ووجوه أخرى محسوبة على التيار الأكثر راديكالية في الحركة. وكذلك عدم انصياع الحركة لمساع حميدة بذلتها بعض الأطراف الحريصة على العلاقات المصرية- الفلسطينية، طالبت الحركة بضرورة ضبط الأداء الإعلامي حيال الأحداث في مصر، واعتماد سياسة النأي بالنفس(أقله سياسياً وإعلامياً) وإبقاء العواطف الخاصة التي تحتفظ بها الحركة حيال " الجماعة الأم" في الصدور، انطلاقاً من قاعدة تغليب مصلحة الجماعة الوطنية الفلسطينية على مصلحة "الجماعة الإخوانية"، أو من منطلق براجماتي يستهدف الحرص على مصلحة حماس، حكومة وحركة، في المقام الأول والأخير.
في ظل كل تلك المعطيات، يمكن الزعم بأن التفكير بشأن مستقبل نظام حماس فى قطاع غزة وإمكانية وضع نهاية له، أصبح حاضراً وضاغطاً( ربما بأكثر من أي وقت مضى )على أعصاب ومراكز استشعار دوائر صنع القرار فى مصر. كذلك ما يرتبط بهذا من جدل بشأن الخيار الأنجع على هذا الصعيد، والأقل كلفة بالنسبة للنظام المصرى، سواء أمنياً أو سياسياً وإعلامياً.
خيارات الإدارة المصرية فى مواجهة حماس
تأسيساً على ما سبق يمكن الإشارة إلى خيارين( أو وجهتي نظر) من المرجح أن الجدل يدور حولهما داخل الدوائر المصرية المعنية بإدارة الأزمة مع حركة حماس:
الأول: يتمثل فى العودة مرة أخرى إلى ذات السيناريو القديم أى " الحدود اللينة " على اعتبار أن هذا الخيار، وإن لم ينجح فى تحقيق المرجو منه فيما مضى ، إلا أن المعطيات الراهنة التى أفرزتها أحداث ومستجدات ما بعد 25 يناير 2011 وحتى الآن، أصبحت توفر له الكثير من أسباب النجاح هذه المرة ، وعليه فإن إعادة إنتاجه مرة أخرى، دون التورط المباشر، كاف جداً لتحقيق الهدف المرجو، وذلك بالنظر إلى أن " حماس" الآن أمام مأزق إستراتيجي وتاريخي ربما لم تعايشه من قبل، فقيادة الحركة ومنذ ثورة الثلاثين من يونيو 2013 وحتى اللحظة، لم تتمكن من: أولاً، بلورة رؤية مشتركة للمأزق الخطير الذي تعيشه. ثانياً، ما زال التناقض ينهش تياراتها المختلفة. ثالثاً، عدم قدرتها على وصل خطوط التواصل بين بعض مراكزها. رابعاً، انسداد الأفق على المستويات كافة، حتى في تأمين مكان لائق لرئيس مكتبها السياسي، خالد مشعل. خامساً، سقوط التحالفات السياسية الأساسية، وانكشاف ظهرها كلياً بعد أن أصبحت أمام مشهد عربي وإقليمي متعارض مع مراهناتها وحساباتها السياسية والإستراتيجية . سادساً اشتداد الأزمة المالية، التي تكاد تطبق الخناق على التفاصيل الثانوية لعمل الحركة (نتيجة التراجع الكبير في الدعم الخارجي، بالتزامن مع القضاء على أكثر من 85% من الأنفاق). وفوق هذا وذاك، تآكل شرعية "حماس" الدستورية والشعبية بعد أكثر من ست سنوات من التفرد المطلق بالسلطة، فضلاً عن أن الرأي العام في غزة وضح أمامه الآن أن شعار" المقاومة" الذي ترفعه الحركة لم يعد سوى أحد وسائل الحفاظ على السلطة واستمرار السيطرة. ناهيك عن فائض الأسباب المتصلة ببؤس الأداء العام لـــ " حماس" طوال سنوات حكمها الست، وتحديداً في مجال الحريات العامة والخاصة، وفى مجالات الإدارة وتوفير مقومات العيش الكريم وبناء اللحمة الوطنية.
والثاني: يتمثل في المبادرة بالهجوم أو"طرق الحديد وهو ساخن" استناداً إلى تقدير بأن مصر تستطيع أن تخنق حماس فى قطاع غزة، وسط تفهم الأغلبية الساحقة من الشعب المصري، وبأقل قدر من الاعتراض العربي الرسمي والشعبي، بل وربما بدعم عربي رسمي واسع، وتفهم من قبل قطاعات واسعة أيضاً من الرأي العام العربي، لم تعد تُكنُ لحماس "الود" و"العطف" اللذين كانت تكنهما لها قبل التحولات الكبرى في مواقف حماس ومواقعها وتحالفاتها. ومؤدى ذلك أنه لا يكفى انتظار ما ستسفر عنه تطورات الأحداث فى غزة بنتيجة الاختناق الذي يعانى منه أهل القطاع ، بل لا بد من المساهمة في صنع تلك الأحداث والتواصل مع بعض النشطاء من خصوم "حماس" بغرض تشجيع حركة معارضة شعبية محلية أصيلة عناصرها من الفلسطينيين الذي يعيشون في قطاع غزة، كي تطيح بالفرع المحلى من الإخوان المسلمين هناك.
وما يمكن ملاحظته في سياق كهذا:
1- أن الخيار الأول بدأ الشروع في تنفيذه منذ الأيام الأخيرة لحكم " محمد مرسي" ، وأولى خطواته تمثلت في تصعيد الجيش المصري لحملته على الأنفاق، وكان ذلك ضرورياً في سياق الحملة العسكرية التي يقوم بها الجيش ضد عناصر" السلفية الجهادية " في سيناء. وقد أفضى ذلك إلى أن كمية الوقود التى دخلت غزة عبر الأنفاق في الأسبوع الأخير من يونيه 2013 لم تتجاوز(وفقاً لبعض التقديرات) حوالي 10 % من تلك التي دخلت أوائل الشهر نفسه. وثاني خطواته تمثلت فى منع قيادات الحركة من الخروج من غزة .
2- أن استضافة القاهرة لأعضاء "حركة تمرد الفلسطينية" خلال شهر يناير الجارى( حيث تلقوا ترحيباً من ممثلين رسميين ) لا يعد دليلاً قاطعاً- كما يتصور البعض- على تبنى الحكومة المصرية للخيار الثاني، وذلك لأنه من المشكوك فيه أن يكون بإمكان هؤلاء النشطاء الفلسطينيين العودة إلى القطاع من دون أن تعتقلهم حماس، ناهيك عن أن تبنى القاهرة للخيار الثاني يقتضى عملياً عدم الاعتماد على نشطاء حركة فتح في قطاع غزة، الذين يخضعون لمتابعة عن كثب من قبل الأجهزة الأمنية التابعة لحركة حماس .
3- من المهم الالتفات إلى أنه لا أحد يتحدث فى سياق الخيار الثاني عن أى عمليات عسكرية مصرية داخل غزة ، فهذا غير وارد على الإطلاق ولا حتى بشكل محدود. ومن ثم فإن ما يُذكر أحياناً بشأن ذلك فى بعض وسائل الإعلام المصرية ، لا يعبر مطلقاً عما يدور داخل الدوائر المصرية الرسمية المعنية بهذا الأمر، بقدر ما يعكس خفة في التعاطي مع أمر جاد، لا يُسأل عنها سوى أصحابها سواء من مقدمي تلك البرامج، أو بعض المعلقين والمحللين.
4- أن ثمة ديناميكيات أكثر تعقيداً على الأرض (هي بالضرورة محل نظر وتأمل من قبل صانع القرار في القاهرة ) تؤكد أهمية النظر إلى كلا الخيارين ضمن سياق من التكامل وليس بالضرورة التفاضل فيما بينهما، ومن ثم فالشروع في أولى خطوات الخيار الأول ليس معناه حسم المسألة أو الانصراف عن الخيار الثاني، فالأول يمكن، عند درجة معينة، وبحسابات دقيقة أن يكون بمثابة التمهيد للثاني. خاصة وأن المعطيات على الأرض بتشابكاتها وأبعادها المتعددة، وحساباتها المعقدة، تحول عملياً دون تحقيق هدف إسقاط حكم حماس فى غزة، فى عدة أسابيع أو شهور قليلة، حتى فى حال تبنى الخيار الثاني، وإنما يحتاج الأمر إلى عامين أو ثلاثة على أقل تقدير.
5- الثابت يقيناً أن سلوك الدولة المصرية، حتى هذه اللحظة، يعد ترجمة للخيار الأول، لكن هذا لا ينفى احتمالية أن تتدحرج الأمور فيما بعد لتصل بصانع القرار المصري إلى تبنى الخيار الثاني . وفى كل الأحوال يتوقف ذلك على عوامل ثلاثة ينبغي النظر بشأنها قبل الإسراع بتبني وجهة نظر معينة. هذه العوامل مرتبطة أولاً، بالموقف الاسرائيلى ومقاربته بشأن غزة ، ومستقبل " نظام حماس" بها. وثانياً، بتطورات العملية العسكرية والأمنية التي ينفذها الجيش المصري في سيناء. وثالثاً بمعطيات الساحة الفلسطينية وتطوراتها، لا سيما تلك المتعلقة باستراتيجيات السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس، وكذلك بحدود ودرجة الاستعصاء المتصور فى علاقة " حماس" بالمكونات الاجتماعية والسياسية في قطاع غزة .
باحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.