تركيا وقطر: الزواج بين ديلوماسية النموذج ودبلوماسية الريال
الأحد 19/يناير/2014 - 03:30 م
محمد عبدالقادر خليل
تركيا وقطر. دولتان لديهما روابط سياسية واقتصادية وأمنية تنامت خلال سنوات لتشكل ما يطلق عليه في الأدبيات السياسية "تحالف مرن"، بين دولة إقليمية تقع جغرافياً على هامش الإقليم وتتطلع لأن تغدو مركز تفاعلاته، ودولة صغيرة نسبياً تمتلك وفرة مالية تريد توظيفها، لتتحول إلى فاعل إقليمي مركزي.
التحالف بين الدولتين قائم على أساس التوافق حيال قضايا إقليمية معينة وليس وفق هياكل مؤسسية قائمة، فالطموح الإقليمي والمصالح المتقاطعة و"التكامل المفترض" بين دولة إقليمية رئيسية (تركيا) ودولة غنية صغيرة (قطر)، دفع بتبلور تحالف مشترك بدت ملامحه تتشكل من خلال تنسيق متبادل بشأن العديد من قضايا الصراع في الشرق الأوسط.
المحركات الأساسية للعلاقات:
تجلت الأدوار السياسية لهذا التحالف في العديد من المبادرات حيال عدد من القضايا الاشتباك الرئيسية، حيث لعبت الدولتان أدواراً تكاملية بارزة حيال أحداث "الربيع العربي"، وارتفعت وتيرة الزيارات المتبادلة وازداد التنسيق المشترك لدعم تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، وذلك في محاولة لتغيير أنماط التحالفات الإقليمية وموازنة نفوذ القوى التقليدية بالمنطقة.
الهدف من ذلك تعظيم النفوذ وتعزيز المكانة، وفق محركات كثفت فرص التقارب لتظهر ملامحه في العديد من مقاربات الطرفين حيال قضايا الاشتباك الإقليمي، وهو أمر يمكن رصد أسبابه فى:
"أجندة السياسة الخارجية"، حيث اتجهت الدولتان خلال السنوات الخالية إلى دعم العلاقات مع تيارات الإسلام السياسي، فقد توثقت الصلات بين قطر وجماعات الإسلام السياسي بعد وصول الشيخ حمد بن خليفة إلى السلطة في الدوحة، والتي كانت قد بدأت توطيد علاقاتها بالفعل بالجماعة إثر قيام العديد من عناصرها بمغادرة مصر بسبب الضربات التي تلقتها في خمسينيات وستينيات القرن الماضى.
وقد وجد العديد من قيادات الجماعة في قطر - بالمقارنة ببقية دول الخليج - أرضاً خصبة للعمل وحرية التحرك لنشر الأفكار، وذلك بسبب أجندات خاصة وتوجهات أيديولوجية مشابهة لدى نخب قريبة من دوائر الحكم دفعت بدورها لأن ترعى القيادة القطرية جماعة الإخوان، سياسياً وإعلامياً. وقد تجلى ذلك في مواقف قناة الجزيرة وترويجها سواء للإخوان في مصر أو النهضة في تونس أو حماس في الأراضي الفلسطينية أو جبهة الإنقاذ في الجزائر.
على جانب آخر، فإن تركيا، في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، ساندت جماعة الإخوان بناء على تشابكات أيديولوجية وروابط تنظيمية، تعود بجذورها لعقود سابقة. وقد أفضى ذلك لأن تسعى لاستغلال "الحالة الإسلامية" التي ازدهرت مع بدايات "الربيع العربي" في طبيعتها الحاكمة أو تلك الجهادية المعارضة، بما يخدم أهداف سياساتها الإقليمية. وقد انعكس ذلك في المقاربات التركية حيال الثورة السورية، ودعم حركة الإخوان المسلمين في مصر، سواء قبل ثورة الثلاثين من يونيو أو بعدها.
"التكامل الوظيفي دبلوماسياً"- السمت الرئيس لتحركات قطر الخارجية تجسيدها لما يعرف بـ"دبلوماسية الريال، في مسعى للتحول من دولة صغيرة إلى فاعل مركزي يلعب أدوارا سياسية مستقلة تتمرد على سياسات "الاستتباع" حيال القوى العربية التقليدية (مصر والمملكة العربية السعودية).
وقد لقي ذلك صدى لدى النخبة التركية الحاكمة، التي تستهدف الانتقال من "دور المراقب" إلى "دور الوسيط" في بعض الصراعات الإقليمية، و"دور الطرف" في صراعات أخرى، على نحو أفضى إلى حدوث "تزاوج" بين "دبلوماسية الريال" القطرية و"دبلوماسية النموذج" التركية.
هذا "التزاوج" عبر عنه تحرك الدولتين للتوسط لإنهاء العدوان على لبنان في عام 2006، ثم بالمساهمة في قوات حفظ السلام، والتحرك المشترك في أواخر عام 2010 وبدايات عام 2011 لحل الأزمة السياسية في بيروت، والمشاركة بفاعلية في محاولات إنهاء الانقسام الفلسطيني، والنهوض بأدوار أساسية في عملية استضافة بعض الفلسطينيين المبعدين في إطار "صفقة مبادلة شاليط" مع حركة حماس، هذا بالإضافة إلى إطلاق مبادرات مشتركة حيال الصراع في اليمن وإزاء قضية الصحراء الغربية، ومن خلال المساعدات الإنسانية للصومال.
وقد وضح أهمية الدور الوظيفي القطري بالنسبة لتركيا في عملية التوسط التي قامت بها الدوحة للإفراج عن الطيارين التركيين الذين اختطفا بلبنان. وتشير بعض التقديرات إلى أن عملية الإفراج تمت بعد دفع الدوحة نحو 150 مليون دولار للإفراج عن الجنديين الذين نقلا لتركيا عبر الخطوط الجوية القطرية وليس التركية، كما روجت بعض وسائل الإعلام القريبة من الحزب التركي الحاكم.
"إستراتيجية إنهاء العزلة"- تتبني الدولتان مواقف ثابتة حيال التنسيق الأمني مع الولايات المتحدة، انطلاقاً من اعتبارات عضوية تركيا في حلف الناتو وروابطها التاريخية مع واشنطن. هذا فيما تعتمد قطر على الوجود الأمريكي بقاعدة "العديد" لتحقيق الأمن في مواجهة التهديدات الإقليمية.
وعلى الرغم من أن الطرفين يحاولان إظهار استقلالية التحرك على مسرح العمليات الإقليمي، غير أن التحرك المشترك حيال قضايا المنطقة وحيال بعضهما البعض ينهى العزلة التي من الممكن أن توسم تحركات أي من البلدين إذا ما اتسمت بالفردية.
فقد قامت الدولتان بعقد العديد من الاجتماعات مع أعضاء جماعة الإخوان للتنسيق المشترك حيال تطورات الأوضاع في مصر، وتعاونا معاً بعد سقوط مرسي، سواء من خلال استضافة رموز الإخوان والمحسوبين عليهم أو توفير المنابر الإعلامية لنشر أفكارهم وشحذ أنصارهم، كما وظفا القضية الفلسطينية (زيارات قطاع غزة) لخدمة نفوذهما الإقليمي، وللضغط على نحو غير مباشر على الدول العربية الرئيسية.
ومع أن هذه السياسات كان من الممكن أن تفضي إلى قيام بعض الدول العربية بمحاصرة وإدانة مواقف أي من الدولتين فى حال عبرت عن مواقف فردية، غير أن التنسيق المشترك حقق لهما القدرة على المناورة في مواجهة بقية الأطراف الإقليمية. وقد يفسر ذلك الزيارة السريعة لوزير الخارجية التركي للدوحة عقب تردد المسئولين القطريين في إظهار موقف واضح من ثورة 30 يونيو، على نحو أفضى إلى تصاعد حدة الموقف القطري، بعد أن كانت قد بعثت ببرقية تهنئة للرئيس المؤقت عدلي منصور، عقب توليه المنصب مباشرة.
"تلبية الاحتياجات المتبادلة"- تتأثر العقلية الاقتصادية التي تتحكم في توجهات تركيا حيال توثيق العلاقات مع قطر، بطبيعة الرغبة الملحة لتأمين الاحتياجات من مصادر الطاقة، فتركيا واحدة من كبريات الدول المستوردة للطاقة، حيث تستهلك ما قيمته 60 مليار دولار من النفط والغاز سنوياً، وهو ما يشكل ثلثي العجز الحالي في الموازنة التركية. ويرتبط ذلك بكون قطر أكبر مركز للطاقة من حيث احتياطي الغاز الطبيعي.
وتسعى أنقرة لإنشاء خط أنابيب ينقل الغاز من الدوحة إلى أنقرة كجزء من "مشروع نابوكو"، الذي يستهدف أيضاً إيصال الغاز القطري إلى أوروبا. ومن العوامل الأساسية التي دفعت بتعميق التعاون بين الطرفين، تنامي الإدراك بالحاجات المتبادلة، ذلك أنه في الوقت الذي تسعى فيه تركيا لضمان "أمن الطاقة"، فإن الدوحة تستهدف ضمان "الأمن الغذائي"، نظراً إلى أن تركيا تشكل مصدراً آمناً للغذاء لما تتمتع به من وفرة مائية وطبيعة جغرافية.
كما تعد تركيا مصدراً مهماً للموارد البشرية المدربة اللازمة للطفرة التنموية التي تشهدها قطر. فيوجد نحو 130 ألف من الأتراك المقيمين في دول مجل التعاون (GCC) منهم نحو 100 ألف شخص في السعودية، فيما يتواجد في الدوحة نحو 8 آلاف مواطن تركي، والباقي مقيم في الإمارات والبحرين وسلطنة عمان.
وثمة نوعان من العمالة التركية في قطر، فهناك العمالة المؤقتة من الإداريين والمهندسين والعاملون في شركات المقاولات التركية، المرتبط تواجدهم بإتمام المشروعات القائمين عليها، وهناك العمالة الدائمة التي تأتي في الغالب من منطقة جنوب شرق تركيا ويتحدثون العربية، ويعملون في مشروعات خاصة كالمطاعم وبعض أنواع التجارة الصغيرة. ويوجد في قطر نحو 35 شركة أغلبها يعمل في قطاعات التشييد والبناء، والتي ترتبط بعمليات الإنشاء في مشروعات البنية التحتية، استعداداً لاستضافة نهائيات كأس العالم عام 2022. وتقدر الاستثمارات التركية بنحو 4 مليار دولار، وتضع تركيا مستهدفاً لبلوغ هذه الاستثمارات نحو 10 مليارات دولار خلال الأعوام الأربعة القادمة.
وتدعم قطر الموقف التركي الذي تتحفظ على قبوله بعض دول الخليج بخصوص إنشاء منطقة تجارة حرة مشتركة، على نحو يخدم مصالح تركيا في مضاعفة معدلات التبادل التجاري التي ارتفعت بالفعل من نحو 1.49 مليار دولار عام 2002 إلى نحو 19.6 مليار دولار عام 2012. وثمة تقارير تشير إلى أن تبعات التقارب القطري – التركي أفضى لأن تمنح الدوحة صوتها لتركيا، وليس للإمارات وذلك في سياق التنافس بين البلدين لاستضافة تنظيم "معرض أكسبو" الدولي، والذي حسم بنهاية الأمر للأخيرة.
معوقات "التحالف المستقر:
كانت عملية انتقال السلطة بقطر في 26 يونيو الماضى، واحدة من أكثر التطورات التي أقلقت تركيا، ذلك أن إدارة الشيخ حمد بن خليفة اعتمدت سياسات مماثلة لمواقف أنقرة حيال ملفات الصراع الإقليمي في سوريا والوضع في مصر والأزمة في قطاع غزة.
وقد بدا واضحاً أن القلق التركي يرتبط بأن عملية انتقال السلطة في قطر جاءت في سياق توتر تشهده علاقات أنقرة بالعديد من دول الخليج لتباين سياسات ومواقف الطرفين حيال عدد من الملفات الإقليمية.
وقد تزايد قلق تركيا تأثراً بأن "الحدث القطري" غير الاعتيادي في سياقه ترافق مع سقوط حكم محمد مرسي، الذي دعمته الدولتان مالياً وإعلامياً ودبلوماسياً واستهدفت أن تشكل معه تحالفاً بأضلاع ثلاثة. كما ارتبط ذلك بما سرب عن قيام كل من الرئيس الفلسطيني، محمود عباس أبو مازن، وعضو اللجنة المركزية بحركة فتح، عباس زكي، بنقل رسالة إلى الرئيس السوري، بشار الأسد، مفادها أن الأمير تميم يسعى لفتح خطوط تواصل جديدة مع النظام السوري، وهو ما اعتبر، وفق بعض التقديرات التركية، مؤشراً دالاً على توجه قطري تدريجي لتبني مسار مناقض لنمط المواقف وطبيعة السياسات التركية.
ترتب على ذلك أن عقد وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، جلسة مباحثات مغلقة مع وزير الخارجية القطري الجديد، خالد محمد بن عطية، هذا فيما قام رئيس الوزراء التركي بالاتصال بالأمير القطري في 21 أغسطس لبحث ملفات التعاون الثنائي ومستقبل التحركات الثنائية حيال الأوضاع في مصر والأزمة في سوريا.
ومع أن القلق التركي تلاشي تدريجياً باتضاح ديمومة المواقف القطرية المساندة للسياسات التركية، غير أن التحدي الأكبر بالنسبة للدولتين ارتبط بما باتا يواجهانه من ضغوط كبرى من قبل دول خليجية رئيسية لتعديل مسار سياساتهما الآخذة في التنافر مع جوهر المواقف والأهداف الخليجية.
ذلك أن الرفض الخليجي لمحور تركيا – قطر ومحاولة إفشاله لم يعد يرتبط وحسب بمحاولة الدولتين إيجاد قوى إقليمية قادرة على موازنة نفوذ الدول العربية التقليدية، ولكنه بات يسعى لتأكيد انهيار محور "الاعتدال العربي" لصالح قوى إقليمية ظلت على هامش الإقليم، وأصبحت تحاول أن تعبر عن تنامي نفوذها وأدوارها الإقليمية عبر استراتيجيات التدخل في الشئون الداخلية لدول عربية رئيسية، بما ينذر بحدوث ذلك في حالات عربية أخرى، وهو وضع لا يتلاءم مع مصالح أغلب الدول الخليجية وثوابتها الأمنية.
وقد أشارت بعض الاتجاهات إلى ما اعتبرته ضغوطاً سعودية- إماراتية لتعديل مسار السياسات القطرية، إذا ما كانت حريصة على استمرار التئام مجلس التعاون وفق شكله وصيغته القائمة. كما مارست دول خليجية ضغوطاً سياسية واقتصادية على تركيا لتعديل مسار مواقفها والأخذ في الاعتبار أنماط المواقف الخليجية من قضايا هي بطبيعتها عربية.
مجمل هذه المعطيات قد تدفع بصعوبة تحول محور تركيا – قطر إلى تحالف هيكلي، خلال الفترة المقبلة، لاسيما في ظل التحديات التي باتت تواجهها الحكومة التركية محلياً، وتنامي حدة العداء لمواقفها إقليمياً، وتزايد معالم تشكل محور جديد بين كل من مصر والسعودية والإمارات والأردن، بما يمثل عنصراً ضاغطاً على الدولتين لتعديل مسار سياساتهما، ذلك أن استمرار سياسات الدولتين على نحو يهدد مصالح دول خليجية رئيسية بالإضافة إلى مصر والأردن قد يفضى لانتقال التهديدات غير المعلنة والتوترات المكتومة إلى حالة من التوتر المتصاعد والصراع المعلن، ولكن بصورة جماعية.