كيسنجر والنظام الدولي
عادة ما يوصف هنري كيسنجر، المفكر الإستراتيجي ووزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، بأنه أحد روّاد المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. هذه المدرسة التي تنظر إلى العالم على أنه في حالة من الصراع الدائم في إطار سعْيِ كل دولة لتحقيق مصالحها الذاتية وتعظيم قوتها وخاصة العسكرية، وأن استقرار النظام الدولي يرتبط بوجود توازن للقوى بين الدول الكبرى في هذا النظام.
هنري كيسنجر الذي يبلغ من العمر 91 عاما، أصدر منذ عدة أسابيع كتابا جديدا هو رقم 17 في سلسلة مؤلفاته، الكتاب يحمل عنوان "النظام الدولي World Order"، يتناول فيه بالتحليل الوضع الحالي للنظام الدولي، والرؤى المختلفة بشأنه، وكيفية الوصول لتوافق حول شكل نظام دولي جديد يمكن أن يحقق الاستقرار في العالم.
أولا- نظام وستفاليا
نقطة الانطلاق في تحليل كيسنجر تقوم على أن العالم يعيش الآن في حالة من اللانظام أو على الأقل في حالة من السيولة الدولية، وعلى الرغم إقرار كيسنجر أن العالم لم يشهد نظاما دوليا حقيقيا عبر تاريخه، فإنه يرى أن العالم عاش في سلام لمدة تقرب من 150 عاما في إطار يقترب كثيرا من وصف النظام الدولي، وهو النظام الذي تم وضع أسسه في أوربا الغربية منذ ما يقرب من أربعة قرون في مؤتمر السلام الذي عقد في منطقة وستفاليا الألمانية، والذي وضع نهاية لقرن من الصراع الطائفي والاضطرابات السياسية في أوربا بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاما في الفترة من 1618 إلى 1648، والتي قامت علي خليط من النزاعات السياسية والدينية، وأدت لدمار كبير ووفاة ما يقرب من ربع سكان أوربا الوسطى سواء نتيجة للقتال، أو المرض، أو الموت جوعا.
كيسنجر يشعر بالحنين لنظام ويستفاليا ويدعو إلى استلهام المبادئ التي قام عليها عند التفكير في إنشاء نظام دولي جديد، ويشير إلى أن نظام وستفاليا قام علي نظرة واقعية وليس أيديولوجية، واعتمد على المبادئ التالية:
· الدولة هي الوحدة الأساسية في النظام.
· الاعتراف بسيادة واستقلال الدول الأعضاء.
· امتناع هذه الدول عن التدخل في الشئون الداخلية لكل منهما.
· الحد من طموحات الدول لبعضها بعضًا من خلال إنشاء نظام لتوازن القوة Balance of Power فيما بينها.
نظام وستفاليا انتشر في العالم، وعبر الحضارات والمناطق المختلفة، كإطار للعلاقات الدولية، وحملته أوربا لمناطق توسعها الخارجى. ويرى كيسنجر أن أحد أسباب نجاح هذا النظام هو عدم ادعاء أي دولة ملكيتها للحقيقة أو لمبادئ عالمية، وقيام كل دولة بممارسة سلطتها السيادية على أراضيها، مع اعتراف كل منها بالواقع القائم في الدول الأخرى، وامتناعها عن العمل لتغيير أو تحدي هذا الواقع.
ثانيا- تحديات النظام الدولي
يشير كيسنجر إلى أن مبادئ وستفاليا شهدت تحديات من أطراف مختلفة في العصر الحديث. فأوربا تسعى إلى الخروج عن النظام القائم على الدولة وتجاوز ذلك من خلال مفهوم السيادة المجمعة pooled sovereignty في إطار الاتحاد الأوربي.
أما الولايات المتحدة فقد تباين موقفها ما بين الدفاع عن نظام ويستفاليا من ناحية، ولكن من ناحية أخرى قامت بانتقاد المبادئ المتعلقة بتوازن القوى وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، والنظر إليها على أنها مبادئ عفا عليها الزمن. واستمرت الولايات المتحدة في الحديث عن عالمية القيم الأمريكية، وحقها في مساندة هذه القيم في العالم.
انطلاقا من ذلك، يرى كيسنجر أن هيكل النظام الدولي في القرن الحادي والعشرين يعاني من عدد من التحديات الأساسية:
التحدي
الأول: يتعلق بطبيعة الدولة نفسها، باعتبارها الوحدة الأساسية لهذا النظام، والتي تتعرض لقدر كبير من الهجوم بل والتفكيك، فبالإضافة
لسعي أوربا لتجاوز مفهوم الدولة، نجد أن العديد من دول الشرق الأوسط تتفكك إلى مكونات
طائفية وعرقية ودخلت في صراع مع بعضها بعضا، وفي عدة أجزاء من أخرى العالم شهدنا،
منذ نهاية الحرب الباردة، ظاهرة "الدول الفاشلة"، وظهور ما يعرف
"بالفضاء غير المحكوم “Ungoverned Spaces " وهي مناطق داخل الدول، ولكن فقدت
فيها الدولة احتكارها لاستخدام القوة، وهو أحد المظاهر الأساسية لممارسة الدولة
لسيادتها.
التحدي
الثاني: يرتبط بالتعارض بين منطق المؤسسات الاقتصادية والمؤسسات السياسية في
العالم،
حيث أصبح النظام الاقتصادي الدولي ذا نزعة عالمية Global، في حين أن البنية السياسية للعالم بقيت على أساس الدولة القومية.
وأدى الزخم الاقتصادي العالمي إلى إزالة العقبات أمام تدفق السلع ورؤوس الأموال، في
حين لا يزال النظام السياسي الدولي يستند إلى حد كبير على أفكار متناقضة بخصوص النظام
الدولي ومفاهيم المصلحة الوطنية للدولة. أي أن العولمة الاقتصادية، في جوهرها،
تتجاهل الحدود الوطنية في حين تؤكد السياسة الدولية على أهمية الحدود.
التحدي الثالث: هو عدم وجود آلية فاعلة للتشاور أو التعاون بين القوى الكبرى بشأن القضايا المهمة، على الرغم من وجود عدد كبير من المحافل المتعددة الأطراف مثل مجلس الأمن الدولي واجتماعات القمة لحلف شمال الأطلنطي والاتحاد الأوروبي، واجتماعات قادة آسيا والمحيط الهادئ في أبيك وقمة شرق آسيا، ومجموعة الثماني G8، ومجموعة العشرين G20. إلا أن طبيعة هذه الاجتماعات تتعارض مع مسألة وضع إستراتيجية بعيدة المدى، حيث يتم استهلاك وقت كبير في المناقشات حول جدول أعمال الاجتماعات، أو يركز القادة على القضايا ذات التأثير على الرأي العام، أو تتحول إلى مناسبات إعلامية.
ثالثا- بناء نظام دولي جديد
يشير كيسنجر إلى أن إعادة بناء النظام الدولي هو التحدي الأكبر لرجال الدولة في العصر الذي نعيش فيه. وأن الفشل في تحقيق ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى حرب كبري بين الدول (وإن كان هذا ليس مستبعدا في بعض المناطق) ولكنه سيؤدي إلى نمو مناطق نفوذ Spheres of Influence حول العالم، وكل منطقة لها رؤيتها الخاصة للنظام الدولي. وسوف تسعى مناطق النفوذ لاختبار قوتها ضد الكيانات الأخرى التي تعتبرها غير شرعية، وسيؤدي ذلك لتوترات وصراعات بين المناطق للحصول على مكانة أو مزايا معينه سواء على الصعيد الإقليمي (في قارة ما) أو على صعيد العالم كله، ويمكن أن تكون هذه الصراعات أكثر دمارا من الصراعات السابقة التي شهدها العالم.
وهنا يشير كيسنجر إلى ضرورة التعامل مع ثلاثة مستويات مختلفة من النظام.
الأول هو النظام العالمي World Order، ويتعلق بمفهوم منطقة ما أو حضارة محددة عن طبيعة الترتيبات وتوزيع القوة المرتبط بالعالم بأسره.
الثاني هو النظام الدولي International Order، وهو بمثابة التطبيق العملي للمفاهيم السابقة في مساحة كبيرة من العالم، كبيرة بما يكفي ليؤثر على التوازن العالمي للقوة.
الثالث هو نظم إقليمية Regional Orders، وتنطوي على نفس المبادئ، ولكنها تطبق في منطقة جغرافية محددة.
ويرى كيسنجر أن أيًّا من هذه الأنظمة يجب أن يقوم على مجموعة من القواعد المقبولة من الجميع والمرتبطة بحدود التصرفات المقبولة وتوازن القوى. ويشير إلى أن التوافق بشأن شرعية الترتيبات القائمة لن يمنع التنافس أو المواجهات، ولكنه يضمن أن أي تعديلات Adjustments للنظام سوف تتم من داخل النظام القائم نفسه، ولن تمثل تحديا أساسيا له.
ويؤكد كيسنجر على أن هذه الترتيبات الدولية يجب أن تعكس حقيقتين وهما: النظام Order والحرية، وأنه لا يجب النظر إلى مفهومي النظام والحرية على أنهما طرفا تقيض، بل ينبغي أن تفهم العلاقة بينهما على أنها تقوم على الاعتماد المتبادل interdependent. فغياب الحرية قد يؤدي لتقويض النظام ذاته، وكذلك فإن الحرية لا يمكن تأمينها أو استمرارها بدون إطار يحافظ على السلام.
ويتساءل كيسنجر: هل يمكن للمناطق ذات الثقافات والتاريخ المتباين قبول شرعية أي نظام مشترك؟ ويجيب بأن النظام الدولي لا يمكن أن يتحقق بواسطة بلد واحد أو دولة تتصرف بشكل انفرادي، ولكي يتحقق النظام الجديد سيكون على مكوناته، مع احتفاظهم بقيمهم الخاصة أن يسعوا لاكتساب ثقافة ثانية ذات طابع عالمي، ومفهوم للنظام يسمو transcends على وجهة نظر أي أمة واحدة.
النظام بهذا المعنى لا يمكن فرضه ولكن يجب أن يبني بشكل مشترك، ولكي يكون مستداما يجب أن يتم قبوله ليس فقط من قادة الدول ولكن أيضا من الشعوب.
ويعطي كيسنجر أهمية خاصة للنظم الإقليمية، ويؤكد على أن السعي لبناء النظام الدولي المعاصر يتطلب إستراتيجية لتأسيس مفهوم النظام في مختلف المناطق، وربط هذه النظم الإقليمية ببعضها بعضًا. ويدلل كيسنجر على أهمية الربط بين النظم الإقليمية المختلفة بالإشارة إلى أن انتصار حركة راديكالية قد يحقق الاستقرار والنظام لمنطقة واحدة، في حين يمهد الطريق لاضطرابات في ومع كل المناطق الأخرى. وكذلك فإن الهيمنة العسكرية لدولة على منطقة ما قد تجلب لهذه المنطقة حالة من النظام، ولكن يمكن أن تؤدي إلى أزمة لبقية العالم.
رابعًا- النظام الدولي والشرق الأوسط
يفرد كيسنجر فصلا مستقلا للشرق الأوسط، يحلل فيه رؤية هذه المنطقة للنظام الدولي، وتفاعلاتها معه. كما يرى كيسنجر أن بناء نظام دولي جديد يواجه تحديّين أساسيين في منطقة الشرق الأوسط. التحدي الأول يتعلق بتيار الإسلام السياسي الذي يعارض الأسس التي يقوم عليها هذا النظام، والتحدي الثاني يرتبط بحالة التفكك والانهيار التي تواجهها العديد من الدول في هذه المنطقة.
بالنسبة للتحدي الأول يشير كسينجر إلى أن حسن البنا ـ مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ـ أعلن عام 1947 أن الفرصة قد حانت لإنشاء نظام دولي جديد مبني على الإسلام، وذكر البنا أن الغرب على الرغم من تقدمه العلمي فإنه في حالة إفلاس وانهيار، والأسس التي قام عليها في انحدار ومؤسساته تتعرض للانهيار. وعلى الرغم من أن البنا لم يستخدم تعبير نظام وستفاليا، فإن وجهة نظره كانت أن هذا النظام فقد شرعيته وقوته.
ولكن توفي حسن البنا عام 1949 قبل أن يضع تفاصيل هذا المشروع الإسلامي الدولي. وظهر بعد ذلك سيد قطب الذي تبني فكرة الحرب ضد النظام الدولي القائم (دار الإسلام في مواجهة دار الحرب)، وأن الإسلام هو نظام عالمي، وأنه النظام الوحيد الذي يحقق الحرية للمواطن من سيطرة وتحكم مواطنين آخرين أو الخضوع للقوانين البشرية، أو قبول العيش في إطار نظم تقوم على أسس لغوية أو دينية أو عرقية أو المصلحة الوطنية (وهي الأسس التي قامت عليها الدولة في إطار نظام وستفاليا). مهمة المسلمين وفقا لقطب هي الإطاحة بكل هذه النظم واستبدالها بنظام إسلامي يقوم على التطبيق الحرفي لتعاليم القرآن.
ويشير كيسنجر إلى أن العلمانيين قد يصفون أفكار قطب بالتطرف، ولكن بالنسبة للمتشددين الإسلاميين فإن هذه الأفكار تمثل الحقيقة وتسمو على أي من القواعد الحاكمة للنظام الدولي المعاصر. وأصبحت هذه الأفكار بمثابة صيحة الاستنفار للعديد من المتطرفين والجهاديين في الشرق الأوسط وخارجه على مدى عقود مثل تنظيم القاعدة، وحماس، وحزب اللـه، وحركة طالبان، ونظام الملالي في إيران، وبوكو حرام في نيجيريا، والميليشيات المتطرفة مثل جبهة النصرة في سوريا والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
في هذا الإطار فإن النقاء/ الفضيلة Purity ، وليس الاستقرارStability يصبح هو المبدأ الحاكم لهذا للنظام الدولي. كذلك لا يمكن أن تصبح الدولة هي نقطة الارتكاز لهذا النظام، لأن الدول هي كيانات علمانية، وبالتالي غير شرعية، وفي أحسن الأحوال يمكن أن تكون نوعا من الوضع المؤقت في الطريق إلى إنشاء كيان ديني على نطاق أوسع. يضاف لذلك أن مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى لا يمكن أن يكون هو الأخر مبدأ حاكما في هذا النظام، لأن اللواءات الوطنية تمثل انحرافا عن العقيدة الصحيحة.
أي أن رؤية هذا التيار الإسلامي للنظام الدولي تختلف تماما مع الرؤية والأسس التي قام عليها النظام الدولي الحديث الذي استمد مبادئه من وستفاليا.
بالنسبة للتحدي الثاني، يشير كيسنجر إلي أن المشكلة الأساسية التي تواجه العديد من البلدان العربية اليوم هي تفكك الدولة إلي وحدات قبلية وطائفية، ودخولها في صراع عنيف مع بعضها بعضًا، والتلاعب بها من خلال قوى خارجية متنافسة.
يرى كيسنجر أن الثورات وتغيير النظم في العالم العربي لم يؤد إلى ظهور سلطة جديدة تحظى بالشرعية والقبول من غالبية المواطنين، وبالتالي أدت إلى زيادة الخلاف بين القوى المتناحرة ودخولها في صراعات مفتوحة على السلطة، وأدى ذلك إلي انجراف أجزاء من الدولة إلى الفوضى والتفكك أو حالة التمرد الدائم، وأصبحت الحكومة المركزية غير راغبة أو غير قادرة على إعادة تأسيس سلطتها علي مناطق داخل حدودها، أو على كيانات من غير الدول مثل تنظيم القاعدة وداعش.
على سبيل المثال يوضح كيسنجر إلى أن تفكيك نظام صدام حسين القائم على الأقلية السنية لم يؤد إلى ضغوط من أجل تحقيق الديمقراطية ولكن أدى لضغوط لتحقيق الانتقام، وسعت الفصائل المختلفة لتحقيق ذلك من خلال ترسيخ ولاءاتها الدينية والدخول في حروب مع بعضها بعضًا.
ويشير أيضا إلى أنه من الخطأ النظر للحرب في سوريا على أنها صراع من أجل الديمقراطية وتطبيق معايير حقوق الإنسان، وإغفال أنها صراع له أبعاد تتعلق بالجغرافية الدينية Georeligious والجغرافية الإستراتيجية Geostrategic حيث إن الغالبية الساحقة من القوى المتصارعة في سوريا لا تنظر للحرب على أنها صراع بين ديكتاتور وقوى ديمقراطية، ولكن صراع يتعلق بأي من الطوائف الرئيسية في سوريا سوف تنجح في السيطرة على الآخرين والسيطرة على ما تبقى من الدولة السورية.
ويرى كيسينجر أن الصراع بدأ بالفعل في إعادة رسم التكوين السياسي لسوريا، وربما لمنطقة الشرق الأوسط ككل، حيث أنشأ الأكراد السوريون كيانا مستقلا على طول الحدود التركية، والذي ـ بمرور الوقت ـ قد يندمج مع كيان الحكم الذاتي الكردي في العراق. وأدى خوف الدروز والطوائف المسيحية من وصول الإسلاميين للحكم إلى إحجامهم عن تبني تغيير النظام في سوريا. أما جهاديو داعش فسعوا لبناء دولة الخلافة في الأرضي التي استولوا عليها من سوريا وغرب العراق، وأصبحت كل من الحكومة السورية والعراقية غير قادرة على فرض سيطرتها على أراضيها.
وانضم لهذه الصراع قوى إقليمية مختلفة سعى كل منها لمساندة طائفته المفضلة بالمال والسلاح، فهناك كتلة سنية تتألف من المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وإلى حد ما مصر تواجه كتلة بقيادة إيران الشيعية التي تدعم الأسد ومجموعة من الجماعات الشيعية العراقية وميليشيات حزب اللـه في لبنان وحماس في غزة، في حين تدعم الكتلة السنية الانتفاضات ضد الأسد في سوريا وفي العراق ضد بغداد.
وتتبنى روسيا أهدافًا إستراتيجية في هذه الصراعات تقوم في حدها الأدنى على منع الجماعات الجهادية السورية والعراقية من الانتشار في المناطق التي يقطنها تكتلات إسلامية داخل حدودها، وتقوم في حدها الأكبر علي تعزيز مكانتها الدولية في مواجهة الولايات المتحدة.
أما الولايات المتحدة فإنها تعاني من مأزق يتعلق بإدانتها لنظام الأسد على أسس أخلاقية، ولكنها تجد أن أكبر خصوم الأسد هم تنظيم القاعدة والجماعات الأكثر تطرفا، والتي تحتاج الولايات المتحدة لمعارضتهم إستراتيجيا.
وفي ليبيا أدى سقوط معمر القذافي إلى سقوط آخر مظهر من مظاهر الحكومة المركزية، وإلى قيام القبائل والمناطق بتسليح أنفسهم لتأمين حكم ذاتي. وعلى الرغم من أن الحكومة المؤقتة في طرابلس قد حصلت على اعتراف دولي لكنها لا تستطيع ممارسة السلطة خارج حدود المدينة، وتكاثرت الجماعات المتطرفة، وأثرت على الاستقرار في الدول المجاورة.
وهنا يشير كيسينجر إلى أنه عندما تفقد الدولة سيطرتها على نطاقها الجغرافي تتحول أراضيها إلى مناطق فراغ، وتصبح قاعدة للإرهاب، وإمدادات الأسلحة أو التحريض الطائفي ضد الجيران، وهنا يبدأ النظام الدولي أو الإقليمي أيضا في التفكك.
ويرى كيسنجر أن المناطق التي تعاني من الفراغ في سلطة الدولة تمتد الآن في جميع أنحاء العالم الإسلامي، مثل ليبيا، ومصر، واليمن، وغزة، ولبنان، وسوريا، والعراق، وأفغانستان، وباكستان، ونيجيريا، ومالي، والسودان والصومال.
استنادا لكسينجر فإن استمرار هذا الفراغ قد يؤدي إلى اشتعال مواجهة في الشرق الأوسط شبيهة بالحروب الدينية التي سادت أوربا في القرن السابع عشر، حيث تتداخل الصراعات الداخلية مع الصراعات الدولية، ويتم استخدام الدين لتحقيق أهداف إستراتيجية وسياسية.
ويرفض كيسنجر وجهة النظر التي ترى أنه بعد تجارب الولايات المتحدة المريرة في الشرق الأوسط، وفي ظل ظروف لا تساعد علي ظهور نظم تقبل بالتعددية في هذه المنطقة، فإنه قد يكون من الأفضل للولايات المتحدة أن تدع هذه الاضطرابات تأخذ مجراها وتركز على التعامل مع القوى التي تظهر في أعقاب ذلك. ويرى كيسنجر أن المشكلة هنا تبدو في أن العديد من القوى محتملة الصعود في هذه الدول قد أعلنت أن أمريكا والنظام الدولي القائم على مبادئ وستفاليا هما عدواها الرئيسيين.
وأخيرا يرى كيسنجر أنه في عصر يتسم بظاهرة الإرهاب الانتحاري وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والانجراف نحو مواجهات طائفية في كل أنحاء الشرق الأوسط، فيجب أن ينظر العالم لتلك الظواهر على أنها تمثل تهديدا للاستقرار الدولي، ويجب أن يؤدي ذلك إلى تعاون دولي لوضع أسس مقبولة لنظام إقليمي في منطقة الشرق الأوسط .
ويرى كيسنجر أنه إذا لم يتم تأسيس هذا النظام فسوف تعم الفوضى والتطرف في مساحات شاسعة من الشرق الأوسط، وسوف ينتشر ذلك بالتأكيد إلى مناطق أخرى.
خاتمة
يقدم هنري كيسنجر في كتابه عن النظام الدولي رؤية واقعية ممزوجة بتحليل تاريخي عميق لتطور هذا النظام وحالته الراهنة، ويطرح أفكارا لبناء نظام دولي جديد يستلهم مبادئ نظام وستفاليا الذي قام على احترام سيادة الدولة والامتناع عن التدخل في شئونها الداخلية، والحد من الطموحات التوسعية للدول من خلال إنشاء نظام لتوازن القوى بينها.
كيسنجر الواقعي ينحاز لمفهومي النظام والاستقرار وليس مفهوما الفوضى والتغيير، ويرى أن العلاقات بين الدول يجب أن تقوم بالأساس على مفهوم المصالح وليس الاعتبارات الإيديولوجية والقيمية. كيسنجر يدعو لتحقيق الاستقرار من خلال إنشاء نظم للأمن الإقليمي في المناطق الجغرافية المختلفة، والربط بين هذا المناطق في إطار النظام الدولي.
كتاب كيسنجر (الذي يحتوي على 384 صفحة) يتضمن العديد من القضايا المهمة الأخرى، والتي لا تكفي السطور هنا لعرضها، ومنها دور العلم و التكنولوجيا في تشكيل النظام الدولي، وتطور رؤى الولايات المتحدة والصين وأوربا وروسيا للنظام الدولي. الكتاب جدير بالقراءة لأهل الأكاديمية وأهل السياسة وكل مهتم بالعلاقات الدولية.
هذا المقال نشر في العدد 12 من مجلة أفاق سياسية
أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة