القلة الإحتكارية: جان تيرول..الفرنسي الفائز بجائزة نوبل في الإقتصاد
وكأن فرنسا كانت في موعد مع القدر هذا العام، حيث فازت بجائزتين من جوائز نوبل؛ في الأدب فاز الروائي باتريك موديانو عن رواياته التي كان من خلالها يحفر بلا هوادة في ذاكرة الناس عن الحرب العالمية الثانية، بحثاً عن كل ما هو مؤلم أو مفزع أو ما هو بطولي أو مبهج. وفي الاقتصاد فاز عالِم الاقتصاد الفرنسي جان تيرول أستاذ الاقتصاد في جامعة تولوز ومدير مدرسة تولوز للاقتصاد، عن دراساته العميقة التي كشف من خلالها قوة وجبروت المؤسسات الاقتصادية العملاقة، وأساليبها في السيطرة على السوق، والتي قرر فيها بما لا يدع مجالاً للشك فشل القواعد العادية المنظِّمة لنشاط السوق في كبح جماح قوة المؤسسات الاقتصادية الضخمة خصوصاً في الصناعات ومجالات النشاط التي تتميز بسيطرة "القلة الإحتكارية" مثل قطاعات الاتصالات والبنوك وشركات التأمين. وقد كان الشعور بالفخر في فرنسا طاغياً بعد هذا الفوز بجائزتين من جوائز نوبل في عام واحد.
وقد أعاد هذا الفوز الثقة للفرنسيين في أنفسهم، وكانوا قد بدأوا يشعرون بأن أيام فرنسا قد ولَّت. فهي فقدت مكانتها سياسياً في أوروبا لصالح ألمانيا بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط سور برلين وتحقيق الوحدة للأراضي الألمانية التي كانت مقسمة بين الشرق والغرب. وهي أيضاً تفقد مكانتها الثقافية تدريجياً بسبب سيطرة "اللغة الإنجليزية" على لغة الكمبيوتر وعلى شبكة المعلومات الدولية. وكان الرؤساء الفرنسيون حتى وقت قريب لا يطيقون أسئلة توجه لهم بغير اللغة الفرنسية، ولكنهم بعد جاك شيراك، أخذت الإنجليزية تتردد على ألسنتهم في المحافل والمؤتمرات العامة، خصوصاً بعد مجيء ساركوزي. الآن يشعر الفرنسيون بالغبطة لأن باتريك موديانو أعاد لهم الاعتزاز بلغتهم التي كتب بها رواياته وحصل بها على جائزة نوبل، وكذلك لأن جان تيرول أكد لهم بحصوله على نوبل في الاقتصاد أن فرنسا لا تزال بعقلها، تفكر وتكتشف وتساهم في إصلاح العالم.
أولاً: الأفكار العامة لجان تيرول
وسوف نتحدث هنا باختصار عن جان تيرول الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد، والذي وصفه تقرير الأكاديمية السويدية للعلوم بأنه واحد من أعظم الاقتصاديين في عصرنا نفوذاً وتأثيراً، لأنه تمكن من معرفة وتوضيح الطريقة التي تعمل بها المؤسسات الضخمة في الأسواق، ومصادر قوتها ونفوذها، التي قد تؤدي إلى الإضرار بالمستهلك وبالمنتجين الصغار على السواء، خصوصاً في القطاعات الاقتصادية التي تتميز بوجود حفنة قليلة من المؤسسات المسيطرة، مثل الاتصالات والمصارف وشركات التأمين. ولم يتوقف تيرول عند ذلك، لكنه بفهمه للطريقة التي تعمل بها هذه المؤسسات اقترح التنظيمات وقواعد العمل الضرورية للحد من قوة هذه المؤسسات الضخمة. وكان الاقتصاديون قبل جان تيرول يعتقدون أن قواعد تنظيم السوق هي قواعد عامة ومجردة بصرف النظر عن طبيعة السوق وعن عدد المؤسسات العاملة فيها. لكن تيرول أوضح أن وجود سوق تسيطر عليها "قلة احتكارية" تختلف عن سوق يتسع فيها عدد المؤسسات الفاعلة. وشدد جان تيرول على إنه في حال السوق التي تسيطر عليها "قلة احتكارية" أو بتعبيره الاصطلاحي " lyoligop" فإن السوق في هذه الحالة تحتاج إلى قواعد خاصة لتنظيم عمل المؤسسات الضخمة، ربما تختلف عن القواعد العامة المنظمة للسوق.
وقد حذر جان تيرول من خطورة سيطرة الشركات الضخمة على السوق، وقال إن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تهشيم رفاهية المستهلك وإلى تهميش نظام المنافسة والسوق المفتوحة. فعلى صعيد المستهلك تقوم المؤسسات الضخمة بفرض الأسعار التي تحددها على المستهلكين نظراً لموقعها شبه الاحتكاري، وبسبب ذلك سيدفع المستهلك لهذه الشركات أسعاراً لا علاقة لها على الإطلاق بتكلفة الإنتاج. وهذه الحالة تظهر جلياً في تسعير خدمات الاتصالات بواسطة شركات القلة الاحتكارية التي تسيطر على السوق. فقد تتكلف "دقيقة الاتصال" في مكالمات التليفون المحمول مثلاً أو عن طريق الإنترنيت ثلاثة قروش، لكن الشركات المسيطرة على السوق تقرر أن تبيع هذه الدقيقة بمقدار 15 قرشاً على سبيل المثال، فتحقق بذلك أرباحاً غير طبيعية على حساب رفاهية المستهلك الذي كان بإمكانه في ظل منافسة كاملة في السوق، أن يدفع خمسة قروش فقط على سبيل المثال (3 قروش قيمة التكلفة و2 قرش أرباح وصيانة وتوسعات) مقابل كل "دقيقة اتصال". كذلك فإن هذه الشركات الكبرى تقوم في حالات أخرى بتهشيم نظام المنافسة الكاملة وإضعافه إلى حد كبير، وذلك عن طريق ابتلاع المؤسسات الصغيرة المنافسة أو المورِّدة للسلع أو الخدمات، وبذلك تدور عملية التداول الأولية في الإنتاج في نطاق "سوق داخلي" تسيطر عليه الشركة الكبرى التي تنجح إما في شراء منافسيها أو في القضاء عليهم وإخراجهم من السوق.
ثانياً: قوة المؤسسات في السوق
وعلى الرغم من أن دراسات جان تيرول في موضوع "قوة المؤسسات في السوق" بدأت في ثمانينات القرن الماضي، إلا أن الفائدة التطبيقية لهذه الدراسات لم تظهر إلا بعد الأزمة الاقتصادية العالمية 2007- 2009 وبروز خطورة الدور الذي تقوم به البنوك في النظام الاقتصادي العالمي، والذي يمكن أن يؤدي إلى تقويض النظام بأكمله حتى في أعلى الدول الرأسمالية تقدماً وهي الولايات المتحدة الأمريكية. إن الأزمة التي أشعل شرارتها النظام المصرفي، ثم انتشرت في كل أرجاء الاقتصاد، وفي كل أنحاء العالم تقريباً، لفتت الأنظار إلى دراسات جان تيرول واستنتاجاته القاطعة التي تؤكد على ضرورة وضع تنظيمات وقواعد يمكن بواسطتها السيطرة على مديري هذه البنوك وعلى الرغبة العارمة لتحقيق الأرباح عند أعلى مستويات ممكنة لدي المؤسسات الاقتصادية الضخمة. قبل الأزمة كانت الحكومات في مواجهة هذه المؤسسات تلجأ مثلاً إلى وضع حدود قصوى للأسعار على منتجات بعينها، لكن المؤسسات الضخمة كانت بإمكانياتها الهائلة تتمكن من تخفيض تكاليف الإنتاج، بغرض زيادة هامش الربح حتى مع سياسات تقييد الأسعار، وفي حالات مثل هذه كانت الشركات الأدنى حجماً هي الضحية وهي الخاسرة، لأنها مقيدة في تحديد أسعار البيع، ولأنها لا تملك القدرة على تخفيض تكاليف الإنتاج، بنفس القدر الذي يتوفر للشركات الضخمة. وكانت النتيجة أن هذه الشركات الأدنى قوة، تخسر ثم تخرج من السوق، تاركة إياه لنفوذ المؤسسات الضخمة بلا منافس.
وفي دراساته التي طورها جان تيرول منذ ثمانينات القرن الماضي حتى الآن، عرض عالم الاقتصاد الفرنسي نماذج متنوعة من قوة وسيطرة الشركات الضخمة على السوق. ومن الأمثلة التي درسها سلوك الشركات المصدرة لبطاقات الائتمان مثل بطاقات فيزا وأمريكان إكسبريس وماستر كارد وغيرها. واستنتج تيرول أن هذه الشركات التي بدأت في تقديم حوافز للمستهلكين للشراء بواسطة بطاقات الائتمان تحقق في واقع الأمر أرباحاً باهظة من عملائها، أي من حاملي البطاقات ومن المتاجر التي تشترك في شبكة التعامل بتلك البطاقات. فالشركة المصدرة لبطاقة الائتمان تحصل على رسوم من صاحب البطاقة وعلى نسبة من قيمة المشتريات من المتاجر أو الشركات المتعاملة معها، وبالتالي فإنه كلما زادت قيمة المعاملات زادت قيمة الأرباح التي تحصل عليها شركات بطاقات الائتمان. ومن هنا فقد فسر جان تيرول لجوء شركات بطاقات الائتمان إلى تقديم حوافز لحاملي البطاقات، مثلاً نسب الخصم أو الأميال الجوية التي يمكن تحصيلها في شكل تذاكر طيران وغيرها، برغبة هذه الشركات في تعظيم أرباحها وممارسة قوة احتكارها المشترك في السوق. وعلى المنوال نفسه فقد فسر جان تيرول سلوك المصارف وشركات التمويل العقاري في تقديم حوافز للمستهلكين من أجل إغرائهم للحصول على قروض أكثر، في صورة خصومات، أو تقديم خدمات مجانية، أو هدايا عينية، بما يحقق زيادة هائلة في محفظة القروض التي تمتلكها هذه الشركات، ومن ثم تحقيق زيادة هائلة في الأرباح التي تجنيها من وراء القروض في هذه المحافظ.
ثالثاً: عملية اتخاذ القرار في المؤسسات الاقتصادية
إن واحدة من المزايا المهمة في دراسات جان تيرول تتمثل في المزج بين علوم الاقتصاد والرياضيات وعلم النفس لفهم سلوك الشركات الكبرى وتفسير سلوك المستهلك، ومن ثم فهم طبيعة عملية اتخاذ القرار في المؤسسات الكبرى التي تحركها الرغبة في تحقيق الحد الأقصى من الأرباح بصرف النظر عن التكلفة الاجتماعية، وبصرف النظر عن المحافظة على قواعد المنافسة في السوق، أو الحرص على رفاهية المستهلك. لقد درس جان تيرول الهندسة والرياضيات في المعهد العالي الفني في باريس، ثم درس الاقتصاد بعد ذلك وقام بتدريسه في جامعة تولوز، ويبدو أنه كان مغرماً بدراسة علم النفس أيضاً، ومن ثم فإنه تمكن خلال عمله الأكاديمي، بعد أن حصل على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1981 من مزج معارفه في هذه العلوم لبناء منهج متناسق لدراسة عملية اتخاذ القرار المؤسسي في الشركات، وبناء نماذج لعملية اتخاذ القرار في سوق احتكار القلة "oligopoly" ودراسة سلوك البنوك والمؤسسات المالية، وتقديم تطبيقات عملية لنظريات المباريات في النواحي الاقتصادية. ومن أهم موضوعات دراسات جان تيرول: نماذج احتكار القلة (بالاشتراك مع فودينبرج)- 1986، ونظرية التنظيم الصناعي- 1988، وقواعد تنظيم عمل البنوك الضخمة- 1994، والمنافسة في سوق الإتصالات- 1999، ونظرية تمويل المؤسسات الضخمة – 2005، وخلق التوازن في الأسواق المصرفية – 2010، ومقومات ومحددات السيولة في الأسواق- 2011 .
وعلى الرغم من النشأة الفرنسية لجان تيرول (61 سنة)، فإن خبرته العملية تخطت حدود فرنسا، فهو يعمل في عدد من المؤسسات الاقتصادية الأوروبية، كما يعمل أستاذاً زائراً في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة. وقد تركت أعماله أصداء واسعة النطاق في أوساط صناع السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة وفي أوروبا، ولهذا فإنه استحق جائزة نوبل في الاقتصاد هذا العام متفوقاً على مواطنه عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي (43 سنة) الذي سيتعين عليه أن ينتظر، ربما لعدة سنوات حتى يتمكن من الحصول على جائزة نوبل في الاقتصاد، بعد أن ينتهي من إعداد بيانات جداول توزيع الدخل على مستوى العالم. ويجب أن اشير هنا إلى أن اسم جان تيرول كان قد تردد أكثر من مرة خلال السنوات الماضية في تسريبات عن الأسماء المرشحة للحصول على جائزة نوبل في الاقتصاد.وأظن أن صناع السياسة الاقتصادية في العالم الثالث هم أحوج ما يكونون لدراسة نظريات تيرول عن قوة المؤسسات الضخمة ونفوذها في الأسواق، لأن هذه القوة تفوق في بعض الأحوال قوة الدولة في العالم الثالث، وتترك أثرها بشكل واضح على عملية اتخاذ القرار. وإذا كانت هذه الشركات قد احتاجت لتشريعات وقواعد عمل خاصة لتنظيم نشاطها في أسواق ناضجة وشديدة التنظيم في الدول الصناعية المتقدمة، فلا شك إنها تحتاج إلى مثل هذه القواعد والتنظيمات في الدول النامية حيث الدولة أضعف والأسواق أقل تنظيماً. إن الحرص على ضمان مستوى رفاهية أعلى للمستهلك، ومستوى منافسة عادل للسوق وتحقيق أعلى مستوى من الكفاءة في تخصيص الموارد في الدول النامية لن يتحقق بدون فهم سلوك ومصادر قوة المؤسسات الضخمة، وهذا هو الموضوع الرئيسي الذي درسه جان تيرول واستحق عليه جائزة نوبل في الاقتصاد، بعد أن تأكدت فائدة دراساته واستنتاجاته خلال الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة وما بعدها.