تماثل التجربة: الحوثيون.. تجربة "حزب الله" في إضعاف الدولة
شكّل حضور أنصار الله («حزب الله» اليمني المستنسخ) مفاجأة مدوية في الأيام الماضية بمشروعه الانقلابي الذي استغل تردي الأوضاع في اليمن وانشغال العالم بـ«داعش»، ليعيد ترتيب الأوراق والأولويات والمكونات السياسية ونفوذها في صنعاء؛ حيث مركزية العاصمة التي لا يمكن تمرير أي أجندة في اليمن دون السيطرة عليها.
استغل الحوثيون (أنصار الله) تردي الأوضاع اليمنية لينفذوا ككل المنظمات والتيارات الأصولية التي تمثل أسوأ نماذج الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني عبر بوابة الملفات الاجتماعية الحقوقية، وكان من أبرزها قضية رفع أسعار الوقود، القضية الشعبية الأبرز في تثوير الحالة اليمنية منذ سقوط نظام علي عبد الله صالح الذي بدا مقامرا بصمته على تمدد الحوثيين نكاية في حكومة هادي القادمة على أكتاف «الربيع العربي» الهزيلة.
تنسدل جدائل هذا التنظيم العنيف والسياسي الذي يتحرك بتوازن ما بين حضوره السياسي والآيدلوجي، وما بين تمثيله الأمين لأجندة إيران في المنطقة، لكن بخصوصية محلية إلى الانسلاخ الذي عرفته الطائفة الزيدية في اليمن عن جلدها والتحول من التشيع المتسنن، كما كان يقال إلى التشيع السياسي المنتمي إلى مرجعية إيران في محاولة للوصول إلى خصوصية تجربة «حزب الله» اللبناني.
هذا الانسلاخ يمكن رصد بداياته مبكرا، إلا أنه على مستوى المسار التنظيمي بدأ في مطلع التسعينات عندما أراد الحوثيون تدشين منتجهم الأصولي الجديد «الشباب المؤمن» في منطقة صعدة 240 كم شمالا عن صنعاء، وهي منطقة ذات أغلبية شيعية كاسحة تقودها مرجعية دينية قوية ومتماسكة وموحدة تتمتع بكاريزما الزعامة الدينية التي يفتقدها الإسلام السني المتذرر منذ منتصف الـتسعينات حين أضعفت التنظيمات الأصولية التابعة للإسلام السياسي على المؤسسات الدينية التقليدية بمرجعياتها.
بدر الدين الحوثي الأب الروحي للحوثيين وأحد أهم مراجع المذهب الزيدي الجارودي في اليمن الذي ينحو إلى التجديد ورفض التقليد ودعا إلى محاربة علماء الزيدية التقليديين بسبب تقصيرهم في التقارب مع المذاهب غير السنية، وأبرزها المذهب الاثنا عشري الجعفري الذي يشكل نسغ ومركزية المذهب الشيعي في العالم.
أولاً: أزمة توازنات
واحد من مآزق التمدد «الحوثي» في اليمن هو استغلال النظام السياسي آنذاك بقيادة علي عبد الله صالح، الشخصية الأبرز في اللعب بوصفه ضابط إيقاع بين القوى الدينية المختلفة التي تفترق على غيره وتجتمع عليه، لا سيما حضوره القوي في أوساط السلفيين التقليديين من أهل الحديث في دماج في منطقة صعدة، وهي معادلة ومفارقة كان يستخدمها صالح في الإبقاء على السلفيين في تلك المناطق لإحداث توازن عقائدي طمعا في التوازن السياسي، بينما كان ينظر الزيديون إليها بوصفها محاولات إرباك للهوية الزيدية، وبالتالي ساهم تمدد الصحوة السلفية التي قاد شقها العلمي أهل الحديث بدماج والسلفيون في اليمن، وشقها الحركي والسياسي حزب الإصلاح المحسوب على الإخوان في تفريغ الزيدية التقليدية من محتواها وإضعافها، وبالتالي تحول الأجيال الجديدة من شباب الزيدية باتجاه مقولات الحوثي في مواجهة الحصار المناطقي والسلفي والإصلاحي، برعاية حكومية لأسباب تتصل بمدى قرب أو بعد هذه التنظيمات من استراتيجية علي عبد الله صالح في مراحل حكمه المختلفة، وقدرته على ارتداء قبعة حامي الهوّية الزيدية التي تشكل نصفه الأول، والمحافظ على الخطاب السلفي المهيمن على معظم مناطق اليمن في تراجع للمدرستين الشافعية والزيدية التقليديتين.
اتجه حسين بدر الدين الحوثي - الذي يعد بمثابة «سيد قطب الزيدية - بداية إلى القبائل طارحا فكرة تنظيمه الجديد «أنصار الله» الآن، وترافق ذلك مع تدشين مؤسسات خيرية وتعليمية على طريقة «حزب الله» في الجنوب اللبناني، وساهم تراجع وإخفاق الدولة إلى تحول منطقة صعدة إلى ما يشبه فكرة المجتمع المنفصل أو الدولة داخل الدولة.
وفي اشتداد ضربات الولايات المتحدة لتنظيم القاعدة في اليمن وتركيزها على مسألة الإرهاب القاعدي نشطت الحركة الزيدية الجديدة الثائرة في تدعيم صفوفها وإعادة بناء نفسها مستخدمة كل الشعارات التسويقية ومقتفية آثار «حزب الله» وتكنيكاته حتى قيل في تلك الأيام إن عناصر كثيرة من الحزب تسللت على فترات متباعدة لإعطاء التوجيهات، والتأكد من تمدد الهوية الزيدية السياسية الجديدة التي اتخذت شعارها «الله أكبر.. الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام».
ثانياً: لحظة المواجهة
تغلب تنظيم أنصار الله بقيادة حسين الحوثي على الزيدية التقليدية خلال أعوام من الحشد والتأليب والتثوير للمذهب الزيدي الذي ساعد تردي الأوضاع، وارتفاع منسوب الطائفية في اليمن إلى انتقال الأجيال الجديدة لموالاة تنظيم الشباب المؤمن الذي اكتمل عقد مؤسساته المستقلة، وقدرته على الاستقلال الذاتي ليس عسكريا، وإنما حتى على مستوى التمويل والتحالفات السياسية المستقلة.
لاحقا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) التي ألقت بظلالها على الجسد السني بكل تشكلاته معتدليه ومتطرفيه، وحتى المدارس والتيارات التقليدية ذات الطابع السلمي تأثرت بذلك الحدث، مما أتاح الفرصة للأقليات المذهبية والفقهية الصغيرة أن تعيد النمو في ظل الحرب على الإرهاب إما بتقديم نفسها بديلا أو حتى محاولاتها الدؤوبة لإعادة الاعتبار لذاتها باعتبارها تجليات معتدلة، ومن هنا بدأت سلسلة من السجالات العنيفة بين الحوثيين الجدد والسلفيين في اليمن، لا سيما أهل الحديث في دماج، وساهم انفلات الوضع الأمني وانتعاش سوق السلاح والتهريب إلى تمدد الحوثيين داخل مناطقهم؛ مما استدعى لحظة المواجهة التي اتخذت عدة نسخ ولأسباب مختلفة، إلا أنها جميعا منذ الحرب الأولى في يونيو (حزيران) 2004 التي شهدت مقتل حسين الحوثي قائد التنظيم ساهمت في تعزيز الانفصال بين الزيدية الجديدة المتحولة باتجاه الإسلام السياسي الشيعي وبقية مكونات المجتمع اليمني، ولم يستطع حتى علي صالح ولا قبائل حاشد إيقاف هذا النزيف، ولاحقا التصدي للاستقلالية التي كان ينظر إليها بوصفها عاملا للضغط، وإيجاد التوازن ضد اجتياح واكتساح حزب الإصلاح الإخواني الذي تزامن تضخم دوره السياسي على الدعوي.
ثالثاً: فوضى التسليح
وإذا كان من ملمح لافت في مسألة التقارب في تجربة «حزب الله» وأنصار الله، فهو التشابه على مستوى التسليح والخبرات العسكرية العريقة، الحوثيون بدورهم أطلقوا صواريخ الكاتيوشا في الحرب السادسة عام 2010 وهي ذات الصواريخ التي استخدمها «حزب الله»، الذي تشاع الأخبار أنه بعث بمدربين تابعين له في منطقة صعدة، وثمة تقارير دولية كثيرة ذكرت ارتباط قاعدة إيران العسكرية في إريتريا بمعسكرات الحوثيين التي تستمد السلاح عبر الشواطئ القريبة وأبرزها ميناء «ميدي» وميناء أقرب الموانئ من صعدة، وعادة ما يستخدم المهربون قوارب الصيد التي لا تلفت الأنظار.
أسواق السلاح من جهة أخرى خضعت لسيطرة الحوثيين بسبب قدرتهم على التفاوض والشراء بكميات كبيرة هناك على سبيل المثال سوق «الطلح» الأهم والأبرز في إمداد المقاتلين من أنصار الله، هذا عدا الاستفادة من غنائم الحرب مع الميليشيات الحكومية أو المستقلة.
من أجل تأسيس الانفصال الأبدي لأنصار «حزب الله» (النسخة اليمنية) لم يستعجل الحوثيون بل استغلوا فترة الكمون في مطلع الألفية إلى اللحظة المناسبة لإعلان استقلالهم الفكري والتنظيمي وكانت معركة 2004 التي أعلن عن مقتل قائد التنظيم، تلتها حرب مارس (آذار) 2005 التي قادها الأب بدر الدين الحوثي، وكانت لحظة انصهار الزيدية في الحوثية لأسباب تتصل بطبيعة الانزياح في المواقف السياسية للأقليات العقائدية التي تتجه في أوقات الحروب والأزمات إلى الانكفاء على الذات والتطرف والخروج من جسد المجتمع.
الحرب الثالثة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005 أكدت على استقلالية الأجنحة الحوثية وتحولها إلى تنظيم عسكري عقائدي مسيّس يستلهم التجربة الإيرانية في نسختها اللبنانية التي يقودها «حزب الله» الأكثر تأثيرا وصيتا بسبب اتكائه على مفهوم المقاومة وسمعته الجيدة في المنطقة لدى الإسلام السياسي السني الذي اقترب كثيرا منه في حرب 2006، لكن ذلك كان بعد سنة من طرح الحوثيين لقائدهم الشاب الجديد عبد الملك الحوثي الأخ الأصغر لحسين الرمز المغدور في نظر الحوثيين، بعدها بسنتين اندلعت الحرب الرابعة في تأكيد على أن حالة الغليان اليمنية التي يغفل عنها العالم لم تأتِ في يوم وليلة، بل كانت سياقا لجدلية وصراعا على الشرعية في الشمال اليمني يقابلها انفصال بطيء عن جسد الدولة الواحدة في الجنوب، وتعملق للإسلام السياسي ودخول القاعدة بمنتجها «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» القابع في المناطق الجنوبية الذي يستغل تلك الحروب بين الحوثيين والدولة في تعزيز مناطقه وإعادة الحشد والاستقطاب على اعتبار أن قضيته الأساسية ليست اليمن، وإنما استهداف المصالح الغربية في المنطقة ومحاولة التأثير على الاستقرار السعودي.
ورغم أن صراع الحكومة والحوثيين كان على إعادة تعريف «اليمن» الواحد، فإنه كان يتخذ شعارات وأسبابا مختلفة من حماية الدولة إلى الحرب على محاولات الانفصال وصولا إلى حماية الأقلية اليهودية في صعدة التي اتهم الحوثيون بأنهم من وقف وراءها.
وبعد أقل من سنة تحولت الحروب بين الدولة والحوثيين إلى مواجهات ذات طابع «تكسير العظم» تجاوزت منطقة صعدة لتمتد إلى مناطق يتقاسمها الطرفان، لكن يدين غالب أهلها بالمذهب الزيدي التقليدي، فبينما تحاول الدولة استقطاب ما تبقى من الزيدية التي تحولت إلى ما يشبه الهوية القبلية، وبين محاولات عبد الملك الحوثي وأنصار الله والشباب المؤمن إلى استقطاب تلك البقية الباقية التي تقبع في مناطق قريبة جدا من صنعاء العاصمة. لم تعلن الحكومة اليمنية لأسباب تتصل بطبيعة نظامها السابق الذي قاده علي صالح ببراغماتية شديدة وذكية، لكنها ذات طابع ابتزازي لم تعلن عن علاقة الحوثيين بإيران إلا بعد الحرب السادسة في منتصف 2009 التي أعلنت الدولة آنذاك عن مخابئ للسلاح كبيرة جدا يملكها الحوثيون، لكن تم اكتشاف أنها إيرانية الصنع ولم تحو الأسلحة الخفيفة، بل شملت صواريخ قصيرة المدى ومدافع رشاشة، وحصلت أزمة السفينة الإيرانية الشهيرة التي كشفت للعالم وجها جديدا للنزاع اليمني ودخول إيران على الخط.
رابعًا: استهداف السعودية
الانكشاف الإيراني في صعدة عقب الحرب السادسة قاد الحوثيين إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك، واستعراض قوتهم واستهداف السعودية في خطأ استراتيجي سيكلف الحوثيين لاحقا كشف مخططاتهم الصريحة باستنساخ تجربة «حزب الله» في لبنان، وإعادة موضعتها في اليمن، فكانت خطة التنظيم استدراج السعودية في المعركة السابعة بعد الاعتداء على الحدود السعودية، ولاحقا التمركز في جبل الدخان القابع على الحدود في إشارة إلى جرأة الحوثيين على ملف الحدود المتفق عليها، لكن اللعب كقوة مستقلة عن الدولة اليمنية قادرة على خلط الأوراق، لكن التصدي السعودي القوي الذي رافقه مساندة لا محدودة للدولة اليمنية التي كانت تعيش لحظة انهيار محقق ما بعد الربيع العربي، وخروج حزب المؤتمر، وعلي عبد الله صالح، من اللعبة السياسية ظاهريا، لكن الانغماس في الشأن اليمني أكثر فأكثر وإعلان نفسه زعيما حتى بعد رحيله، قادر على التحالف مع مكونات المجتمع اليمني السياسية والتأثير عليها وبها على المنطقة والإقليم.
في مارس 2014 وقعت حرب عمران التي ولدت بسبب انهيار الدولة اليمنية وتحول الجيش اليمني إلى جيش مفروز قبليا وطائفيا؛ مما ساهم في اختراقات كبيرة وواسعة وتحول الجيش إلى مجرد ألوية ومدرعات تتبع قوى يمنية مسيطرة على المشهد اليمني، وهو ما فتح شهية أنصار الله إلى التقدم نحو صنعاء على اعتبار أن التاريخ اليمني الحديث برمته يطبخ في العاصمة المركزية، فكما قيل قديما من يمسك بزمام صنعاء يقود اليمن كيفما أراد.الحرب السابعة كانت إعلانا مبدئيا باستقلال الحوثي الجديد عن الجسد السياسي اليمني وارتهانه إلى ما بات يعرف ب«الهلال الشيعي» الذي يعكس حالة التمدد السياسي لإيران في المنطقة عبر أذرعتها الآيديولوجية التي تزداد قوة يوما بعد يوم بسبب الانشغال بما بعد الربيع العربي، وظهور موجات عنف للإرهاب السني يخلق حالة فراغ على المشهد، وينتج تحدياته الخاصة على الأنظمة السياسية المحاصرة بدوائر الإرهاب والعنف والمعارضة السياسية إضافة إلى تجارب استنساخ أحزاب عقائدية على طريقة «حزب الله» وأنصار الشريعة أو حتى إيجاد منافذ عبر مشاريع إغاثية وتعليمية في مناطق جديدة من أبرزها القرن الأفريقي.
خامسًا: الاستقواء بإيران
المفارقة عدم استقواء الحوثيين بإيران ظاهريا في محاولة ذكية لإنتاج أنفسهم جزءا من نسيج المجتمع الزيدي اليمني؛ بحيث لا يجري الالتفات لهم من قبل المجتمع الدولي والأنظمة الإقليمية وجيران اليمن المكترثين بأمره، بينما يقدمون أنفسهم في الداخل بوصفهم حماة للهوية الزيدية، وفي الوقت ذاته يستلهمون تجربة «حزب الله» بكل مفرداتها مع تواصل مباشر مع كل القوى السياسية، لا سيما الاشتراكيون والناصريون الذين يرون التعامل مع الإسلام السياسي الشيعي جدوى أكثر من نظيره السني الذي يعاني من أزمة فهم التعددية السياسية، وما يمكن تسميته اليقين السياسي المبني على شرعية الشارع المطلقة.
خرج الحوثيون من عباءة الآيديولوجيا الضيقة إلى رحاب التحالف مع القوى السياسية باعتبارهم ندا لا يستهان به تنظيميا وعسكريا بعد 7 معارك لم يستطع النظام ولا «الإصلاح» والميلشيات المتحالفة مع القاعدة وجماعات التطرف بقيادة علي محسن الأحمر، الأخ غير الشقيق لعلي عبد الله صالح، الذي تعزى له أدوار كبرى في المهمات القذرة بين المكونات السياسية المختلفة، مجابهتهم.. لكنه عاد فاستغل لحظة الربيع لينقلب على كل رفاق الأمس.
السؤال الذي يطرحه تمدد الحوثيين باتجاه صنعاء ثم احتلالها بشكل أقرب إلى المسرحية الهزلية، هو ذات السؤال الذي جرى طرحه مع «داعش»، لماذا تتغلغل هذه القوى ذات العدد والعدة الأقل من جيوش الدول النظامية بهذه السرعة؟ ولماذا تنهار العواصم العربية أمام تلك الميليشيات؟
من الصعب حقا الإجابة الوثوقية على سؤال بهذا الحجم يفترض معرفة الأسباب والدوافع غير المعلنة للمكونات السياسية داخل اليمن أو حتى في الأقطار التي سقطت سريعا، لكن يمكن القول: إن عددا كبيرا من القوى الفاعلة على الأرض لا تتدخل إلا حين تمس مصلحتها الخاصة، كما أن «إطلاق اليد» الذي تلعبه الأنظمة السياسية لمجموعة مسلحة متطرفة على حساب مجموعة أخرى ودعمها لتصفية الخصوم بهذه الطريقة، أصاب بنية الجيوش النظامية بانهيارات وانكسارات عميقة.
في الحالة اليمنية تكمن الإشكالية في تعدد الجبهات المفتوحة أمام النظام السياسي غير المستقر والمشدود تارة إلى النظام السابق بما يحمله من قوة وثقل على الأرض، فالدولة اليمنية لا تسيطر على ما بات يعرف بالحراك الجنوبي، وهو تيار ضخم بداخله مجموعات صغيرة تهدف إلى تقويض الوحدة اليمنية ولو في شكلها الظاهري، وتطالب بالانفصال عن اليمن، كما تواجه القاعدة في مناطق أبين وما حولها، في الوقت ذات الذي ترقب فيه تمدد الحوثيين حتى قبل وصولهم إلى صنعاء.
القتال على طريقة العصابات تبرع فيه كل المكونات المسلحة في الداخل اليمني، وكان عنصر تفوق الدولة عادة هو سلاح الجو كما كان ملاحظا في الحرب السابعة مع الحوثيين.
لكن الأكثر أهمية هو غياب مرجعية سنية مؤثرة وبارزة لا سيما بعد تراجع شعبية حزب الإصلاح، وتشرذم التيارات السلفية وخروجها من مشهد التأثير السياسي رغم براعتها في التمدد على المستوى الاجتماعي حتى في مناطق الشمال.
إضافة إلى أن هناك تحالفات كبيرة بين التيارات المناوئة للسلفيين والإصلاح كالتيارات الزيدية التقليدية والتيارات المتصوفة وحتى فلول العائدين من أفغانستان الذين لا يرون في الإصلاح مظلة آيديولوجية فكرية يمكن العمل من خلالها.
الأهم أيضا هو أن حزب الإصلاح يمر بتحولات عميقة كما هو الحال لكثير من تجليات الإسلام السياسي في نسخته الإخوانية، فهي أحزاب مترهلة تعاني من عقدة التمييز الحركي، لكنها الآن تعيد أكثر لحظاتها ضعفا بسبب تحول قياداتها إلى كتلة معارضة نخبوية منفصلة عن الشارع الذي ما زال تحت لحظة ارتباك ما يجري.
وفي تضاعيف الأزمة الحوثية هناك مجال واسع للحديث عن تحالفات غير معلنة من قبل النظام السابق وأنصاره ساهمت في تمدد أنصار الله حتى لحظة الوصول إلى صنعاء، وإن كانت قد تركزت من حيث الدعم وإطلاق اليد في منطقة عمران.
الحوثيون تلقوا إشارات ارتباك المشهد اليمني وضعف الحكومة الحالية، فقدموا أنفسهم ثوارا من أجل الخبز والحرية، ومن هنا استطاعوا النفاذ إلى مجموعات كبيرة من عامة الشعب اليمني غير المسيس، ولا الطائفي، عبر برامج مجتمعية وإغاثية كبيرة، كما أنهم على مستوى النخب قاموا بجولات تعريفية والتقوا عددا كبيرا من الإعلاميين والصحافيين المناوئين للإسلام السياسي وحزب الإصلاح وأداء الحكومة الحالية التي لم تفعل سوى تعميق الأزمات بصمتها وترددها بل هناك مؤتمرات وورش عقدت برعاية من «حزب الله» في لبنان خلال السنوات الماضية.
سادساً: شعارات مستهلكة
قامت فكرة «أنصار الله» على إعادة إنتاج شعارات الثورة الإيرانية و«حزب الله»، بل وإصباغ ذلك بنكهة المقاومة ومحاولة التركيز على قضية فلسطين والمظلومية التي تجد طريقا أسرع إلى قلوب العامة.
«الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، النصر للإسلام» الشعار الذي يفاجئك في كل مكان على السيارات وجدران البيوت وعلى لوحات الإعلان وفي كل مكان فيما يشبه الاحتلال الرمزي المفاهيمي والحضور الطاغي على طريقة حملات العلاقات العامة، وفي المحصلة لم يمت أميركي واحد بسبب الحوثيين، بل مئات الأبرياء اليمنيون في الشارع الذين قذفهم القدر أمام مرمى حرب العصابات أو المافيات السياسية، فاللعنات التي يطلقها أنصار الله من الحوثيين لا تصيب إلا اليمنيين الذين ذهبوا وقودا لحرب الارتزاق السياسي.
سابعًا: شرارة الانطلاق
بداية الـتسعينات كانت انطلاقة شرارة انتقال الحوثيين من تيار زيدي مناطقي لا يسعى إلى أبعد من التمدد في منطقة صعدة التي تشكل عمقه الاستراتيجي لولا مناوشات السلفيين هناك، لكن بلدة «مران» في محافظة صعدة شهدت ولادة تنظيم جديد على خطى «حزب الله» استطاع خلال عقدين منا لزمان الإطاحة برأس النظام السابق من خلال التحالف مع المكونات السياسية الأخرى ومنها الإصلاح، ثم وقف على قدميه بمشاركته في الحوار الوطني 2013 الذي أقيم في مارس وهدف إلى إعادة ترتيب موازين القوى ما بعد الربيع العربي.
البداية التنظيمية لم تكن ذات بال أو لتلفت أحدا أن هذه المجموعة الحوثية المنشقة عن الزيدية يمكن أن تفعل كل هذا، فأنصار الله الحوثيين كانت مجرد مجموعة شبابية تشكلت في منتدى الشباب المؤمن الذي عقد 1992 على يد «محمد عزان» و«محمد بدر الدين الحوثي» لينهار المنتدى ويظفر حسين بدر الدين الحوثي قتل في حرب 2004 المتشرب لتجربة «حزب الله» بهذه المجموعة ويقرر تكوين تنظيم جديد يحمل اسم «الشباب المؤمن» ثم أنصار الله لاحقا، ويضطر إلى ترك منصبه في البرلمان اليمني بصفته نائبا عن محافظة صعدة، في الوقت ذاته يتعاظم دور والده بصفته مرجعية دينية كبرى بعد ضمور واضمحلال دور الزيدية التقليدية التي غاب دورها كما غاب تأثير أبرز رموزها مجد الدين المؤيد.
النظام السابق ساهم في إطلاق يد المجموعات والجماعات الشيعية الزيدية الصغيرة، لإيقاف تعاظم دور حزب الإصلاح الإخواني الذين رأى نفسه شريكا في الحكم والوحدة بعد أدواره الكبيرة التي لعبها في حرب الانفصال والوحدة، وظهرت تنظيمات مثل «الحق» و«اتحاد القوى الشعبية».
في نهاية 2001 انقلب حسين الحوثي على «تنظيم الشباب المؤمن» وأعلن رفض منهجه وأهدافه، وجعل من محاضراته منهجا ثوريا انقلابيا على طريقة الخميني وسيد قطب في استنباط معان انقلابية ثورية من القرآن الكريم مباشرة فيما يشبه الإحلال المفاهيمي للفكر الزيدي.
تجاوز «حسين الحوثي» الهادوية الزيدية ليقترب من ولاية الفقيه على الطريقة الإيرانية أو ما يعرف بالتشيع السياسي فيكفر بالنظام الجمهوري والدستور اليمني وينفصل عن مرحلة الارتباط بالأئمة الذين حكموا البلاد لعقود.
ثامنًا: صوب طهران
من المتوقع جدا أن يكون لتأثير الثورة الإيرانية الخمينية أدوار بارزة في اليمن منذ الـثمانينات، وتشير تقارير كثيرة إلى أن نقطة العبور لليمن كانت مبكرة في عام 1982 على يد فقيه زيدي بارز هو العلامة صلاح فليتة في محافظة صعدة الذي أنشأ على إثر ذلك اتحاد الشباب 1986 ودرست فيه مواد عن الثورة الإيرانية ومبادئها.
إلا أن الانفصال عن الجسد اليمني تأخر حتى 1990 بسبب إعادة التغلغل عبر الدستور الجديد لليمن الذي يكفل التعددية السياسية وحق الأحزاب في الإعلان عن نفسها، وهو ما طبّق على مصطبة الفرز الطائفي والحركي في كل التجارب العربية، واستفادت حركة الحوثيين التي كانت تعمل قبل ذلك بشكل سري من الانفتاح السياسي، وبزوغ نجم «حسين الحوثي» لتكرار تجربتها فانسلت حركات وتيارات محسوبة على الإسلام السياسي الشيعي أو الزيدي مثل حزب الثورة الإسلامية، و«حزب الله»، وحزب الحق، واتحاد القوى الشعبية اليمنية.
التمدد السياسي والنديّة التي ظهر عليها أنصار الله في مؤتمر الحوار الوطني مارس 2013 كانت كفيلة لتجاوز مرحلة الحوثية المبكرة ودخول أنصار الله بصفته طرفا سياسيا مستقلا يقارع بقية الأحزاب ويطمح للتحول إلى مظلة كبرى للإسلام السياسي الشيعي في اليمن، ومن هنا نشأت بنية تحتية للحوثيين في صعدة فيما يشبه الدولة المستقلة المنفصلة، وأنشأت معسكرات تدريب على مستوى عال مكنت الحوثيين من الصمود طيلة الحروب الـ7، كما مكنته من إحكام السيطرة على عمران ومنها اتجه نحو صنعاء.