نوايا خفية: الحرب الأمريكية على داعش
الترتيبات الدولية والإقليمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية للحرب على "داعش" تعكس هبة مفاجئة وغامضة خاصة فيما يتعلق بالتحالف والتوقيت والمتغيرات في المنطقة، تحديداً في العراق وسوريا، وهو ما يعكس تساؤلات مشروعة حول العملية وأهدافها الخارجية والداخلية خاصة فيما يتعلق بالمصالح والاستراتيجية الأمريكية. الولايات المتحدة تظل دائماً لها حساباتها الخاصة بعيداً عن تخليص الشرق الأوسط من هذا "الإرهاب" أ و الخوف على شعوبها، فتلك الأهداف الإنسانية والمجتمعية وحدها لا تكفي .
سوريا، وإن غاب حضورها، فهي الهدف غير المعلَن في خطاب الرئيس أوباما، وجموع التكفيريين من داعش وأخواتها ومشتقاتها هم الأدوات التي تنوي "الاستراتيجية" الأمريكية استخدامها في إعادة رسم خارطة الوطن العربي والإقليم في طبعته الجديدة. داعش مجرد ورقة أو وسيلة من وسائل الضغط تُستخدم عند الحاجة، وتُركَن جانباً عند انتفائها. السفير والمستشار الأمريكي الأسبق لإقليم كردستان العراق، بيتر غالبريث، أوضح أن "الدولة الاسلامية تخدم الجهود (الغربية) في قتال نظامين مدعومين من إيران في العراق وسوريا."
في البعد المحلي الداخلي، شكل الخطاب بعد طول انتظار محاولة لمحاكاة الاعتبارات السياسية المحلية، في ظل مناخ الانتخابات القادمة، عبرت عنه احد الصحف الكبرى بعنونة افتتاحيتها "أوباما يعلن الحرب على نتائج الاستطلاع المتردية." وهو يفسر أيضاً مغزى تكرار الرئيس أوباما استخدام مصطلح "استراتيجية" في خطابه لتعديل تصريحه السابق بأن بلاده "لا يتوفر لديها استراتيجية واضحة المعالم للتصدي لداعش".
دأبت استطلاعات الرأي المحلية، في الآونة الاخيرة، على إبراز تدني نسبة الدعم الشعبي للرئيس أوباما سيما وأن "عدداً كبيراً منهم لا يأخذ تصريحاته حول السياسة الخارجية على محمل الجد، وأعربت نسبة مذهلة منهم، 55%، عن حرجهم وارتباكهم من عدم توصل الرئيس أوباما لبلورة استراتيجية للتصدي للدولة الإسلامية لحين اللحظة." تأييد الرئيس أوباما لم يتعدى نسبة 32% من الأمريكيين، عشية إلقائه خطابه؛ وهو يدرك بوعي تام تداعيات ذلك على نتائج الحملة الانتخابية المقبلة.
خطاب أوباما تضمن العديد من المفردات والمفاهيم المبهمة التي ستشوش الوعي العام الأمريكي، بتركيزه على المصطلحات المتعددة لتنظيم داعش وهمجيته، بينما في الحقيقة كان يرمي لحشد الدعم الشعبي بكافة أطيافه لشن "جولة" جديدة من الحروب الدموية في المنطقة، يورثها لخليفته المقبل، بالتساوق لما ورثه عن سلفه جورج بوش الابن في حرب العراق وأفغانستان. الأستاذ الجامعي فيجاي براشاد أوجز الخطاب بأنه "مربك جداً وانطوى على لغة خطابية متقنة تخلو من مفاهيم استراتيجية" يمكن البناء عليها. ومضى موضحاً أن "الدولة الإسلامية توفر مبرراً بتوقيت مريح لشن غزو دموي آخر يتبعه عدد من سنوات الاحتلال والتدجين والترويض والمقاومة."
حذر الرئيس أوباما الشعب الأمريكي والغربي عموماً من خطورة عدم التصدي لداعش: "هؤلاء الإرهابيون باستطاعتهم تشكيل تهديد ينمو خارج حدود تلك المنطقة – ومن ضمنها الولايات المتحدة .. لن اتردد باتخاذ ما يلزم من إجراءات ضد الدولة الاسلامية في سوريا، والعراق أيضاً .." بينما في الواقع ناقضه الرأي بعض أركان إدارته؛ إحداهن جنيفر لاسلي، ضابط استخبارات في وزارة الأمن الداخلي، قائلة أن "الدولة الإسلامية لا تشكل خطورة على الولايات المتحدة في المدى المنظور،" في شهادة أدلت بها أمام اللجنة الفرعية للأمن الداخلي في مجلس النواب. المفارقة أن شهادتها وشهادات مماثلة لآخرين جاءت قبل بضع ساعات من إلقاء أوباما خطابه المذكور.وعليه، يمكننا القول أن الحرب العدوانية الثالثة على العراق قد اتضحت معالمها، وأنعشت مرة أخرى أحلام المحافظين الجدد بنسخة أوباما، لتقسيم العراق وفق محاصصة طائفية وعرقية. ما يعزز ذلك هو إفصاح أوباما وأركان إدارته بأن "الحملة ضد الدولة الاسلامية" ستستغرق بضع سنين، إلى ما بعد انتهاء ولايته الرئاسية. جدير بالذكر أن دوائر صنع القرار، لا سيما في المعسكر الصناعي الحربي، روَّجت لاحتلال العراق منذ زمن باعتباره "منصة انطلاق تكتيكية" لخدمة أهداف إعادة رسم حدود منطقة الشرق الأوسط برمتها. (في هذا الصدد يرجى مراجعة إصدارات مؤسسة راند بتاريخ 6 أغسطس 2002).
ونشير في هذا الصدد أيضاً إلى التحول في مفردات الإدارة الأمريكية واستخدام لفظ "الدولة الإسلامية" بشمولية، مما يوحي بحرب أيدولوجية موجهة، كما يتصور البعض، للإسلام، بصرف النظر عن أية اعتبارات أخرى، فاستخدام اللفظ على هذه الشاكلة دون الإشارة صراحة لـ "داعش" أو "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والموجهة الحرب إليها يحدث اتساع في دائرة توزيع تهمة "الإرهاب".
تردد وقلق في الغرب
روَّج الرئيس أوباما وكافة الوسائل الإعلامية الأمريكية للتحالف الدولي المزمع إنشاؤه بمشاركة دول غربية وعربية وإقليمية، تُوِّج بارسال وزير الخارجية جون كيري إلى الرياض لجمع شمل الحلفاء المقربين؛ وسارعت كل من ألمانيا وتركيا في الإعلان عن عدم مشاركتهما جهود الرئيس أوباما، ونفي بريطانيا لتصريح وزير خارجيتها بعد إعلانه عدم مشاركة بلاده؛ بل أوضحت ألمانيا، في خطوة غير مسبوقة، أنه لم يتم استشارتها بهذا الخصوص. وقال وزير الخارجية الألماني، فرانك-ولتر شتاينماير، "دعوني أقول بكل وضوح، أنه لم يُطلب استشارتنا" في المساهمة بالغارات الجوية ضد مواقع داعش "ولن نقوم بذلك أيضاً."
"استراتيجية حلف أوباما" أوضحها الرئيس في خطابه بالقول بأنها "استراتيجية شاملة ومستمرة لمكافحة الإرهاب .. تنطوي أولاً على شن حملة ممنهجة من الضربات الجوية .. وسنوسع نطاق جهودنا إلى أبعد ما تقتضيه حماية مواطنينا (هناك) المنخرطين في عمليات الاغاثة الإنسانية .." في ذات السياق، كرَّس الرئيس أوباما خطة تقسيم المنطقة في خطابه الإعلامي عبر تكرار مصطلحاته أن المجتمعات العربية ما هي إلا ثمة تجمعات "طائفية تشمل السنة والشيعة من المسلمين، والمسيحيين وأقليات دينية أخرى .." وتعمَّد تغييب الهوية الوطنية والقومية إتساقاً مع الإستراتيجية الأمريكية بعيدة المدى.
آفاق نجاح "استراتيجية أوباما"
ردود فعل حلفاء أمريكا في حلف الناتو أهم مؤشر على حقيقة ما يمور خلف الكواليس وظهر إلى العلن، وما إعلان أهم اقطاب حلف الناتو، ألمانيا وبريطانيا وتركيا، عن عدم مشاركتهم في حملة الغارات الجوية على الأراضي السورية إلا دليل على هشاشة "إستراتيجية" أوباما في إطلاق "حرب جديدة على الإرهاب." استثناء أوباما لروسيا وإيران من هذه التشكيلة تدل على حقيقة أهداف أمريكا والقلق من نواياها المبيتة بأنها تسعى لإسقاط الدولة السورية بتوظيفها داعش أداة وذريعة لتنفيذ غارات جوية على أراضيها. وما تعيين أوباما لجنرال الحرب في أفغانستان، جون آلان، للتنسيق بين القوات الخاصة والإرهابيين والغارات الجوية إلا دليل آخر على أن الإستراتيجية تقتضي استهداف سورية، تحت ذريعة ملاحقة داعش، ولبنان ربما الذي يروج لعمليات اغتيالات ستجري على أراضيه.
كما أن هناك غموض كبير حول محاولة "توريط" الجيش المصري في تلك الحرب، وهو الجيش الوحيد الصامد في المنطقة، كما جاء في تصريحات كيري "إن لـمصر دوراً ريادياً ستلعبه في المواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية"، بعد محاولات دفعه للتدخل في ليبيا، وهو ما تم نفيه من الجانب المصري، والذي سيكون مقبولاً مع وجود تهديد مباشر على الحدود المصرية الليبية، وهو الأمر الذي يختلف في حالة العراق وسوريا.
في هذا الصدد، يشير بعض المراقبين في العاصمة الأمريكية إلى توقيت إعلان الاستراتيجية، 11 سبتمبر، سيما وأن "الصدف" التاريخية نادراً ما أثبتت أنها حقيقة صدفة. أوجه التشابه ليست من باب الترف الفكري، سيما وأن 11 سبتمبر 2001 لا تزال تحوم حوله الشبهات بأنه منصة انطلاق أسفرت عن تكريس استفراد أمريكا بالعالم ودمرت واحتلت دولاً عربية عدة، من العراق إلى ليبيا واليمن والصومال، إلى الحروب الأخرى المناطة بالكيان الصهيوني، إلى الاغتيالات بطائرات الدرونز .. إلخ. الحادي عشر من سبتمبر أضحى إعلاناً بالعدوان المفتوح الغير مقيد بفترة زمنية.شبكة فوكس نيوز اليمينية أظهرت ارتياحاً مشروطاً باستراتيجية أوباما استخدام سلاح الجو الأمريكي بكثافة "مدعوم بقوات برية موالية،" بيد أنها حذرته من نتائج استطلاعاتها للرأي التي تشير إلى اعتقاد الغالبية من الشعب الأمريكي، نحو الثلثين، بأن نجاح الاستراتيجية ينطوي على نشر قوات أمريكية برية لتحقيق هدف إلحاق الهزيمة بداعش مع استمرار القصف الجوي المكثف.
تنبغي الإشارة في هذا السياق إلى ما أضحى ممارسة ثابتة في الاغتيالات وثقتها وسائل الإعلام الأمريكية، إذ يصغي الرئيس أوباما صباح كل يوم ثلاثاء إلى تقارير رؤساء أجهزة الاستخبارات يستعرضون معه لائحة "الاغتيالات" المرشحة للمصادقة عليها وتنفيذها على الفور. من غير المستبعد أن تشمل تلك الإجراءات سوريا في ظل "الاستراتيجية" الجديدة.
يحضرنا في هذه المناسبة ما سبق الإشارة إليه فيما يخص الأسلحة الليبية المتجهة إلى سوريا. إذ أكدت شبكة (سي إن إن) للتلفزة العام الماضي، نقلاً على لسان ممثلين في الكونغرس، أن حادثة البعثة الدبلوماسية الأمريكية في بنغازي، 11 سبتمبر 2012، التي أسفرت من مصرع السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز وعدد من ضباط الاستخبارات الأمريكية، كانت "عملية إعداد سرية لنقل صواريخ مضادة للطائرات متطورة من ليبيا، عبر تركيا، وتسليمها للمجموعات السورية المسلحة." وأضافت الشبكة أن موظفي السفارة الأمريكية، في طرابلس وبنغازي، تعرضوا لسلسلة اختبارات لأجهزة كشف الكذب وتلقوا تعليمات صارمة بعدم البوح بأي من تلك المعلومات.
أوباما يراهن على استغلال الحملة الجديدة لمكافحة إرهاب "داعش" ليشيع الانطباع بإعادة استلام زمام المبادرة السياسية خارجياً وداخلياً بعد اتهامات قاسية له بغياب القدرة القيادية الضرورية لحماية المصالح الكونية الأمريكية، ويدرك أن الأسابيع القليلة القادمة قد تكون الأكثر حرجاً قبل الانتخابات النصفية، المقررة في نوفمبر المقبل، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تركة للتاريخ ومن وزن مهدد لحزبه الديمقراطي.
* بتصرف، من تقرير مراكز الدراسات الأمريكية والعربية