بدأت الأمة المصرية تحت قيادة السيسى تنفيذ المشروع القومى لاستثمار عبقرية موقع مصر بازدواج وتعميق قناة السويس أهم ممر ملاحى يربط أسواق العالم؛ ويجرى التنفيذ بهمة وطنية مشهودة بسواعد وشركات مصرية وبمراعاة مقتضيات الأمن القومى وبتمويل وطنى يحمى سيادة مصر على قناتها. والجدوى الاقتصادية لمشروع القناة جلية؛ إذ يضاعف دخل مصر من رسوم المرور بالقناة ويوسع فرص زيادة نصيبها المتواضع من أرباح خدمات التجارة البحرية العالمية، ولكن تبقى ضرورة إدراك أن تصنيع مصر سبيلها الأهم لتعظيم جدوى مشروع القناة وتنمية ضفتى محورها والتقدم الاقتصادى والشامل والتحرر من الفقر والعوز.
وأسجل أولا، أن قناة السويس قادرة على استقبال جميع السفن العملاقة بشرط أن تكون فارغة أو بحمولة جزئية؛ لأن غاطس هذه السفن- محملة تحميلا كاملا- أكبر من عمق القناة. وبغير تعميق غاطس المجرى الملاحى للقناة وتفريعاتها لا يمكن أن تستخدمها بحمولتها الكاملة 65% من ناقلات البترول الخام و94% من ناقلات الصب الجاف و100% من حاملات الحاويات!! أضف الى هذا أن المجرى الحالى للقناة لا يسمح إلا بمرور السفن فى اتجاه واحد فى المسافة غير المزدوجة، وسوف يقلص ازدواج 75 % من مجرى القناة زمن انتظار ومرور السفن بها ويحسن اقتصاديات تشغيل السفن ويجذب خطوطا ملاحية عالمية لا تمر بقناة السويس ويضاعف معدلات وايرادات هذا المرور. كما يتضمن المشروع إقامة ستة أنفاق جديدة للسيارات والقطارات تربط ضفتى القناة بما يعزز الأمن القومى بتنمية سيناء وإنهاء عزلتها. وأما تكلفة مشروع القناة فيمكن استردادها حتى قبل اكتمال تنفيذ كل مكوناته.
وثانيا، أن ميناء بورسعيد، رغم موقعه الفريد عند مدخل قناة السويس ورغم حصة مصر المهمة فى عبور التجارة العالمية البحرية، يشغل المركز السابع والثلاثين فى قائمة أهم 50 ميناء للحاويات فى العالم، بينما تخرج من هذه القائمة موانئ السويس وغيرها من موانئ مصر. ويصل دخل بلدان أخرى من ممرات وموانىء بحرية لا تتمتع بمزية موقع قناة السويس وموانيها مكاسب تفوق بكثير ما تحققه الأخيرة. ويستهدف المشروع تحويل موانىء ومحور ومحيط القناة الى مركز صناعى وتجارى عالمى بتطوير موانىء بورسعيد والسويس لتغدو مراكز لتجارة العبور العالمية والاقليمية متعددة الوسائط، البحرية والبرية والجوية، بما توفره من مرافق لوجستية تتضمن مخازن تبريد ومحطات لتعبئة الحاويات ومستودعات للتخزين، وما تقدمه من خدمات التموين بالوقود والمؤن وأحواض صيانة وإصلاح السفن وغيرها. كما يستهدف المشروع جذب رأس المال المصرى والعربى والأجنبى للاستثمار فى المشروعات الصناعية والخدمية التصديرية فى منطقتى شمال غرب خليج السويس وشرق تفريعة بورسعيد.
وثالثا، أننى أناشد الرئيس السيسى أن يفعل ما تعهد به فى خطاب تنصيبه فى سياق يستوعب حتمية وضع وتنفيذ استراتيجية لتصنيع مصر. أقصد إعلانه أنه يتعين النهوض بقطاع الصناعة عصب الاقتصاد المصرى والسبيل لخلق فرص العمل وتشغيل الشباب، واصلاح المنظومة التشريعية لتحفيز قطاع الصناعة وتيسير حصول المستثمرين على الاراضى والتراخيص لإقامة المشروعات، ووقف تصدير المواد الخام ومعالجتها وتصنيعها لزيادة القيمة المضافة، إضافة إلى تدوير المخلفات واستخدامها لتوليد الطاقة الحيوية. وأقصد وعده الذى أوفى به بتنفيذ مشروع تنمية محور قناة السويس، بما يتيحه من فرص لتعظيم الموارد والتنمية الصناعبة، من جهة أولى، وإنشاء محطة الضبعة للطاقة النووية وتعظيم الاستفادة من الطاقة الشمسية لإنتاج هائل من الكهرباء، حيث لا تصنيع بغير بناء قاعدة الطاقة الضرورية له، من جهة ثانية، وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة التى توفر مدخلات وسيطة فى مختلف مراحل العملية التصنيعية بما يوفر العملات الصعبة بجانب النهوض بالمناطق المحرومة والأكثر فقراً، من جهة ثالثة.
ورابعا، أننى تحت عنوان (حتمية تصنيع مصر) قد نشرت مؤخرا رؤية موجزة لضرورات وخبرات واستراتيجيات تصنيع مصر، وذلك فى سلسلة كراسات استراتيجية، التى تصدر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. وقد أعلنت باستقامة أنه على الدولة، الآن الآن وليس غدا، أن تقدم على وضع وتنفيذ استراتيجية طموحة للتصنيع، والثقة أن قدرات مصر تؤهلها لأن تكون دولة صناعية متقدمة. وبغير هذا لن يتحرر اقتصاد مصر من اختلالاته- الهيكلية والتجارية والمالية والنقدية المزمنة- ولن تعرف مصر تنمية شاملة ومستدامة، ولن تتوفر للمصريين حياة كريمة بفرص عمل عالية الانتاجية والدخل وبلا حدود، ولن تتمتع الأمة بالأمن الاقتصادى القومى والانسانى، كما تبرهن خبرة العالم من حولنا. وللأسف لا يزال التصنيع فريضة غائبة عن جدول أعمال الأمة المصرية والقيادة السياسية رغم أنه لا بديل للتصنيع لتحقيق عدالة توزيع الغنى فى بلد متقدم يتمتع بالثراء، بدلا من لغو عدالة توزيع الفقر فى بلد متخلف.
وأخيرا، أزعم أن حتمية التصنيع تتأكد إذا سلمنا بحقائق قيود المياه والأرض على فرص التنمية الزراعية الأفقية، واستحالة رفع الإنتاجية فى الزراعة المصرية بغير مدخلات التقدم الصناعى التكنولوجى، وإذا أدركنا حدود ومخاطر الاعتماد على مصادر الدخل الريعية المتقلبة؛ مثل الصادرات البترولية أو إيرادات القناة أو الدخل السياحى أو تحويلات المهاجرين, وإذا إنطلقنا من بديهة أن مضاعفة القيمة المضافة للسياحة، مثلا، تتوقف على ما يتيحه التصنيع من إنتاج محلى لمستلزماتها من المدخلات المصنعة! وإذا سلمنا بأن عوامل النجاح واحدة, سواء تعلق الأمر بالتصنيع أو بأى مجال من مجالات التنمية الاقتصادية. ويبقى دور الدولة حاسما فى التصنيع، كما تؤكد منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، بإزالة العقبات وتسريع التصنيع وتصحيح إخفاقات السوق، وباعتبارها منظِما توفر الحماية والحوافز ومخصصا لموارد المالية العامة ومؤثرا حاسما على سوق الائتمان، ومستثمرا من خلال المؤسسات المملوكة للدولة ومستهلكا يضمن سوقا للصناعة عبر المشتريات العامة.
نقلاً عن الأهرام