التحول الديمقراطي في تونس: صراع ما قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية
لم تستطع
قوة شعبية، من قبل الثورة التونسية، أن تسقط حاكمًا عربيًا، دائما كانت المؤسسة العسكرية تقوم بالمهمة، إما بسبب صراع
نخبوي بحت، أو لتحقيق إرادة شعبية مكتومة. وعلى هذا
الأساس تعتبر الثورة التونسية بحق، فارقة في تمكين
الإرادة الشعبية العربية. وحدث ما حدث في كل من (تونس، مصر، ليبيا، اليمن) أملا
وطموحًا في التحول الديمقراطي، فكيف تعاطت تونس مع هذه التجربة؟ وصولا إلى مرحلة الحسم القادمة في الانتخابات البرلمانية
والرئاسية؟ سؤالان يحاول هذا المقال الإجابة عنهما.
أولا- إرهاصات الثورة
التونسية
عندما أعلن
الرئيس بورقيبة في إبريل 1981 عدم اعتراضه على تأسيس أحزاب سياسية
معارضة، بشرط تخليها عن العنف والتعصب الديني، ارتفعت نبرة التفاؤل في الشارع التونسي، ولكنه لم يلبث أن تجرّع مرارة
الإحباط، حين زوّرت الانتخابات في نفس العام، وتفشت
صور الفساد، بحيث أصبح يعوق المواطن التونسي في حياته اليومية، وخرج
المواطن متمردا في عام 1984، فيما عرف حينها بانتفاضة الخبز، ولاذ
الحاكم، بالقوانين الاستثنائية وإعلان حالة الطوارئ،
ثم أوقف الإصلاحات السياسية، وفي ظل هذا الظرف، استغل زين العابدين
بن علي منصبه كرئيس للحكومة، فقام بانقلاب سلمي على بورقيبة، في
1987.
تبنّى بن علي إصلاحات جزئية، كتنقيح الدستور، وتحديد مدة الولاية
الرئاسية، وإدخال بعض المرونة على شروط الترشح للانتخابات
الرئاسية، وإصدار قانون الأحزاب السياسية عام 1988، والسعي إلى بناء توافق وطني بين
القوى السياسية والحزبية والنقابية. في ظل هذا المناخ المتفائل حصلت
المعارضة التونسية على 20% من إجمالي المقاعد في مجلس النواب. إلا أن
وقائع الانتخابات والمشاركة السياسية في الأعوام
1989، 1994، 1999، 2004،2009 تشير في مجملها إلى عدم حدوث تغير ملموس في وضع الحريات، بل ارتفعت نسبة المقاطعة
الشعبية وحجم التزوير، كما لم يحدث تغير ملموس في توزيع
عوائد التنمية، بل استشرى الظلم الاجتماعي الطبقي
والجهوي، وصارت الدولة مرتعًا للفساد بجميع أنواعه، دون محاسبة.
ثانيا- مشهد ما بعد الثورة
انطلقت
الثورة التونسية من الجنوب المهمش، عبر حدث استثنائي، سرعان ما تحول إلى انتفاضة تعبر عن غليان شعبي،
وجمر متقد تحت الرماد، وتحولت تونس إلى
نافورة غضب ضد الاستبداد والفساد والخوف والإحباط. تحركت كتلة
الثورة من الجنوب والوسط إلى الساحل
والعاصمة، في ملحمة استغرقت 25 يوما، وسقط نظام
بن علي، لترتفع معنويات الشعب التونسي إلى ذرًى لم تصلها من قبل، فالجماهير فرحة بالانعتاق من ماضٍ فاسد ومستبد،
وواثقة في مستقبل ديمقراطي، تسترد فيه حقوقها المنهوبة من
الحرية والتنمية العادلة.
ثم يأتي
مشهد ما بعد الثورة، أكثر تعقيدًا، وأكثر تشاؤما، لا في تونس وحدها، وإنما في بقية بلدان الربيع العربي، فالاستحقاقات
السياسية، أنتجت حضورًا قويا لقوى الإسلام السياسي، خاصة
في تونس ومصر، وهو أمر متوقع، فالمواطن العادي (الناخب)، أراد أن يختبر نموذجًا
جديدًا في الحكم، وقد وجد النموذج الإسلامي أمامه، يبشر بالعدل
والمساواة والنهضة، فلم يتردد في منحه الثقة على
أمل أن تحقق له قوى الإسلام السياسي، ما عجزت القوى الليبرالية أو الاشتراكية عن تحقيقه. غير أن الأمل خالف الواقع،
بوتيرة واحدة تقريبا، فقد جرى تعويق عملية التحول
الديمقراطي، بعد أن أصرت قوى الإسلام السياسي – تحت الاختبار-
أن تتعامل مع التنوع والاختلاف بين القوى الثورية، بوصفه خلافا
بين أنصار الدين وأعدائه، ونفثت ريح الكراهية بين القوى، بسبب هذا النهج، فالاختلاف السياسي، يتحول إلى خلاف عقائدي،
ثم إلى معركة بين الحق والباطل، بين أتباع الشيطان،
وأولياء اللـه.
وقد حسمت الأمور لحد كبير في مصر بعد الثورة على حكم الإخوان المسلمين، بعد عام واحد
من التمكن، وبقيَ الوضع في تونس غير محسوم حتى اللحظة،
ربما بسبب الاستفادة الانعكاسية من التجربة المصرية،
وربما بسبب تميز حزب النهضة بالواقعية السياسية، وربما أيضا بسبب
أسبقية
التوافق بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس، قبل الثورة التونسية، وتعتبر حركة 18 تشرين الأول أفضل ما تم التوصل إليه
في هذا السياق.
ثالثا- المجلس الوطني التأسيسي
بعد جدل
واسع في أعقاب سقوط نظام بن علي، اتفقت القوى الثورية على انتخاب مجلس وطني تأسيسي مهمته، تشكيل حكومة مؤقتة، وكتابة دستور
للبلاد. وجرت الانتخابات في نهاية أكتوبر
2011، في أجواء متفائلة، وفاز حزب النهضة بعدد 89 مقعدًا
من جملة 217، يليه وبفارق كبير حزب المؤتمر، بعدد 28 مقعدًا، يزاحمه تكتل العريضة الشعبية التي أسسها د.محمد الهاشمي،
الإسلامي المنشق عن حزب النهضة، وفاز بعدد 26 مقعدًا، ثم
التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، بعدد
20 مقعدًا. وقبل حزب المؤتمر (بقيادة المنصف المرزوقي) والتكتل من أجل العمل (بقيادة مصطفى بن جعفر)، التحالف مع حزب
النهضة، لتشكيل الترويكا الحاكمة في تونس. وقد حرصت النهضة
على عدم المغالبة، وفضلت الإمساك بكل الخيوط من خلف
الستار، وبالفعل تم انتخاب المنصف المرزوقي رئيسا مؤقتا للجمهورية،
وانتخاب الوزير الأول من حزب النهضة، وسارت الأمور، بين كر وفر، ومراوغة ومماطلة في كتابة الدستور، إلى أن نجح
المجلس في كتابة دستور حداثي يلقى قبول غالبية
التونسيين.
والواقع أن الأحداث المتسارعة في مصر وليبيا، أثرت على حزب
النهضة في تونس، فقد سعى منذ بداية الأحداث إلى تمييز
الحالة التونسية عن المصرية، عبر أربع آليات:
الأولى: نقد أداء الإخوان المسلمين في مصر
– في صورة نصائح أو بيان موقف- وتسفيه رغبتهم في
التمكن السريع، وعلاقتهم بالتيارات السلفية المتشددة.
والثانية: السعي إلى تقديم تنازلات
بطيئة ومحسوبة، وبالفعل، وبعد جهد جهيد من المعارضة التونسية،
تم تشكيل حكومة كفاءات جديدة، في أعقاب التظاهرات التي انطلقت بعد
اغتيال شكري بلعيد. ثم في أعقاب اغتيال محمد البراهمي،
سعت النهضة إلى التسريع والانتهاء من المواد الخلافية في الدستور،
مع تقديم تنازلات للقوى العلمانية، والتصويت عليه.
ثالثا: الترويج لعدم
تناقض عقيدة الحزب الإسلامية مع الحداثة.
رابعا: تبنِّي حملة دعائية ضد بعض التيارات السلفية التونسية، خاصة بعد الاغتيالات
التي طالت رموزًا سياسية (شكري بلعيد، محمد
البراهمي)، كما استهدفت جنودا وضباطا من الشرطة والجيش.
هذه الآليات اتبعتها حركة النهضة، أملا
في الإبقاء على شعبية حزبها في الشارع التونسي. فهل تنجح هذه
الآليات في التأثير على مسار الانتخابات التونسية
القادمة؟ وماذا أعدت الأحزاب التونسية المدنية لمواجهة حزب النهضة،
وهل لديها الطموح والرغبة في الفوز بالأغلبية، وتحويل النهضة إلى صفوف المعارضة؟
رابعًا: البيئة
السياسية للانتخابات
أعلن المجلس
الوطني التأسيسي، السادس والعشرين من أكتوبر 2014 موعدًا لإجراء الانتخابات البرلمانية، يليها بعد شهر تقريب
الانتخابات الرئاسية، وبنجاح تونس في إتمام هذين الاستحقاقين،
تكون قد نجحت في التحول الديمقراطي وإرساء مؤسسات
حكم مستندة على دستور جديد يحظى بالقبول العام، وعلى قدر أهمية المرحلة، تبرز لدى الناخب التونسي العديد من المخاوف
وعدم الثقة في كل من النخبتين الدينية والمدنية على
السواء، يمكن إيجازها فيما يلي:
1- لم تتمكن
الأحزاب التونسية من تكوين تحالفات سياسية كبيرة، يمكن أن يثق فيها الشارع التونسي، بل على العكس أسهمت هذه الأحزاب –
خاصة الكبرى منها- في زيادة الارتباك، بعد أن وصل عدد
القوائم الانتخابية (1500 لائحة). غالبيتها قوائم
انتخابية حزبية، ومستقلة، بينما تمثل التحالفات نحو 10% من جملة القوائم، أهمها تحالف الجبهة الشعبية الذي يضم (11
حزبًا) موزعة بين اليساريين والقوميين. بينما توجد
تحالفات حزبية صغيرة، معظمها ثنائي أو ثلاثي، كأن الأحزاب التونسية حبّات
عقد منفرط، ومطلوب من الناخب التونسي، أن يصنع
المستحيل، بأن يكون أكثر وعيًا، وأكثر تحملًا للمسئولية من النخب التونسية في رسم المستقبل السياسي للوطن، منطق معكوس
بالتأكيد، وواقع يمثل تحديًا للتجربة الديمقراطية في
تونس.
2-تجرى الانتخابات،
ولدى الجميع تخوفات من نمو ظاهرة الإرهاب، خاصة بعد الحوادث التي
طالت الرموز السياسية والضباط والجنود، واتهام الترويكا الحاكمة بالتساهل مع الجماعات السلفية المتطرفة، والتنظيمات
الإرهابية الموجودة على الأرض، كتنظيم أنصار
الشريعة، وبعد أن أصبحت تونس من بين أهم المصدِّرين للكوادر
المتطرفة التي تحارب في الشام.
حزب النهضة،
في يده كتلة تصويتية لا يستهان بها، ولكنها لا تمنحه الأغلبية، ويحتاج إلى إقناع المواطن غير النهضوي بقدرة الحزب
على نقل تونس إلى مكانها المستحق بين البلدان الديمقراطية
الآخذة في التقدم. وفي المقابل انفجر الاتحاد من أجل تونس، بعد أن قرر
الباجي قائد سبسي، رئيس حركة نداء تونس التقدم بلوائح انتخابية فردية،
ما يزيد من صعوبة جذب الكتل التصويتية الحائرة لصالح الأحزاب المدنية.
ربما يتجه
قطاع كبير من الناخبين إلى التصويت العقابي، ضد الترويكا الحاكمة الآن، ولذلك فقد حرصت (النهضة، المؤتمر، التكتل من
أجل العمل) على تفكيك هذا التحالف في الانتخابات
البرلمانية، حتى لا تكون هدفًا لهذا التصويت العقابي.
3- لدى المواطن تخوفات
كبيرة من عدم قدرة حزب النهضة في حال فوزه، على إحداث تقدم في ملفات أخفقت فيها حكومة علي العريض، وأهمها الملفان
الاقتصادي والأمني. كما أن بعض المتعاطفين – وليس المنتمون-
مع النهضة، بدأت تساورهم الشكوك تجاه التناقضات التي
بدت خلال المرحلة الانتقالية بين قيادة الغنوشي، التي تتسم بالمرونة
والمناورة السياسية، وبين بقية الكوادر النهضوية التي تتسم بالصلابة
والتشدد، وفي حال غياب القيادة لأي سبب، يمكن أن يتحول الحزب إلى الفاشية الدينية.
4-
يخشى التونسيون من عودة رؤوس الفساد إلى الساحة السياسية
مرة أخرى، بأقنعة جديدة، وعبر أحزاب صغيرة متشكلة
بالفعل، وتضم صراحة كوادر سياسية ورجال أعمال، ينتمون لنظام بن علي.
5- لم تبرز
حتى الآن مرجعية فكرية حاكمة، تستطيع أن تقود تونس في المرحلة القادمة، فالمرجعية الإسلامية متهمة (محليا وإقليميا)،
والليبرالية موصومة بالفساد والاستغلال والتبعية،
واليسارية لا تزال تحاول تطوير حركتها الاجتماعية في أطر حزبية كبيرة،
تمكنها من ترك ميادين الاحتجاج، والنفاذ إلى
الشوارع الجانبية، حيث واقع المهمشين والعاطلين، والمحرومين من عوائد التنمية.
على أية حال، تبقى التجربة الديمقراطية التونسية، أكثر نضجا من مثيلاتها في
بقية بلدان الربيع العربي، رغم أنها تعاني من مخاض صعب، إلا أنها الأقرب
لاتمام عملية التحول بنجاح، لتبدأ مرحلة جديدة من الممارسة السياسية، فهل
تضع هذه الانتخابات التونسيين على بداية الطريق الصحيح، تحقق طموحهم،
وتثمن تضحيات المواطن التونسي طوال السنوات الثلاث الماضية.