هل من حق الكاتب أن يشغل قراءه بأحداث بناء على تجربة شخصية؟ فى رأيى لايجب إلا فى حالة واحدة: إذا كان هذا الحدث أو هذه الظاهرة تعكس حالة عامة أو ذات مغزى أوسع من الجانب الشخصي، كحالة فساد منتشر مثلا، أو عدم كفاءة فى إدارة مرفق عام ثم البحث عن حل، أو حالة نجاح استثنائى أو قيادة بارزة تمثل قدوة وتشير إلى إتجاه وطريق.
هى فعلا حالة داليا.. وهى حالة حقيقية، هى شابة تخطو بثبات وسعادة إلى نهاية العشرينات من عمرها، وهى إذن تمثل الغالبية الكبرى من سكان المجتمع المصرى والعربى أيضا، فهذه المجتمعات ـ على عكس معظم المجتمعات الأوروبية ومجتمعات أمريكا الشمالية ـ هى مجتمعات شابة وفتية. حيث المجموعة العمرية هذه التى لاتتعدى سنواتها الـ 29 عاما تمثل أكثر من 60% من السكان.
كما أن هذه الفئة العمرية لاتمثل فقط أغلبية كمية أو عددية، ولكن دورها حيوى للغاية، هى بالطبع تشكل الحاضر وتستهلك جزءا كبيرا من ميزانية الدولة والأفراد. ولنفكر مثلا ما تنفقه كل أسرة من جميع المستويات على التعليم واختيار المدرسة ومصاريفها، ثم أيضا ما يتم استهلاكه من ميزانية هذه الأسرة فى الدروس الخصوصية، كما إن أهمية الشباب لا تقتصر فقط على الحاضر رغم مركزيته، ولكنها تقريبا الفئة الوحيدة التى تحدد شكل المستقبل ـ حرفيا لا مجازا. فإذا تم تعليمهم وتوجيههم بالطريقة الحسنة، أصبح هذا المستقبل مشرقا، وبالتالى فإن ما تنفقه الدولة والأسرة على التعليم مثلا يبدو عبثا، ولكنه فى حقيقة الأمر استثمار يأتى مردوده فى السنوات القادمة ـ أهم بكثير على مستوى المجتمع والفرد من وضع وديعة فى بنك أو حتى «تسقيع» أرض. وبالطبع العكس صحيح، أى أنه إذا لم يتم الاستثمار السليم فى هذه الفئة العمرية المتزايدة العدد. فلنستعد لتراكم المشاكل من مدمنى المخدرات على اختلاف أنواعها، أو أعضاء فى منظمات متطرفة، أو جرائم الشوارع.. بهذا المعنى إذن فإن هؤلاء الشباب هم فعلا الفئة التى تشكل مؤشرا حقيقيا عن حالة المجتمع ـ من مصر إلى كوريا أو اليابان ـ وتطوره، باختصار مستقبله.
تأتى أهمية الشابة داليا إذن من أنها إنعكاس لهذه المجموعة التى تشكل غالبية مجتمعها.. مرآة.. ماذا فعلت داليا لتستحق ذكر خاص من بين الملايين التى هى رقم فقط من بينها؟
أولا: هى أكملت تعليمها رغم أن هذا التخصص فى علم السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو إدارة الأعمال لم يكن هدفها الأول ولا حتى أكثر التخصصات الذى يستأثر بقلبها. لأن داليا هى فنانة قبل كل شيء، تقوم بممارسة الغناء والموسيقى منذ كانت طفلة فى المدرسة الإبتدائية. وبالرغم من أنها تأتى من أسرة فنية عريقة، فإن الآباء والأمهات عادة محافظون أو بمعنى آخر حريصون أكثر من اللازم على مستقبل بناتهم وأولادهم، وبالتالى يصرون على إلتحاق الشابة أو الشاب بتخصص له «مستقبل مضمون» كما يعتقدون، فالتفكير التقليدى وحتى الشائع هو أن التخصص فى الفن هو مخاطرة وحتى هواية فقط لا تأتى بما يكفل «أكل العيش» ـ تماما مثل حالة كرة القدم أو غيرها من الألعاب الرياضية.
ثانيا: تخصصت إذن ـ بناء على إصرار الأب أو الأم ـ فى أحد التخصصات التقليدية، وفى الواقع نجحت فيه، ولكنها لم تنس هوايتها فى الموسيقى والغناء، واستمرت فى تنميتها وممارستها أثناء دراستها الجامعية، وعندما حصلت على البكالوريوس، أقنعت والدها أنها قامت بواجبها كما هو مطلوب منها، وحان الوقت إذن للاتجاه بكامل طاقتها للتخصص فى هوايتها الفنية كما يجب ـ ولما كانت داليا من المحظوظات التى تأتى من أسرة ميسورة الحال، فقد ذهبت إلى واحد من أكثر معاهد أوروبا المتخصص فى الموسيقى والغناء لتخوص تجربة الاعتماد على النفس والعمل الشاق الذى يكوّن ويدرّب على أعلى مستويات المهنية، وهذه التجربة فى حد ذاتها ـ أى الاعتماد على النفس فى مجتمع غريب وممارسة المهنية فى أعلى صورها ـ هى فى حد ذاتها رصيد ضخم لأى شابة أو شاب.. اجتهدت ونجحت داليا على كل هذه المستويات، وحصلت على الماجستير.
ثالثا: أصبحت داليا سبرانو ـ أو مغنية أوبرا ناجحة، وبدأت العروض تتكاثر للعمل والاستقرار فى أوروبا، حيث تغنى داليا بأربع لغات على الأقل: الانجليزية، والفرنسية، والإيطالية، أو لغة الأوبرا الأساسية، وبالطبع العربية، من أغانى المطربة اللبنانية فيروز أو المصرى الرائع سيد درويش. ولكن داليا اختارت العودة والاستقرار فى مصر، حيث تقول إن هدفها هو العمل من أجل هذا البلد. وبالرغم من أن الفرد يستطيع خدمة بلده من الداخل أو الخارج، حيث تقضى العولمة وآليات التواصل الاجتماعى على الحواجز الجغرافية، إلا أن وجود داليا فى الداخل المصرى يعطى رسالة للكثير من الشباب المصرى الذى بدأ يعتقد أن وسيلة الخلاص الوحيدة هى الهجرة، تقدم داليا إذن قدوة أخري. الذهاب والتكوين فى أكثر الأماكن الأجنبية عراقة ومهنية، ثم الاختيار ـ فعلا الاختيار ـ للعودة لتحرث فى أرضها، وتثبت أن وجودها فى الداخل المصرى لايعيق النجاح والانتشار الدولى بالمرة، فتتم دعوتها دوليا كثيرا، كما أن بعض السفارات الأجنبية تخرج عن نطاق العمل السياسى التقليدى وتدعو داليا لأمسيات موسيقية ـ غنائية من أرفع المستويات وأكثرها إمتاعا. وهكذا ترى وجه داليا بسعادة غامرة، لأنها تشعر بالنجاح على المستوى الفردى والوطنى أيضا. فكما تقول، هى الآن توظف «القوة الناعمة» لخدمة رسالة فردية ووطنية، وفى الحقيقة هى حاليا تجسد هذا الانسجام والتلاحم بين الهدف أو المصلحة الفردية الشخصية والعمل الوطنى فى أرقى وأجمل صورة. وهذا هو استخلاص رابع عام لهذه التجربة الشخصية.
داليا مثل رائع إذن على تصميم الشباب ونجاحه، لكى تثبت بكل جلاء أن هذه الفئة العمرية «بتعمل فرق»، وتوضح كيف سيكون مستقبل مصر. مبروك لداليا ولمصر.. ومحتاجين لكثيرات مثلها. نقلا عن الأهرام