سياسات الأمننة ومواجهة المخاطر والتهديدات العالمية الجديدة

* هذا البحث
منشور في مجلة (آفاق سياسية) – عدد مايو 2024
إشراف
أ.د. عبير الغندور د.
هويدا شوقي
أستاذ ورئيس قسم العلوم
السياسية مدرس العلوم السياسية
كلية التجارة وإدارة
الأعمال – جامعة حلوان
المقدمة
إن التحولات الذي
شهدها مفهوم الأمن، أسفرت عن بروز ما يسمى بالمخاطر الكامنة Latent Dangers في بيئة الأمن هو ما يفرض
مزيدا من التحديات على صانع القرار المتعلق بالأمن القومي، لأنها في النهاية تمثل
مخاطر مجتمعية في بيئة الأمن القومي Societal
Risks.(1)
أي أن اعتبارات
الأمن لم تعد تهدف إلى تجنب الخطر، ولكن تهدف أيضا إلى الاعتماد على مفاهيم
التأمين ضد الخطر وآليات التعامل معه، فعلى سبيل المثال المخاطر التكنولوجية Technology of risks أصبحت هي الموجهة للتفاعلات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة.(2)
ولعل التداخل
والتمايز الفكري بين العالمية والعولمة ربما يساعد الباحث أيضا في محاولاته
لاستكشاف أسس جديدة لمفهوم الأمن ربما تعرضت لعمليات من التشويه أو التشويش أو
الإقصاء فيما يتعلق بمواجهة المخاطر العالمية، ذلك أن توضيح الفارق بين المفهومين
سيتيح للدراسة مجالات أوسع لحدود مفهوم العالمية وكذلك لحدود تأثيراتها على مفهوم
الأمن.
وبغض النظر عن حدود
الفارق بين العالمية والعولمة والتي سيمهد لها الباحث ضمن مفاهيم الدراسة
الأساسية، فإن التحولات التي شهدها مفهوم الأمن مؤخرا، نابعة عن التحول في طبيعة
المخاطر الدولية والعالمية، فظهرت ما تسمى بالمخاطر الكامنة Latent (3) في
بيئة الأمن للتعبير عن حجم التحديات أمام صانع القرار المتعلق بالأمن القومي،
لأنها في النهاية تمثل مخاطر مجتمعية Societal
Risks في
بيئة الأمن القومي.(4)
وفيما يتعلق بتفسير البعد المجتمعي للسياسات الأمنية، فإن مفهوم "الأمننة Securitization" ـ الذي صاغته مدرسة كوبنهاجن Copenhagen ـ من المفاهيم المتداولة بكثرة في الدراسات الأمنية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بل إن بعض المختصين يؤكدون أنها إحدى النظريات الرائدة في الدراسات الأمنية.(5)
ويرجع الفضل في بناء مفهوم "الأمننة" إلى المفكر البريطاني "باري بوزان Barry
Buzan" والمفكر الدنماركي "أول ويفر Ole Waever"، حيث اعتبروا أن تحديد ما يسمى بالعملية الأمنية Securitization Process يتم بناؤه من خلال الممارسات الخطابية للفاعلين الاجتماعيين، لذي يطلقون عليها أنها نظرية "خطاب ـ فعل Speech-act".(6)
أي أن اعتبارات
الأمن وفقا لمدرسة كوبنهاجن ومفهوم "الأمننة Securitization " لم تعد تهدف إلى تجنب الخطر، ولكن تهدف أيضا إلى
الاعتماد على آليات التأمين ضد الخطر وكيفية التعامل معه، فعلى سبيل المثال
المخاطر التكنولوجية Technology of
risks
أصبحت هي الموجهة للتفاعلات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة.(7)
وتشكل المخاطر
العالمية تحديا جوهريا للأمن القومي للدولة، إذ لم يعد التهديد والخطر الاستراتيجي
مرتبط بخطر محدد وواضح يمكن لصانع القرار حشد القدرات السياسية والعسكرية
والاقتصادية لمواجهته، بل إن التحدي الأكبر بات فيما تفرضه قواعد المساومة للتعامل
في قضايا متشابكة معقدة فيما يتعق بالجانب الأمني.(8) خصوصاً فيما يتعلق بقدرة صانع القرار
على الحفاظ على التوازن الاستراتيجي المطلوب في بيئة المخاطر سواء على المستوى
المحلي أو الإقليمي أو الدولي أو حتى العالمي بما يعزز المكاسب الاستراتيجية ويقلل
الخسائر قدر الإمكان.(9)
ويفهم الأمن في
سياقين أولهما، سياق التفاعل المرتبط بتخليق المخاطر والفرص وثانيهما سياق التكوين
المرتبط ببناء التصورات المستمرة والمتغيرة بشأن التعرف على المصالح والتي تشكل
بيئة الحكم على الأحداث في مسائل الأمن القومي.(10)
وتسعى الدراسة بشكل
عام إلى توضيح أن مفهوم الأمن بمفهوم يتخطى مجرد الحدود السياسية والقومية بالمعنى
التقليدي، إذ يشمل أيضا في ضوء عالمية المخاطر، الحدود الجيوسياسية والاقتصادية
والثقافية والاجتماعية.
الفرض العام للدراسة
تقوم الدراسة على
فرضية رئيسية مفادها، "أنه كلما اتسع نطاق التهديدات والمخاطر وتعددت أنماطها
في العلاقات والتفاعلات الدولية، فإن مواجهة هذه التهديدات تتطلب التركيز على
أبعاد جديدة في مفهوم الأمن، لاسيما الأبعاد الاجتماعية التي تشكل نظرية الأمننة
مجالا خصبا لاختبارها في سياق الدراسة.
أي أن الدراسة
تفترض كذلك أن هناك علاقة بين التغير في طبيعة التهديدات والمخاطر وبين التغير
الذي يطرأ على مفهوم الأمن وبالتالي على سياساته ضمن مفاهيم نظرية الأمننة.
منهجية
الدراسة
استخدمت الدراسة عدة مناهج في
تحليل واختبار العلاقة بين
التغيرات في طبيعة التهديدات والمخاطر العالمية، وبين التغير في مفاهيم الأمن
لمواجهة هذه التهديدات، حيث اعتمد الباحث على المنهج الوصفي بداية لدى استعراض
طبيعة المخاطر والتهديدات الأمنية ثم لجأ إلى المنهج المقارن حينا ليقف على مناطق
الاختلاف والتحول ثم استخدمت الدراسة كذلك المنهج التحليلي لتفكيك تلك العلاقات
والوقوف على جدواها في مواجهة التهديد من عدمه.
المبحث الأول- نظرية الأمننة .. النشأة والمفاهيم والمباديء
ظهرت نظرية
"الأمننة" في ثمانينيات القرن الماضي في ظل توتر الحرب الباردة
بين القطبين الأمريكي والسوفيتي، وفي إطار تطورات مليئة بالمشاغل الأمنية أمنية،
على يد كتابات المتخصص في الدراسات الأمنية Ole Weaver ، والذي سعى بمشارکة "باري بوزان" إلى وضع أسس مدرسة جديدة
في مجال العلاقات الدولية عٌرفت بمدرسة "کوبنهانجن" للدراسات الأمنية.(11)
المطلب الأول- نشأة نظرية الأمننة Securitization
اكتسبت نظرية الأمننة زخمها من تناولها لفكرة "الأمن" بحد ذاته، إذ تعد معضلة الأمن
والحرية من القضايا الأقدم من حيث الجدل والإشكالية في تاريخ الفكر السياسي
الحديث، بل إن النظرية السياسية الواقعية الكلاسيكية تأسست على تقديم فكرة
الأمن على ما سواها من قيم في حالة الصراع، وأبرزت الدولة باعتبارها الجهاز
الاجتماعي القادر على فرض الأمن مقابل ولاء الأفراد له وتنازلهم عن حريتهم جزئيًّا
أو كليًّا في سبيل الأمن، وهو ما جعل نظرية الأمننة مرتبطة بالتقاليد النظرية
للمدرسة الواقعية، وخصوصا التي صاغها الألماني كارل شميت في كتابه "مفهوم السياسي".(12)
ويعتبر شميت أن
الشأن السياسي لا ينفصل عن غيره من الشؤون، ولكن يتم تحديده من خلال الطريقة التي
يتعامل بها الفاعلون تجاه القضية، لذلك فالسياسة وفقا له ليست قضية موضوعية ولكنها
عملية إدراك ذاتي، إذ يعتبر شميث أن جوهر عملية الإدراك هذه هو العدائية الحادة
والمتطرفة، بل إن السياسة في هذا السياق تتحدد بقدر هذه العدائية التي قد تفرض
تصنيف الصديق والعدو، فكل جانب ديني أو أخلاقي أو اقتصادي يصبح قضية سياسية إذا
تسبب في تصنيف الآخرين إلى أصدقاء وأعداء.(13)
وهذا التعريف للشأن السياسي في هذا السياق يتناول الأمن على أنه قضية " وجود"، وتكون فكرة الأمننة هي
رصد هذه الأخطار التي يكون مصدرها أعداء على نحو ما يرى الفاعلون حتى تصبح هذه "الأخطار" قائمة على أساس الحالة
القصوى أو حالة الاستثناء، وتصبح السياسة هي تلك الممارسة لإجراءات الطوارئ
والإجراءات التي يتم اتخاذها بشكل استثنائي.(14)
ورغم وجود عدد من
المدارس التي تناولت نظرية الأمننة Securitization
theory إلا
أن الفضل الأكبر في بلورة أفكار هذه النظرية يعود لمدرسة كوبنهاجن، وهي النظرية
التي تهدف لتوضيح أن سياسات الأمن القومي للدول ليست مفروضة وليست أمرا مسلما به
في حد ذاته، ولکنها سياسات مصممة من قبل السياسين وصناع القرار أو ما يعرف بالفاعل
الذي يقوم بالأمننة A
Securitizing Actor
حينما يقوم هذا الفاعل وفي إطار طبيعة البيئة الأمنية بما في ذلك بيئة المخاطر
والتهديدات بصياغة هذه السياسات وفق أولويات تحقيق الأمن.(15)
وقد اتفق منظرو
"الأمننة" بشأن مجالات اهتمام النظرية، وحددوها في المجالات السياسية
والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والبيئية، ورغم وجود تباينات بشأن ما تتضمنه
سياسات نظرية الأمننة، إلا أن هناك قاسما مشتركا في هذه السياسات يتمثل في وجود
قضية تمثل تهديدا يتم صياغتها من قبل الفاعل المؤمنن حتى يتم تصوير هذا التهديد
على أنه خطر وجودي أو قضية محورية للأمن.(16)
ويعد الوقوف على
الأسلوب أو البناء الخطابي"The
Rhetorical Structure Of Decision Makers" للفاعلين الرئيسيين Main Actors
القائمين بعملية الأمننة أو صناع القرار من أهم مساعي منظرو الأمننة، إذ تتوقف
فعالية السياسة الأمنية على أسلوب الخطاب Speech Act الذي يشكل محور هذه السياسة، حيث يقوم الفاعل المؤمنن بصياغة
خطابه إزاء قضية معينة على اعتبار أنها تمثل تهديدا أمنيا، للتأثير في الجمهور
المخاطب، وتحويل القضية من مجرد موقف عادي يقع في مستوى السياسات الدنيا إلى مستوى
ما يعرف بالسياسات العليا.(17)
ودائماً ما تختلف
القضية التي يُصاغ بشأنها خطاب الأمننة، فيمكن أن تكون الهوية هي محور هذه القضية
فيما يتعلق بالمجال الاجتماعي(18)، كما يمكن أن تكون مخاطر التغيرات
المناخية وذوبان الجليد ومخاطر الفيضانات هي القضايا المحورية في المجال البيئي،
بينما يمكن أن تكون الدولة هي القضية الرئيسية الأكثر ظهورا فيما يتعلق بالمجال
العسكري.(19)
ويعتبر ويفر أن اللغة تمثل عاملا حاسما، إذ أن الأمن بالنسبة له هو فعل خطابي speech
act، ووفق هذا المعنى فإن الأمن لا يشير بالضرورة إلى حالة أكثر واقعية، ولكن الخطاب الأمني نفسه هو الفعل.
أولاً- آليات وميكانزم الأمننة:
إن القضية المحورية التي تشغل اهتمام الباحثين في نظريات الأمننة هي
الميکانزمية التي تعمل بها عملية الأمننة securitization process تلك العملية التي تبدأ من استلام المؤمنن للخطر مروراً بتصديره للجمهور المستهدف على أنه تهديداً وجودياً إلى مرحلة التغذية العکسية وتقويم جدوي العملية.
كما تدخل في نظام عملية الأمننة استثناء قضية معينة من عمليات الأمننة
حينما يقرر أنها لم تعد تمثل تهديداً وجودياً أو خطراً محدقاً، من خلال ما يعرف بـ"تفكيك الأمننة
Desecuritization" وهو ما ستتناوله الدراسة ضمن المبحث الثاني من هذا
الفصل ضمن تعرضها لتأثيرات العولمة وانعكاساتها على عمليات الأمننة.
ومن أبرز الموضوعات التي سعت نظريات الأمننة لأن تعالجها في نهاية فترة الحرب الباردة تأثير عمليات الهجرة والنزوح على الأمن Migration-security nexus، خاصة مع ظهور تحذيرات
بشأن خطورة معدلات الهجرة والنزوح على الأمن القومي الأوروبي، وهو ما ظهر بصورة
أوضح بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث أصبحت قضية الهجرة تحديداً قضايا أمنية وتم استخدامها لأغراض
سياسية، وهو ما دفع البعض بدراسة حقيقة المخاطر التي تمثله ظاهرة الهجرة على الأمن
القومي، فعلى سبيل المثال، أجرى وينيرWeiner دراسة حاول خلالها أن يضع معايير لما يترتب على الهجرة من آثار
أمنية، وطرح في هذا تساؤلات مثل؛ هل الهجرة تمثل خطراً أو تهديداً للدولة
المستقبلة، وإلى أي مدى يهدد هذا الخطر الهوية الاجتماعية، بما يجعلها بالتالي
خطراً على استقرار المجتمع.(20)
المطلب الثاني- أبرز
إشكاليات نظرية الأمننة
1- فوضوية النظام الدولي
ولقد ظهر بوضوح استخدام مفهوم الأمننة على الصعيد العالمي في أعقاب أحداث
الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث كانت لبيئة نظام عالمي – آنذاك - بيئة ملائمة للجوء إلى إجراءات استثنائية للقضاء على خطر
الإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة، وتمثلت الإجراءات الاستثنائية في شن حرب
عالمية على الإرهاب؛ على نحو أعاد إلى الأذهان مفاهيم مثل عسكرة النظام الدولي،
وعهود الاحتلال المباشر لأراضي الغير، حيث صار "إقرار الأمن" على رأس أولوليات النظام
الدولي، وروجت الولايات المتحدة باعتبارها "الفاعل المأمنن" خطاب مكافحة الإرهاب من
خلال المؤسسات الدولية من خلال خطاب الصداقة/ العداوة في مقابلة الشبكات الإرهابية الأصولية التي
تتعامل بالمنطق نفسه.(21)
لقد تم تصوير خطر الإرهاب باعتباره تهديدًا وجوديًّا يحيق بالمجتمعات الغربية،
وسرعان ما التقطت بعض النظم الخطاب الأمريكي لتشن حربًا داخلية على "الإرهاب" أو لمنع التطرف، كما تم
في الولات المتحدة إقرار ما يسمى مرسوم الوطنية Patriot Act(22) والذي منح الإدارة
القيام بإجراءات استثنائية في الداخل لـ "إقرار الأمن". ورغم مرور أكثر من عشرين
عاما على تلك الحرب، لا يزال العالم يعاني من خطر الشبكات
الإرهابية، في حين تم استغلال محاولات التغيير الديمقراطي في العديد من البلدان
التي تأثرت مفاصلها ومؤسساتها بتداعيات تلك الحرب بشكل كبير؛ ويقدم العراق وسوريا
نموذجا واضحا في هذا الصدد.(22)
ولعل طبيعة النظام الدولي بعد أحداث سبتمبر، تقدم الكثير بشأن تداعيات
الأمننة على الصعيد الداخلي والخارجي، فإن كان من نتيجتها عسكرة النظام الدولي
وتأجيج سباقات التسلح وتوسيع نطاق الحرب والصراعات الطائفية والعرقية، بشكل ربما
أكثر مما كان عليه النظام الدولي قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، فإن
تداعيات هذه الأمننة على الداخل ربما تخطت مجرد زيادة احتمالات الصراع ومعدلاته.(23)
2- الأمننة إشكالية
السيادة
وفي ضوء هذه الحالة الاستثنائية، يمكن أن تلغي الأمننة المفهوم الحديث
للسيادة، وهو المفهوم الذي يعتبر أن الشعب يملك سلطة عليا يتم ممارستها من قبل
الدولة وفق مبادئ العقد الاجتماعي، إذ تصبح النخبة السياسية هي الفاعل الذي يمارس
السيادة في ضوء ما حددته من تهديدات ومخاطر التي أصبحت حالة استثنائية.(24)
ويقر شميت أيضًا في نظريته إن صاحب السيادة هو من يملك حق التقرير في حالة
الاستثناء، ويتحدد أصدقاء وأعداء صاحب السيادة على أساس الولاء له، وبالتالي تملك
نظرية الأمننة وأساس السيادة عند شميت قدرة ضخمة على تقسيم وتفتيت المجتمع وقدرة
على إدامة الصراعات به التي تصبح أساس بقائه.(25)
تتحول الدولة في ظل استدامة حالة الاستثناء "الأمننة" من جهاز قانوني هدفه
إنفاذ سياسة القانون إلى جهاز أمني توحد مؤسسته لخدمة "الأمن" كما تحدده النخبة صاحبة
السيادة على نحو يقض ي على هذه المؤسسات.
وإذا كانت الإجراءات التي يتم اتخاذها هي إجراءات طوارئ ولا تنتمي إلى
القوانين الاعتيادية التي تسير بها الدولة، نصبح أمام حالة من إدامة "اللا قانونية" وربما كان هذا المعنى
الذي قصده جورجيو أجامبين Giorgio Agamben(26) بحالة الاستثناء والتي يصبح فيها المواطن فردًا أعزل في
مواجهة سلطة الدولة القاهرة التي تستولي على حريته في مقابلة إقرارها للأمن. وقد بنى أجامبين نظريته
عن الإنسان المستباح على أساس نقد السيادة التي أسست لها نظرية شميت.(27)
المطلب الثالث- المدارس
النظرية والمفاهيم الرئيسية لـ"الأمننة":
أولاً- مدرسة کوبنهاجن Copenhagen School:
يعد إسهام مدرسة كوبنهاجن في تناولها لمفهوم الأمننة Securitization، من أهم
إسهامات المدرسة في
تناولها لمفهوم الأمن باعتباره ضرورة وجودية لا تزال تفرض نفسها في عالم مضطرب
بالصراع.(28)
وقد برز مفهوم الأمننة في ثمانينات القرن الماضي وارتبط بشكل وثيق
بالتفاعلات في العلاقات الدولية وما تخلقه من مخاطر وتهديدات، غير أن
المفهوم اكتسب أهمية مع تأثر البيئة الداخلية للدول والمجتمعات بما حولها من
اضطرابات بشكل أسفر إلى توسع الرقعة الأمنية سواء من خلال هيمنة الأجهزة الأمنية
على السياسة في بعض الدول أو إقرار القوانين التي تهدف إلى تحقيق الأمن على حساب
قيمة الحرية في الدول الديمقراطية.(29)
تتوسط مدرسة كوبنهاجن الاتجاهات الواقعية الكلاسيكية والجديدة والبنائية في
العلاقات الدولية، ففي حين تتنبى أفكار الواقعية التي تعتبر الأمن قضية جوهرية وجودية،
ترى أيضًا أنه بناء اجتماعي يتأسس عبر التواصل بين الدولة أو السلطة والجمهور، بل
إن الفعل الأمني في هذا الصدد هو عملية تفاوضية بين الفاعل والجمهور.(30)
ويعبر مفهوم أو نظرية الأمننة عن رؤية مدرسة كوبنهاجن لفكرة الأمن، إذ
يعتبر رواد هذه المدرسة أن الأمن يتعلق بالبقاء، وأن البقاء وفقا لبوزان يتعلق
أيضا بالمخاطر الجوهرية أو الوجودية، وفي حين يتغير يتغير مفهوم الأمن، فإن البقاء
هو أهم القيم الثابتة التي يدور حولها المفهوم، لذا يكون تحليل الخطر الوجودي هو
الأهم بل هو الذي يميز الأمن عن السياسة، ويصبح تعريف الأمن وفقا لذلك باعتباره "ما بعد السياسة" أو باعتباره "سياسة الاستثناء".(31)
الأمن وفقاً لمدرسة كوبنهاجن أيضاً هو "فعل خطابي Act of Speech " فهو ليس مجرد حالة
موضوعية بل نتيجة لعملية اجتماعية تقوم على البناء الاجتماعي لقضايا الأمن أي
تحديد ما الذي يمكن تأمينه ومِن مَن(32)، وبالتالي فهي بالأحرى
عملية إدراك ذاتي وليست بالضرورة قائمة على دواعي موضوعية.
وتقوم مدرسة كوبنهاجن أيضاً على حجة رئيسية؛ هي أن العلاقات الدولية تصبح
قضية أمن، ليس بسبب أن هناك قضية تشكل تهديدًا موضوعيًّا على الدولة، ولكن لأن أحد
"الفاعلينActors" قد رأى هذه القضية
باعتبارها تهديدًا وجوديًّا للبقاء.(33)
ووفقاً لرواد كوبنهاجن، فإن هذا الفاعل يدعي أن لديه الحق في التعامل مع
هذه القضية/ التهديد من خلال أدوات "استثنائية" وغير معتادة لتأمين البقاء في مواجهة التهديد، وعليه
يصبح الأمن ممارسة ذاتية، حيث تصبح أي قضية هي قضية أمن بمجرد أن يتم تعريفها على
هذا النحو.(34)
ويبقى أهم ما يميز عملية الأمننة لدى مدرسة كوبنهاجن، هو "البناء البلاغي" الخاص، من خلال تحديد
قضايا وجودية تكون هي محور خطاب الأمن، وتقدم هذه القضايا على أنها ذات أولوية
قصوى، وبالتالي يزعم الفاعل أن له الحق في التعامل معها من خلال أدوات استثنائية.(35)
ولقد أسست مدرسة كوبنهاجن افتراضات نظريتها للأمننة على نقد افتراضات
المدارس التقليدية للأمن خاصة البنائية والواقعية البنيوية، حيث تقوم نظرية
الأمننة على الأداة الوظيفية للخطاب في محاكاة لنظرية "الكلام" المفكر أوستن Austin الذي صنف
الأفعال المستندة إلى الخطاب Speech Acts إلى أفعال اللفظ Locutionary Act، وهو الخطاب الذي يخضع للتنقيح ويعبر عن معان خبرية، وكذلك أفعال
الأثر Perlocutionary Act، وهي الأفعال الناتجو عن تأثير الخطاب وقدرة صاحب الخطاب على
التأثير في المخاطبين، وأخيرا الأفعال الحقيقية Illocutionary Act، والتي تشير
إلى الأفعال التي تمت بالفعل بعد التأثر بقوة الخطاب وقدرة القائم به في التأثير
والتوجيه، أي تشير إلى قدرة الخطاب على الخروج بالفعل وإنتاجه.(36)
كما سعت مدرسة كوبنهاجن لتطوير مفهوم "الأمن البنيوي" في العلاقات الدولية،
حيث أصبح مفهوم الأمن يتضمن عدة فاعلين، وعدة قضايا ومجالات متفاوتة، حيث ركزت
مدرسة كوبنهاجن في هذا السياق على ثلاثة قطاعات، هي: القطاعات أو المجالات
الأمنيةSectoral approach، والمناطق الإقليمية المتشابکة أمنياًRegional security complex theory
(RSCT)، والموضوعات المؤمننةSecuritization theory .(37)
ثانياً- المدرسة
الفرنسية أو مدرسة باريس Paris School:
جوهر الأمننة لدى منظري هذه المدرسة هو عملية الصنع التي تمر من خلالها
إجراءات الأمننة، وما تنتجه من ممارسات لدى الجمهور، حيث تكون عملية "صنع الأمننة" هذه ضمن تقنيات الحكومة
خاصة في المجتمعات التي تنتشر
فيها "المعرفة الأمنية" بالمخاطر والتهديدات.(38)
وتتلاقى أفكار مدرسة كوبنهاجن مع أفكار هذه المدرسة فيما يتعلق بالتركيز
على عملية صنع الأمننة، ويتوقف نجاح عملية الصنع على قدرة الحكومة على أمننة أحدى
القضايا وتمكنها من صياغة خطاب يؤثر في أفعال الجمهور المستهدف.
وتتفق مدرسة كوبنهاجن مع المدرسة الباريسية في الدوافع الوجودية "الأنطولوجية" لعملية الأمننة، من حيث
وجود التهديد والخطر الوشيك الذي يكون دافعا لصياغة خطاب الأمننة، بينما تختلفان
معرفيا "ابستومولوجيا"، حيث تركز مدرسة كوبنهاجن على تسويق خطاب الأمننة، بينما تهتم المدرسة
الباريسية، بجانب الممارسة للسياسات الحكومية التي يتم أمننتها.(39)
وقد ظهر التركيز على جانب الممارسة لسياسات الحكومة التي يتم أمننتها، خاصة
بعد انهيار النظام الثنائي القطبية وانتصار الليبرالية Triumph of liberalism، وخفوت حدة أحد أكبر الصراعات الأيديولوجية في
العصر الحديث.
كما قدمت تجربة
أحداث 11 سبتمبر 2001، أحد أكثر النماذج الواضحة على التحول في اتجاهات الدراسات
الأمنية، حيث بدأ التركيز على فكرة الوكلاء Agencies المستهدفين بخطابات وسياسات الأمننة، بدلا من
التركيز على فكرة العدو الخارجي التقليدي Enemies outside the borders.(40)
ووفقاً للمدرسة الفرنسية، قد يلجأ الفاعلون إلى أمننة قضية ما داخل حدودها
أو خارجها ولعل أمننة سياسات الهجرة “the
securitisation of migration”، هو النموذج الأوضح في هذا الصدد، حيث تركز خطابات القادة والسياسيين إلى
الأن لما تثيره هذه القضية من تهديد للأمن القومي للدولة، ولما تمثله من خطر على
نسيجها الاجتماعي، فجوهر سياسات الأمننة وفقا لهذه المدرسة هي أحد أدوات الحكومة
لتوجيه الأفراد والجماعات والتحكم، بينما تركز هذه السياسات لدى مدرسة كوبنهاجن
على حث الجمهور المستهدف على القيام بتحركات أو ممارسات جديدة.(41)
ثالثاً- مدرسة أبيريستويث Aberystwyth School:
أرسى قواعد مدرسة أبيريستويث أو مدرسة ويلش Welsh School، المتخصصان في الدراسات الأمنية كين بوث Ken Booth وريتشارد
وين جونز Richard Wyn Jones في فترة التسعينات، وهي تمثل اتجاهات ما بعد الوضعية post-positivist approach، ويعتبر
مفهوم التحررية Emancipation، حيث
تستهدف هذه المدرسة للوصول إلى بناء نظري يستهدف البحث في طبيعة العالم وحقيقته،
من أجل تحقيق الأمن الإنساني the security of humanity.(42)
ويؤكد منظرو هذه النظرية أن تصورات القيادة السياسية لتحقيق الأمن يجب أن
تتحرر من التعصب القومي ونزعة السيادة القطرية، على الشكل الذي يؤدي لظهور مجتمع
إنساني يحتوي كل المجتمعات الإنسانية المختلفة.(43)
كما تفترض مدرسة أبيريستويث Aberystwyth School أن مفهوم الأمن مفهوم مشتق يختلف في محتواه وسماته عن غيره من
المفاهيم والافتراضات النظرية الأخرى، حيث يقوم تحقيق الأمن بشكل أساسي وفق هذه
المدرسة على مفهوم التحرر من القيود البشرية والمادية، فمتى توافرت الحرية تحقق
الأمن.(44)
من الناحية المعرفية "الأبستومولوجية"، فلقد أضافت مدرسة أبيريستويث على مفهوم الأمن
أبعادا غير تقليدية، تعتمد على سمات الحقائق والوقائع الاجتماعية التي تشكلت بفعل
التصورات الذاتية، وهو نفس المنطق الذي تنبثق منه رؤية الوضعيين.(45)
ويتفق أنصار هذه النظرية على أن الأمن والتحرر ضروريان ويكمل بعضهمها
البعض، إذ أن أمن الجماعة الدولية متوقف على تحقيق الأمن العالمي، وهذه الأخير لا
يتحقق إلا من خلال التحرر من القيود، وذلك بتحقيق المساواة والعدالة، والالتزام
بحقوق الإنسان.(46)
وبسبب تبنيها وانحيازها لمفهوم التحرر المرتبط ببعض الافتراضات الواقعية،
فقد يطلق البعض على هذه المدرسة الواقعية التحررية Emancipatory realism، رغم وجود اختلافات يراها
البعض جوهرية خاصة فيما يتعلق بـ"ماهية الأمن"(47)، إذ أن جوهر الخلاف بين
المدرستين بشأن مفهوم الأمن يتخلص في عدم اتفاقهم على ماهية الفاعل الأمني الرئيسي
"security agent"(48)، حيث يؤكد أنصار مدرسة
أبيريستويث أن الفاعل الأمني في الأفراد خاصة النخبة المثقفة Individuals, specifically
intellectuals، بينما لا يضع أنصار الاتجاه النقدي أي فاصل بين الفاعل والقائمين
بعملية التحليل.(49)
والأمن العالمي وفق مدرسة أبيريستويث يمكن تحقيقه بالاتصال
بين الأمن داخل الدولة أو النظم السياسية وبين النظام الدولي بسماته الفوضوية، إذ
أن اللبنة الرئيسية في بنية الأمن العالمي، هي الأمن الفردي، كما أن هذه الأمن
الفردي يمكن أن يتحقق في المجتمعات المتحضرة civilised human، إذا توافرت
البيئة المناسبة في المجتمع من خلال إدراك الأفراد في ذلك المجتمع بضرورة عدم وقوع
الضرر المتبادل mutual harm، ومن هذه المرحلة يمكن أن يتحق السلم والأمن العالمي.(50)
رابعاً- مفاهيم ومبادئ نظرية
الأمننة Securitization.
1- الجمهور المستهدفAudience :
يعتبر الجمهور
المستهدف أو الجمهور المخاطب من أهم المفاهيم التي تقوم عليها افتراضات نظرية
الأمننة، ولكن لا يزال هذا المفهوم به بعض الغموض، وهو ما أكده العديد من رواد هذه
النظرية وفي مقدمتهم باري بوزان الذي أكد: "إنه ليس بمقدورنا نعت قضية ما
بالأمننة لم يستقبلها الجمهور المستهدف على أنها موضوع مؤمنن، ومن المدهش على
الرغم من حيوية هذا المفهوم، بيد إنه من المفاهيم التى لم تلق حظها الکافي من
التطوير والعناية، وأن لم يکن أقلها على الإطلاق من بين المفردات الأساسية التي
ترتکز عليها نظريات الأمننة".(51)
كما حاول ويليامز Williams جاهداً على البحث عن حقيقة أهمية هذا المفهوم في أدبيات نظرية
الأمننة خاصة ما يتعلق بمساهمات مدرسة كوبنهاجن، وانتهى إلى أن مفهوم الجمهور
المستهدف "تم تركه تحت التطوير في أدبيات مدرسة كوبنهاجن " the concept of audience has been left
radically underdeveloped
"، كما اعترف ويفر Waever كأحد أهم رموز هذه المدرسة، بأن:
"مفهوم الجمهور المستهدف لا يزال يحتاج إلى مزيد من التوضيح بسبب الاختلافات
التي تشوبه the term
‘audience’ requires a better definition and probably differentiation"".(52)
2- توازنات
القوى:
تعكس توازنات القوى وفق نظرية الأمننة طبيعة
العلاقة بين الفاعل الرئيسي والجمهور المستهدف، لأن طبيعة هذه العلاقة تحدد
التحركات التي تتم في إطار Securitizing
move، إذ
يؤكد يؤكد ويليامز Williams أن هذه التحركات كون ناتجة عن اختلاف قدرات
الفاعلين المختلفين حسب خطابات عملية الأمننة إزاء قضية معينة، بل وأكد أيضا أن
خطابات الأمننة يكون لها آثارا اجتماعية في الواقع.(53)
بل إن بازلاك Balzacq ذهب إلى أن نسبة رفض أو قبول الجمهور المخاطب لعملية الأمننة،
تتوقف بدرجة كبيرة على خطاب الأمننة الذي يصيغه الفاعل الأمني أو صانع القرار، كما
اعتبر ذلك تعبيرا عن المفهوم الأكثر شمولات لتوازنات وعلاقات القوى بين أطراف
عملية الأمننة.(54)
3-المحتوى Context
دائماً ما يكون محتوى الخطاب هو العامل الحاسم
والمفسر للتحركات التي تشملها عملية الأمننة securitizing moves، إذ أن خصائص محتوى الخطاب ببعديها الأنطولوجي "الوجودي
"والأبستومولوجي "المعرفي"(55) هي المسؤولة عن الدوافع
التي تحرك مشاعر الجمهور المخاطب، لذلك يعتمد كثير من المنظرين على فعالية مضمون
الخطاب الأمني وكذلك فعالية تحقيق أهدافه.(56)
وتتعلق الأبعاد الأنطولوجية لخطاب الأمننة في
بنية ومحتوى الخطاب الأمني، بينما تتعلق الأبعاد الأبستمولوجية بأسباب نجاح أو فشل
الخطاب الأمني في تحقيق أهدافه في إطار عملية الأمننة.(57)
وقد ركز بوزان BUZAN وعدد
من منظري الأمننة على طبقات المحتوى layers
of the context، حيث
قاموا في هذا الصدد بالتفرقة بين معيارين للمحتوى الأنطولوجي للخطاب، أولهما هو
معيار القطاعات المتطابقة synonymous
with sectors، أي
تصنيف الخطابات إلى قطاعات متخصصة؛ عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وثانيهما
هو معيار الظروف التاريخية المرتبطة بالتهديدات conditions historically associated with the
threat.
وقد بنى بالزاك Balzacq تصوره بشأن هذا المعيار على افتراضات ويزريل Wetherell وسكيجلوف Schegloff،
ووضع سياقين للمحتوى الأمني، هما؛ السياقين الداخلي أو الخارجي A proximate context and distal context،
ويتضمن السياق الداخلي الخصائص الآنية للتفاعل بين مفردات الخطاب the immediate features of the interaction، لتهيئة المستهدفين للقيام بفعل معين
کالتمجهر أو الاجتماع أو الاصطفاف بشأن أمر ما وغير ذلك من الأمور، بينما يعبر السياق الخارجي للخطاب عن البناء
الاجتماعي والثقافي الكلي الذي يسوق الطبقة المستهدفة إلى الممارسة المؤمننة،
ويتضمن مفردات على شاکلة الطبقة الاجتماعية أو الترکيبة العرقية للأفراد
المستهدفين والمواقع والمؤسسات التي تقع في حيز الخطاب المستهدف، والنُطُق
الثقافية والإقليمية والأيکولوجية.(58)
شروط فعالية
الأمننة:
1- التهديد الوجودي:
حدد بوازان وويفر (Buzan, Weaver) خطوات الأمننة
الناجحة في خطوات عدة، رئيسية
تتخلص أهمها كالتالي(59):
1- ظهور قضية ترقى إلى مستوى الخطر الوجوديExistential Threats، وهي الخطوة التي تتضمن خطوات فرعية منها إدراك
الفاعل الرئيسي لمستوى وإدراجه ضمن عمليات الأمننة، ومن ثم القدرة على صياغة خطاب
يكون قادراً من خلاله على تصوير الخطر الجسيم للجماهير المستقبلة إلى تهديد وجودي،
وكذلك تهيئة العوامل المناسبة واتخاذ الإجراءات المناسبة والمحفزة لاستقبال
الجمهور للقضية التي تمثل تهديداً رئيسياً أو وجودياً.
2-
البدء في إجراءات الطوارئ Emergency Action من
خلال اتخاذ كل الأساليب والوسائل الكفيلة بإضفاء الشرعية على كل الأساليب
الاستثنائية وغير التقليدية المستخدمة في التعامل مع التهديد أو الخطر.
3-
التحرر من القواعد breaking free of rules من خلال التأثير على العلاقات بين الوحدات الرئيسية لعملية الأمننة،
وذلك من أجل إتاحة الفرصة لتطبيق الأساليب الاستثنائية في التعامل مع التهديد أو
الخطر.
2-الشرعية
الأخلاقية:
سجل البعض شروطاً
لفعالية سياسات الأمننة، إذ تؤكد ريتا فلويد Rita Floyd(60)
أن صحة هذه العملية أو خطأها الأخلاقي يعتمد على عواقبها، وقد حدد عدة شروط لتوافر
ما أسمته "الأمننة الصحيحة أخلاقيا"(61):
1)
إدراك التهديد أو القضية المؤمننة، أي أن تكون
عملية الأمننة معنية بالضرورة بتهديد موضوعي على نحو يهدد بقاء النظام، سواء كان
هناك إدراك بهذا أم لا.
2)
أن يكون الكيان المعني بالأمن كيانا يحظى
بالشرعية الأخلاقية وهي الحالة التي يستطيع فيها أن يوفر رفاهة إنسانية قادرة على
إرضاء حاجات الإنسان.
3)
أن يكون الرد الأمني على التهديد متناسبًا مع
قدرات المهدد، وأن يكون الفاعل الأمني مخلصًا في نواياه.
3- توافر المجال العام(62):
يمثل المجال العام لعملية الأمننة أهمية بالغة باعتباره
المساحة التي تحتوي أفكار الفاعلين الاجتماعيين دون تدخل الدولة وبعيدا عن سلطتها،
إذ تكون أحد أهم وظائف الأمننة هو تقليص هذه المساحة بين الأفكار، فالديموقراطية
نفسها لا يمكن تصورها دون توافر مجال عام فعال، وفي إطار فكرة المجال العام، يمكن
أن تقوم عملية الأمننة بدورها من خلال تحديد أجندة النقاش والتركيز عليها إزاء
قضية معينة باعتبارها تمثل خطرا وجوديا على المجتمع أو هويته.(63)
ومثل هذه التهديدات العالمية تخرج عن حدود سيطرة الدول
القومية، بل وقد تكون أحد امتدادتها، لذا فهي تتطلب طرحا عالميا لمعالجتها، خاصة
في ظل ندرة الثروات وما تخلفه من مشاكل في توزيعها على الصعيد العالمي.
ومن جهة أخرى يقدم "دافيد هيلد David Held"، فرضيات رئيسية حول
العولمة وقضايا الأمن، بل ويعتبرها أساسا لمراجعة قضايا الأمن، من أهمها، أن
انتشار التقنيات العسكرية وبزوغ مفهوم الثورة في الشؤون العسكرية، بل إن البعض
اعتبر أن العالم يمارس ثورة جديدة في التكنولوجيا العسكرية، في ضوء قدرة تقنيات
المعلومات على تحويل القدرات العسكرية الموجودة وإدارة الحروب والقدرة على إظهار
القوة العسكرية من مسافات بعيدة بدقة كبيرة.(64)
المبحث الثاني- المخاطر والتهديدات الجديدة
إن البحث في قضايا الأمن والتهديدات الأمنية، يستدعي التطرق لبعض المفاهيم
الأساسية التي سيتم استخدامها، ومن بينها مفهوم التهديد (Threat) والخطر(Risk)، خاصة وأن معرفة تصنيفات التهديد الأمني تُساهم في تحديده واستكشافه بدقة.
المطلب الأول- تعريف التهديد الأمني:
كلمة “تهديد” مشتقة من من لفظ “هدد”، وتعني محاولة إلحاق الضرر بشيء بهدف الإخلال بالأمن، ويشار إليه في اللغة الانجليزية “Threat” وبالألمانية “Drohung” أو “Budrohung” وبالفرنسية “Menace”، ويُعبر التهديد عن وجود نية لإيذاء أو معاقبة أو إلحاق ضرر من خلال عمل عدائي على شخص معين.(65)
ولقد ورد في قاموس “أكسفورد” Oxford على أن التهديد هو: “محاولة شخص أو شيء الإضرار بحياة الآخرين” مثل كل ما يهدد حياة الحيوانات والناس.(66)
كذلك لفظ التهديد له دلالة أخرى، فالتهديدات التي كانت تتعرض لها الدول
سابقا، كانت ضمن الإطار العسكري الضيق ذات البعد الخارجي، لكن مع تعقد مفاهيم الأمن وفق
التحولات الهيكلية في العلاقات الدولية بعد الحرب الباردة (The Cold
War) جعلت التهديدات تشمل تهديدات اقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية، لها علاقة بالتطورات المحلية داخل الدولة، وهو ما أدى إلى تعدد مستوياته.(67)
ووفقاً لـ“تيري ديبيل Terry L. Debel” فالتهديد: “عمل تقوم به دولة معينة للتأثير في سلوك دولة أخرى، ويشترط في نجاحه توفر عدة عوامل أبرزها المصداقية والجدية والقدرات التي تتناسب مع التهديد، وهناك ثلاث سمات يتميز بها التهديد، وهي: درجة الخطورة ومدى احتمالية وقوع التهديد وعنصر التوقيت.(68)
أما باري بوزان فقد عرف التهديد على أنه:”تهديد لمؤسسات الدولة باستخدام الإيديولوجيا أو استخدام مكونات القدرة للدولة ضد دولة أخرى، حيث يمكن أن يكون إقليم الدولة مهدداً بضرر أوغزو أو احتلال، ويمكن أن تأتي التهديدات من الخارج أو من الداخل، ويعتقد باري بوزان أن الدول القوية عادةً ما تتعرض للتهديدات خارجية عكس الدول الضعيفة التي تتعرض للتهديدات من الداخل والخارج".(69)
وعلى ذلك تؤثر بيئة الواقع ومستجداتها ومتغيراتها على طبيعة التهديد، وهو ما يجعل مفهوم التهديد يتسم
بالحركية والمرونة، حيث تتعدد مستويات التهديد من الفرد إلى الجماعة ثم الدولة أو الإقليم وغيرها، كما تتنوع مصادره من داخل إلى خارجها، وكذلك تتعدد
مسبباته وأنواعه بما يجعله مفهوم مركب ومُعقد، يتداخل ويتفاعل التهديد في البيئة الراهنة مع عدة تهديدات أخرى.
المطلب الثاني- أنماط التهديدات الأمنية:
تعدد الخلط والتداخل في
استعمال مفهومي ”التحدي” و”الخطر”، حيث يتم استخدامهما كمرادفات للتهديد الأمني، ولكن وفي إطار
الدراسة يمكن التفرقة بين نوعين من التهديدات:
1)
التهديدات التماثلية Symmetrical Threat: يطلق على النمط التقليدي للتهديدات الذي تتميز بالطابع البيني والعسكري وتتشابه في الفواعل من حيث الخصائص كالتهديد العسكري الذي يكون بين دولة “أ” ودولة “ب”، مثل: التهديدات المتبادلة بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية باستخدام القوة بينهما.(70)
2)
التهديدات اللاتماثلية Asymmetrical Threat: هي تلك التهديدات التي تُبنى على فكرة الغموض وعدم إمكانية تحديد ماهية العدو، إذ تكون بين أطراف غير متكافئة من حيث القوة، ويشمل هذا النوع من التهديدات الجريمة الاقتصادية والمتاجرة بالأسلحة والإرهاب العابر للحدود، والجريمة المنظمة والنزاعات الداخلية، وما يصحبها من انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، والإبادة الجماعية التي تجد لها مكاناً مثالياً في الدول الفاشلة (Failed States)، ولقد برزت نتيجة للتغير المهم في هيكلة المخاطر الأمنية من النمط التماثلي (باعتبار تماثل أطرافها) إلى “النمط اللاتماثلي” (بالنظر إلى لا تناظر طبيعة أطرافها) تزامناً مع التحولات والتغيرات الحاصلة في النظام العالمي.(71)
المطلب الثالث- التهديدات الأمنية الحديثة:
حددت الأمم المتحدة التهديدات الجديدة بأنها أكبر تحديات عبر قومية تواجه السلام والأمن وتملك القدرة على التغلغل عبر الحدود الوطنية وتؤثر في نهاية المطاف على المجتمع الدولي ككل.(72)
وقد حددت الأمم المتحدة الإرهاب كأول هذه التهديدات وأهمها، مؤكدة أنه يحد من حرية التنقل وفرص الوصول للعمل والحصول على التعليم، كما يؤدي إلى تدهور نوعية الحياة ويهدد الحقوق الأساسية للمواطنين، بما في ذلك الحق في الحياة والأمن، بالإضافة إلى أنه يقوض التنمية الاقتصادية والاجتماعية.(73)
ثاني
التهديدات التي حددتها الأمم المتحدة، هي الجريمة المنظمة عبر الوطنية، والتي
اعتبرت المنظمة الدولية أنها تهدد الأمن والسلام وكذلك تقوض التنمية الاقتصادية
والاجتماعية للمجتمعات في أنحاء العالم، وقد شددت الجمعية العامة للأمم المتحدة
ومؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة غبر الوطنية
والبروتوكولات الملحقة بها على الأثر السلبي للجريمة المنظمة عبر الوطنية على حقوق
الإنسان وسيادة القانون، وفي هذا السياق يعد التعاون الدولي القائم على مبادئ
المسؤولية المشتركة وفقا للقانون الدولي أمرا أساسيا لتفكيك الشبكات غير المشروعة
بما في ذلك الاتجار بالمخدارت والاتجار بالأشخاص.(74)
أعمال القرصنة أيضا كانت أيضا من بين التهديدات عبر الوطنية التي حددتها الأمم المتحدة من خلال تعريضها للأمن البحري وأمن الملاحة والتجارة للخطر، بما في ذلك أيضا منع المساعدات الإنسانية وتقويض سيادة القانون، وفي هذا السياق أشارت الأمم المتحدة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحر عام 1982 والتي تمثل الإطار العام لقمح القرصنة بموجب القانون الدولي.(75)
وخلال
مؤتمر ميونخ للأمن والذي انعقد في فبراير 2022 في خضم العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا،
اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو جوتيريش António Guterres"، أن تهديد الأمن
العالمي أصبح أكثر تعقيدا ربما بشكل أكثر خطورة مما كان عليه خلال الحرب الباردة.(76)
وقد
حدد الأمين العام خمسة أسباب لأن تكون المخاطر العالمية أكثر تعقيدا، خاصة وأن
كلمته كانت أمام مؤتمر ميونخ الذي انعقد حينها لأول مرة منذ ثلاث سنوات بسبب مخاطر
جائحة كورونا.(77)
أول
الأسباب التي أوردها الأمين العام للأمم المتحدة هو استمرار "الانقسامات الجيوسياسية Geopolitical Divides"، وأكد "جوتيريش Guterres" أن هذه الانقسامات تخلق
بيئة دولية فوضوية بل وتؤدي إلى شل مجلس الأمن.
جوتيريش
استفاض خلال مؤتمر ميونخ في شرح تعقيد التهديدات الأمنية الحالية، حيث أوضح أن
خلال فترة الحرب الباردة ورغم التهديدات التي كانت قائمة، إلا أنه كان هناك آليات
مكنت أطراف المجتمع الدولي من حساب المخاطر واستخدام قنوات بديلة بمنع الأزمات،
على عكس ما تفرضه بيئة التهديدات اليوم والتي قد تدعل حادثا بسيطا بين الدول يخرج
عن السيطرة بسبب سوء التواصل والتقدير بل ويتسبب في أضرار ومخاطر لا تحصى.(78)
وقد
اعتبر جوتيريش في كلمته أمام المؤتمر أن الأزمة الروسية – الأوكرانية هي تجسيد
لتطور "الانقسامات الجيوسياسية Geopolitical Divides" إلى صراع عسكري، مطالبا بضرورة إدارة هذه
الانقسامات ضمن ما أطلق عليه "جدول الأعمال الجديد للسلام The New Agenda for Peace"، وهو الجدول الذي تم اقتراحه في تقرير الأمين العام بشأن
تحقيق استجابات أمنية جماعية أكثر فعالية.(79)
ثاني
الأسباب التي حددها الأمين العام للأمم المتحدة وتمثل مخاطر عالمية معقدة هي
النزاعات التي تشارك فيها قوى إقليمية وعالمية، وقد تؤدي إلى حروب أهلية كما يحدث
في اليمن وليبيا، حيث أكد أن جهات فاعلة متعددة تتدخل في هذه النزاعات في تحالفات
فضفاضة وسريعة التغير بأجندات مختلفة تجعل هذه النزاعات تؤثر على السلم والأمن
الدوليين.
ثالث
التهديدات وفقا جدول الأعمال الجديد للسلام The New Agenda for Peace" الذي طرحه جوتيريش، كان تهديد الإرهاب العالمي، وقدرة
تنظيمات مثل "داعش ISIS" والقاعدة والجماعات التابعة لها على الانتشار في بعض
الدول بل وقدرتهم أحيانا على استغلال فراغ السلطة وتخريب الدول الهشة.
كما
حدد الأمين العام للمنظمة الدولية ما وصفها بـ"التهديدات الأمنية غير
التقليديةNon-Traditional Security Threats"، وعلى رأسها يأتي مخاطر تغيرات المناخ ووباء جائحة
كورونا COVID-19، حيث يؤدي التمييز والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
إلى خسائر فادحة وتخلق مخاطجر حادة من العنف والصراع.
وقد
أدت سلط جوتيريش الضوء على جائحة COVID-19 كدليل على عدم كفاءة النظام المالي العالمي مما أدى إلى زيادة عدم المساواة المنهجية بين الشمال والجنوب
المبحث الثالث-
فعالية سياسات الأمننة في مواجهة المخاطر الجديدة
كيف
يمكن اعتبار مفهوم الأمن بناء اجتماعيا وفق مفاهيم نظرية مجتمع المخاطر العالمي،
وهو ما يتلاقى مع أفكار وافتراضات نظرية الأمننة، التي تعتبر الأبعاد الاجتماعية
مثل الهوية والثقافة عوامل رئيسية لتحقيق الأمن إزاء المخاطر والتهديدات الوجودية.
المطلب
الأول- الأمننة والبنية الاجتماعية:
ووفقا
لـ“ويفير” فإن القضية الاجتماعية يمكن
أن تصبح رهانا أمنيا له علاقة وثيقة بالفاعليين الاجتماعيين، لاسيما وأن قوة الخطاب وصيغته ومضمونه
تتحكم في مدى القدرة على تقديم رهان اجتماعي يتعلق ضمنيا أو صراحة بالأمن، وبالتالي يكون هناك معالجة استثنائية مقارنة بالرهانات الاجتماعية التي تبقى خاضعة لعمليات سياسية روتينية، وبالتالي فإن الأمن وفقا لمنظري
مدرسة كوبنهاجن ليس موضوعيا، وإنما بناء اجتماعي يكون فيه للنخب تأثير واضح على محيطها الاجتماعي
والسياسي كما أكد بوزان.(80)
والأمن المجتمعي يمكن اعتباره بأنه قدرة المجتمع وإطاره النظامي الدولة على مواجهة كافة التهديدات الداخلية والخارجية بما يؤدي إلى محافظته على كيانه هويته وإقليمه وموارده وتماسكه وتصوره وحرية إرادته، وهذا المفهوم (الأمن) لا يتعلق بحالة معينة لنخبة أو طبقة أو جماعة عرقية أو لغوية مسيطرة على صناعة القرار وإنما يتعلق بكل المجتمع الذي إطاره النظامي الدولة والتي يمارس من خلالها هذا المفهوم، ومن ثم يتطلب تعاون مشترك للمجتمعات لإدراك مصادر المخاطر وطبيعتها وأهدافها.(81)
وهذا المفهوم هو مفهوم لأمن مركب، يحتوي على العديد من المتغيرات التي تتفاعل مع بعضها البعض، فنجد المتغيرات العسكرية الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية والثقافية، فالمتغيرات الاقتصادية تحتل أهمية خاصة في هذا المفهوم وتؤدي صدر المتغيرات المستقلة والظاهرة السياسية بعناصرها وتطبيقها دور المتغيرات التابعة.(82)
ثانياً- الأمن المجتمعي:
تناولت
الدراسة في الفصل الأول، كيف ارتبط الأمن تقليديا بمفهوم الأمن وحالة الطبيعة،
وترى مدرسة “كوبنهاجن” أن أحد أكبر أسباب غياب الأمن المجتمعي، يتمثل في المعضلة الأمنية المجتمعية وأن التعريف الاساسي للمشكلة الأمنية شيء يمكن أن يقوض النظام السياسي داخل الدولة، وبالتالي “تغيير الأماكن لجميع المسائل الأخرى”.كما يبين بوزان، محاولة تعميق الأمن في موضوع كـا “التحرر من التهديد” سواء بصورة موضوعية وذاتية، فعندما تقوم مجموعة ما بمحاولة زيادة أمنها المجتمعي، تتسبب في رد فعل في الجماعة الثانية، بحيث هذا الأخير ينقص من الأمن المجتمعي للجماعة الأولى، وهذا ما يُحدث المعضلة، وينتج سلوكا شبه إبادي تجاه الجماعات الاخرى.(83)
وترتبط
مفهوم الأمن المجتمعي بشكل كبير بالأمننة، إذ أن عمليات الأمننة لا تكتفي فقط
بموافقة الجمهور أو رضاه، بل يتجاوزه إلى إشراكه في الدفاع عن هويته المتصورة،
وبالتالي يصبح الناس أدوات في الصراع الذي يعود بالمجتمع إلى حالة الطبيعة الأولى.(84)
ربما
يمثل ما سبق حالة نظرية لتداعيات الأمننة على مفهوم السياسة والسيادة والصراع
الاجتماعي، ولكن تحقق حالات الاستثناء تاريخيًّا يعني أن هناك إمكانات بشرية
لإخراجها من نصوص النظرية إلى أرض الواقع، وربما كانت الحالة النازية في ألمانيا
هي لحظة نموذجية لفكرة الأمننة المطلقة، وقد استطاعت الأصولية الدينية أن تنشأ
دولة على نفس النمط الذي يتبنى السياسة باعتبارها دفاع وجودي عن الدين يستلزم شن
حرب على الآخر وهو نموذج تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش". وهناك حالة أكثر واقعية
تمر بها أغلب الدول على اختلاف حظها من سيادة القانون والمؤسسات الديموقراطية، وهي
حالة أمننة المجال العام.(85)
ثالثاً- الوظيفة المجتمعية لمفهوم الأمن:
وتحت منظور علم الاجتماع، تقدم النظرية الوظيفية نظرة ثاقبة للأمن القومي كظاهرة اجتماعية، فوفقا لرائد الأعمال المبكرة إميل دوركهايم، وآخرين غيره مثل هربرت سبنسر، وتالكوت بارسونز، وروبرت ك.ميرتون، فإن العامل الوظيفي هو نظرية أو منظور اجتماعي كلي يفترض أن المجتمع هو أكثر من مجموع أجزائه ؛ بدلاً من ذلك، يعمل كل جانب من جوانبها على استقرار.(86)
ترتبط نظرية الأمن تعاملها مع المخاطر والتهديدات بشكل كبير بوجهات نظر
النظرية أو المدرسة الوظيفية بشكل كبير، والتي تعطي أولوية لأهمية الأجزاء المختلفة من المجتمع بشكل أساسي ممثلة في المؤسسات اجتماعية، حيث تعتبر أن هذه
المؤسسات أو الوحدات مصمم لتلبية الاحتياجات المختلفة، فالأسرة والحكومة والاقتصاد والإعلام والتعليم والدين كلها عناصر مهمة لفهم هذه المؤسسات الأساسية التي تحدد علم الاجتماع. وفقًا للوظيفة، توجد مؤسسة فقط لأنها تؤدي دورًا حيويًا في عمل المجتمع. إذا لم يعد يؤدي دورًا، فستتلاشى المؤسسة. عندما تتطور أو تظهر احتياجات جديدة، سيتم إنشاء مؤسسات جديدة لتلبيتها.(87)
على سبيل المثال، الأسرة باعتبارها واحدة من المؤسسات الاجتماعية الرئيسية والأولى موجودة على الدوام كنواة المجتمع تلعب دورا حيويا حاسما لبقاء جميع المجتمعات البشرية. لن يموت ابدا تتطور احتياجاتها بسبب التغيير الاجتماعي أو ديناميكية المجتمع.
وكجزء من مساهمته الكلاسيكية التي لا تزال تلقى صدى في المجتمع المعاصر، قدم عالم الاجتماع روبرت ك.ميرتون في 1949 نوعين من الوظائف التي تخدمها الظواهر الاجتماعية في المجتمع ولها عامل رئيسي في استراره، وهما الوظيفة الواضحة والوظيفة الكامنة.(88)
تشير الوظيفة المجتمعية الواضحة إلى الوظيفة المقصودة للسياسات أو الظواهر أو العمليات أو الإجراءات الاجتماعية المصممة بوعي وعمد لتكون مفيدة في تأثيرها على المجتمع، وهي هنا تتلاق مع أهداف عملية الأمننة بشكل
كبير، في حين أن الوظيفة الكامنة ليست مقصودة بوعي، وقد تكون مفيدة للمجتمع كما قد تكون ضارة، فعلى سبيل المثال، تتمثل الوظيفة الواضحة للالتحاق بالجامعة في الحصول على التعليم من أجل وضع أفضل في المجتمع. وبنفس الطريقة يوفر التعليم الجامعي أيضًا وسيلة للزواج يُنظر إليه على أنه وظيفة كامنة غير ضارة بالمجتمع. من ناحية أخرى، عندما تضر الوظيفة الكامنة بالمجتمع، فإنها تصبح مختلة. تعتبر الاختلالات الكامنة مصدر قلق أكبر نظرًا لكونها غير معروفة ولا يمكن التنبؤ بها، فإنها تميل إلى تحمل المزيد من الضرر للمجتمع الذي لا يمكن إصلاحه في كثير من الأحيان.(89)
المطلب الثاني- الهوية والمخاطرة
والانكشاف من منظور الأمننة.
أولاً- الهوية:
انطلقت مدرسة كوبنهاجن في دراستها لمفهوم الأمن المجتمعي من إعادة صياغة مفهوم المجتمع، إذ يعتبر أوليه ويفر أن المجتمع هو مجموع الأفكار والممارسات التي تحدد هوية الأفراد كأعضاء في منظومة اجتماعية.(90)
ويتعلق الأمن المجتمعي أو الأمن الاجتماعي بقدرة المجتمعات على إعادة استنتاج أنماط خصوصياتها في اللغة خاصة مع يتعلق بالثقافة، والهوية وفق تصور مقبول في موجهة الانكشاف حيث ظهر هذا في إسهامات مدرسة كوبنهاجن التي وضحت كيف تصير قضية ما مشكلة أمنية (Securitization).(91)
ويؤكد منظروا مدرسة كوبنهاجن، أن الأمن المجتمعي يمكن أن يفهم على أنه أمن
للهوية، إذ تكون القضية الرئيسية هنا هي ولاءات القطاع المجتمعي كأن تكون ممثلة في
ولاءات القبائل والعشار والأمم والحضارة والدين والعرق، بل إن القدرة على إدراك
التهديدات مرتبطة بقوة هذه الولاءات وقدرتها على التعبير عن هويتها وخلق حجة
اجتماعية.(92)
وترتبط الهوية ارتباطا وثيقا بالأمن كأحد أهم شروط استقرار المجتمع، خاصة
بالنظر على أحد تعريفاتها للأمن على أنه: "يتوقف الأمن بدرجة كبيرة على المواقف التي تدرك
فيها المجتمعات تهديدا من منظور الهوية"، كما تعتبر الهوية من هذا المنطلق محددا رئيسيا
لتحديد أولوية الأمن إزاء بعض القضايا دون غيرها.(93)
ومن أهم ما قدمت نظرية الأمننة هو مفهوم "الأمن المجتمعي" الذي يعبر عن تطبيق فكرة
الأمن كتهديد وجودي على المجتمع باعتباره كيانا للتعايش بين الأفراد، وفيه تعتبر
النخبة أو الفاعلون الرئيسيون المجتمع كصاحب هوية محددة، وربما تضطر إلى صياغة
خطاب يعتبر أن هذا المجتمع معرض للخطر من قبل أعداء محتملين، قد يكونوا من بين
صفوف المجتمع نفسه، وبالتالي ينقلب التعايش في المجتمع إلى صراع على أساس الهوية، ويصبح
الصراع على الهوية هو أساس السياسة.(94)
ووفقاً لذلك يمكن توضيح ماهية الهوية بمزيد من التفصيل، على أنها وسيلة لتحقيق الاستقرار في توقعات الجمهور المستهدف
إزاء قضية وجودية، وهنا تشير الهوية إلى
أنها تمثل نقطة مرجعية مشتركة للتوقعات الناشئة عن نظام اجتماعي واحد، وهو ما جعل
مفهوم الهوية، أحد المفاهيم الرئيسية لتحقيق الأمن المجتمعي وفق نظرية الأمننة،
فعلى سبيل المثال، يمكن أن تكون "الهوية الوطنية National Identitiy"، نقطة مرجعية رئيسية
يعتمد عليها الخطاب الأمني للفاعلين إزاء قضية تمثل وفقاً لهذا الخطاب خطراً
وتهديداً وجودياً.
وعند تناول الهوية من منظور أمني، فإن "الاتصالات Communications تلعب دورا
رئيسيا وفقا لنظرية الأمننة، لأن خطاب الفعالين الرئيسيين إزاء قضية ما على أنها "أمنية" يتوقف بدرجة كبيرة على
مستوى ودرجة الاتصال بين الفاعلين والجمهور، لأن هذا المستوى وهذه الدرجة تتحكمان
في توجيه توقعات الجمهور المستهدف وتشكيل هويتهم.(95)
ولعل العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا في فبراير 2022، تقدم نموذجا واضحا لثنائية الدولة والمجتمع، ففي حين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الهدف من العملية العسكرية هو حماية أمن روسيا ومصالحها من خلال القضاء على ما وصفهم بالقوميين والنازيين الجدد، فقد مثل ذلك تهديدا صريحا لهوية المجتمع الأوكرانية خاصة مع استخدام روسيا مصطلح الناطقون بالروسية.(96)
ولقد تحدث بوزان BUZAN عن أولوية الهوية للمجتمع من خلال مفهومه للأمن المجتمعي خاصة في كتابه "الدولة، الشعب والخوف"، حيث قدم الهوية كأحد القطاعات الخمس للأمن إلى جانب الأمن العسكري، والسياسي، والاقتصادي والبيئي.(97)
في هذا السياق يشير الأمن المجتمعي وفقا لبوزان إلى قدرة المجتمع على الاستمرارية في طابعه الأساسي في ظل الظروف المتغيرة، والتهديدات المحتملة أو الفعلية. وبشكل أكثر تحديدا حول الاستدامة ضمن شروط مقبولة لتطور الأنماط التقليدية للغة، الثقافة والانتماء والدين والهوية الوطنية.(98)
وقد قدم ويفر مفهوما للأمن المجتمعي ضمن "الهوية، الهجرة والأجندة الأمنية في أوروبا" من خلال فكرة ازدواجية أمن الدولة وأمن المجتمع، حيث يبقى الأمن المجتمعي كقطاع لأمن الدولة ولكنه في نفس الوقت يصبح موضوع مرجع مستقل بذاته. فاذا كان تركيز أمن الدولة على سيادهتا كقيمة جوهرية فإن الأمن المجتمعي يركز أساسا على الهوية.(99)
هذا التطور يوضح البروز المتزايد للأمن المجتمعي وهي الحالة التي تشعر فيها مجموعات كبيرة داخل المجتمع بأن هويتها محل تهديد من جراء الهجرة، التكامل، أو الاستعمار الثقافي، ويحاولون الدفاع عن أنفسهم. وبتعبير باري بيوزان يظهر جراء هذا التهديد ما يعرف "بالمعضلة الأمنية المجتمعية".(100)
ووفقاً لبوزان فإن تحقيق الأمن لاعتبارات اجتماعية يجب أن تأخذ في الاعتبار
عنصرا لتمايز، فحتى تحليل العمليات الجارية في إطار المجتمع العالمي يقتضي
الاعتراف بطابع هذا المجتمع باعتباره متمايزا إلى أنظمة فرعية وظيفية، مع حالة تطورية متغيرة بشكل فردي.(101)
وفي تحليل الأنظمة الحديثة، تبقى المعضلة الأمنية القضية الأكثر جدلا في الدراسات الأمنية، يتم استيعاب تداعيات "المعضلة الأمنية" عن طريق تقسيم المجتمع العالمي إلى العديد من الأنظمة الاجتماعية المتطورة نسبيا، إذ يكون الأمن
مربوطا بكل هذه الأنظمة وليس بأحد هذه الأنظمة على وجه الخصوص.(102)
ثانياً- المخاطرة والانكشاف:
تتعامل نظرية الأمننة مع مفاهيم التهديد والخطر بشكل أساسي ضمن عملياتها،
وهو ما يستدعي التعرض لمفاهيم الخطر والمخاطر والمخاطرة، وفق النظرية الاجتماعية،
والتي تتعامل مع مفهومي الخطر والمخاطرة، باعتبارهما محددين رئيسيين على وقوع
تهديد.
إذ أن تفسير الأمن من خلال الخطر والمخاطرة يعني الاعتماد على الطابع
الإجرائي للأمن في التعامل مع المخاطر، فالأمن ليس متعلقا بالقضاء على المخاطر كما
أنه ليس مضادا لها، ولكنه معني بتمكين النظام من معالجة المخاطر بنجاح.(103)
ووفقاً للومان Luhmann فإن مفهوم المخاطرة يشير إلى "حالة معقدة تعتبر جانبا
طبيعيا من جوانب الحياة في المجتمع الحديث"، كما يؤكد أن المخاطرة والخطر يتعلقان بتوقع
خسارة مستقبلية محتملة، وقد تكون هذه الخسارة نتيجة قرار تم اتخاذه من قبل النظام،
وهو ما يثير جدلا بشأن كيفية ارتباط هذه المفاهيم بالأمن، إذ أن زيادة المخاطر أو
الخطر وفق تصور الفاعلين إزاء القضايا التي تخضع للأمننة، قد ارتفاع مستوى الأمن،
كما أن ارتفاع مستوى المخاطر والخطر غير المعالجين يعني ارتفاع مستوى انعدام الأمن.(104)
وكما سلف الذكر في الفصل الأولمن الدراسة أيضا فإن "أولريش بيك" Ulrich Beck يعرف مجتمع المخاطر بأنه "حالة من توافق الظروف أصبحت فيها فكرة إمكانية التحكم في الآثار الجانبية و الأخطار التي يفرضها اتخاذ القرارات محل شك"، كما يشير إلى أن المخاطرة مرتبطة باتخاذ القرار بشأن سلوك ما قد يحقق لنا : إما فرصة و إما خطراً . و مع تفاقم المخاطر و الأخطار مقابل الفرص فإن مجتمع المخاطرة بات يعيش حالة من عدم الأمان و أيضا الشك و فقدان اليقين بخصوص إمكانيته و مقدرته على مواجهة تلك المخاطر (risks ) و الأخطار (angers) و التحكم فيها مكانياً و زمنياً.(105)
كما يكتسب مفهوم الانكشاف Vulnerability أهمية كبيرة في هذا
الصدد، إذ يتعلق بالمخاطر والتهديدات بشكل رئيسي، خاصة في ضوء التهديدات والمخاطر الجديدة؛ فعلى سبيل المثال فإن
تغيرات المناخ الجديدة بما تشمله من فيضانات هددت مناطق واسعة من العالم كان آخرها
موجة الفيضانات التي حدثت في باكستان مؤخراً، وكذلك في عدد من الولايات الأمريكية
وغيرها من دول العالم، حيث مخاطر التغير المناخي هنا عوامل ضعف وانكشاف(106)، وبالتالي تؤثر في قدرة
الفاعلين الرئيسيين المعنيين بإدارة عملية الأمننة.
وتحدد تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتهديدات القائمة بتغير المناخ (IPCC) قابلية التأثر على أنها الدرجة التي يكون فيها النظام عرضة للتأثيرات الضارة لتغير المناخ وعدم قدرتها على التعامل معها، كما تحتوي تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ على حسابات مفصلة لدرجات متفاوتة من التعرض للضعف والانكشاف، وهي
الدرجات التي تؤثر في قدرة النظام على التكيف، كما تتسبب في مزيد من
الضغط الذي يتعرض له النظام الاجتماعي، واستجابة النظام والقدرة على العمل التكيفي.(107)
المطلب الثالث- الأمننة وتأثيرات
العولمة:
تناولت مدرسة كوبنهاجن ضمن أهم مفاهيمها، مفهوم "ارتدادات العولمة"، وكذلك مفهوم "تفكيك الأمننة desecuritization"، كأحد العمليات المهمة والرئيسية
التي يلجأ إليها الفاعلون ضمن سياسات عملية الأمننة.
أولاً- ارتدادات العولمة:
ترتبط تأثيرات العولمة العولمة دائما، بمفاهيم ومقولات نظرية الأمننة ومدرسة
كوبنهاجن، خاصة مع زيادة تدخل الجيوش والعناصر الأمنية في العديد من الجول في
مواجهة التهديدات الجديدة والمخاطر غير التقليدية العابرة للحدود والقوميات، والتي
أبرزها حاليا، بتقويض الانتشار الديموغرافي لفيروس كورونا، وقد أدت هذه المخاطر
إلى بروز تأثير "ارتدادات العولمة.
بل إن البعض قد رجح أن يكون تفشي وباء كورونا، أحد أهم أسباب انحسار "العولمة"، وذلك وفقا لـ"مصفوفة تصاعدية" تحتل بها الأوبئة درجة متقدمة، وذلك بسبب التوترات التي
حدثت بسبب الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين بالهيكل الاقتصادي العالمي،
وما أسفر عن ذلك من سياسات حمائية، وعوائق تجارية.
كذلك فقد بدت "ارتدادات العولمة" أكثر وضوحا مع إغفال الجانب البيئى والتأثيرات السبية لتغيرات المناخية المتلاحقة، وارتباط ذلك
بصعود النزعة القومية المنادية بالتنصل من تحمل عبء تكلفة مواجهة هذه
التداعيات، وهو ما تمت ترجمته من جانب الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بالانسحاب من اتفاق باريس للمناخ.(108)
وقد أسهمت أزمة فيروس كورونا كذلك في إظهار كيف برزت التيارات اليمينية
الشعبوية بأجندات قومية، تدعو لمزيد من العزلة وتطويق الاندماجات التي شهدها
النظام العالمي، إذ أن ارتدادات العولمة بدت واضحة بداية من البعد الاقتصادي الذي
يتجلى في حالة الاضطراب التي تشهدها التجارة العالمية حاليا على وقع الأزمة
الروسية الأوكرانية حاليا، وما أسهم به ذلك أيضا من تخفيض علاقات الاعتماد
المتبادل بين الدول لأدنى مستوى، أو إعادة صياغة قواعد هذا الاعتماد وفق مبادئ
مختلفة بفعل التهديدات والمخاطر الجديدة.(109)
ولكن الحديث عن ارتداد العولمة، دفع إلى الحديث ضمن مبادئ نظرية الأمننة عن
"إعادة إنتاج العولمة"، خاصة وأن مفهوم سيادة
اقتصاد السوق الحر قد بدأ يتلاشى، خصوصا بعد الأزمة المالية عام 2008، وكذلك تراجع أوضاع
الاقتصاد العالمي وركود حركة التجارة العالمية التي تأثرت بأزمتي الغذاء والطاقة
بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية.(110)
كذلك فقد كشفت أزمة فيروس كورونا عن محورية وأهمية دور الدولة في إدارة
القطاعات الصحية والتعليم والنقل، وهو ما جعل من الضروري البحث عن إعادة لـ"إنتاج العولمة" وفق المعطيات الحديثة
على أن تتضمن عملية الإعادة التعاون في قضايا مثل الصحة ومكافحة الفيروسات
والأوبئة، وهو ما يعني أن العولمة بعد "إعادة إنتاجها"، يمكن أن تعتمد على
تبادل التعاون في سياق جماعي.(111)
ثانياً- تفكيك الأمن
كما تطرقت الدراسة إلى مفاهيم ارتدادات العولمة، وتأثيراتها الانعكاسية على
الأمن، فإن مدرسة كوبنهاجن تتناول بوضوح في مفهومي "تفكيك الأمن" ‘‘desecuritization’’ و "الأمن" ‘‘security’’ اللذان يشكلان جوانب متكاملة لنظرية الأمننة.(112)
ولا تعتبر مدرسة كوبنهاجن الأمن قيمة إيجابية لا لبس فيها. في معظم الحالات، يجب تجنب الأمننة. في حين أن وصف قضية ما باعتبارها واحدة من "الأمن" قد يساعد في رفع مكانتها على الأجندة السياسية، إلا أنها تخاطر أيضًا بوضع هذه القضية ضمن منطق التهديد والقرار، وربما في نقيض الصديق والعدو.(113)
الأمن وبناءً على ذلك، هو سياسة يتم صياغتها بعناية كبيرة، وبشكل عام يمكن وفق هذه الصياغة التي يقوم بها الفاعل تفكيكه بدلا
من تضخيمه، وهي خطوة يمكن تحقيقها من خلال التفاوض السياسي، إذ أن "تفكيك الأمننة" desecuritization يتضمن على وجه التحديد؛ نقل القضايا من الأجندة "الأمنية" والعودة إلى مجال الخطاب السياسي العام والنزاع السياسي "الطبيعي" والتوافق.(114)
يعتبر تحول العديد من عناصر الأمن الأوروبي كجزء من نهاية الحرب الباردة مثالًا نموذجيا لتفكيك الأمننة desecuritization. إذ يشير مفهوم الأمن وفقا للحالة الأوروبية
إلى وضع ربما تكون فيه العلاقات مسيَّسة بشكل صارم ضمن بعد إعادة النظر في
منظومة المخاطر والتهديدات في تلك الحقبة، وهي الحالة التي يؤكد ويفر بأنها موجودة من قبل دول الشمال التي تشكل علاقاتها "مجتمعا أمنيا جديدا" وفق هذا المفهوم الحديث.(115)
وقد أسفرت هذه التهديدات الجديدة عن التركيز على الانعكاسات السلبية للعولمة وارتباطها بتنامى المهددات غير التقليدية والتي ضافتها من
تأثيراتها التهديـدات السـيربانية التـى تستهدف أمن تدفق المعلومـات.(116)
ونتيجة للمخاطر والتهديدات الجديدة، فقد أصبحت هناك حاجة ملحة لإعادة النظر
في تأثيرات العولمة وارتباط ذلك بمفهوم "تفكيك الأمن"، إذ ساهمت هذه
التأثيرات في استثناء قضايا رئيسية من الأجندات الأمنية، مع إلقاء الضوء على قضايا
جديدة، بعد أن فشلت آليات الاعتماد المتبادل والتعاون المرن في تحقيق السلم والأمن
الدوليين.(117)
بالمقابل، أصبح هناك الحديث حول إعادة تقييم "ارتدادات العولمة" فى ظل تنامى التناقضات والتوترات المصاحبة لمخرجات أزمة فيروس كورونا "19-Covid" وانعكاساتها الإنسانية والسياسية والاقتصادية على مختلف مكونات النظام العالمي.(118)
خاتمة الدراسة
وتتكون الأمننة الجماعية من مراحل مختلفة ومتمايزة لكنها مترابطة، إذ تمثل
المرحلة الأولى الخطاب الأمني للوضع الراهن والسياسات المصاحبة له status quo security
discourse، بينما تتكون المرحلة الثانية من حدث طارئ precipitating event أو سلسلة من الأحداث
الكافية لتعطيل أو تغيير الخطاب الأمني الراهن والسياسات المصاحبة له، وهو ما يؤدي
إلى خلق تصورات لدى الفاعلين الرئيسيين أو الجمهور المستهدف بأن البيئة الأمنية
الخارجية قد تعرضت لتدهور كبير، تمهيدا للمرحلتين الثالثة والرابعة المتمثلتين في
عملية الأمننة ذاتها Securitizing Move، واستجابة الجمهور Audience response، وهما عمليتين يعتمدان على
بعضهما بشكل كبير، بينما تتمثل المرحلة الخامسة في التفاعل المتبادل Recursive interaction بين المرحلتين السابقتين،
وأخيرا مخرجات عملية الأمننة Policy Output.(119)
ويعتبر الجمهور في الأمننة بشكل عام عنصرا مهما، ولكنه في الأمننة الجماعية
يكتسب أهمية أكبر، بل إن أهميته تفوق أهمية ممثلو الدول داخل المنظمة الدولية،
مثلما هو الحال داخل الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال.(120)
وترتبط استجابة الجمهور في الأمننة الكلية ارتباطا وثيقا بسياسات الأمننة،
إذ قد يشارك الجمهور في عملية تفاعلية في الموضوعات غاية في الأهمية، من خلال
الحوار والتفاوض والتسوية مع الفاعل الرئيسي أو الممثل الأمني، وقد يرفض الجمهور
محاولة أمننة قضية معينة، ما يؤدي إلى اختلافات كبيرة في النتائج الأمنية التي كان
يستهدفها الفاعل الرئيسي.(121)
فبدلاً من أن يكون الجمهور متلقيًا سلبيًا للأمننة، يكون هناك تفاعل متكرر ومساومة بين الجهة الفاعلة في مجال الأمنة وجمهورها. وكما سبق القول فإن
المرحلتين الخامسة والسادسة من الأمننة الكلية تركزان على تشكيل وتنفيذ السياسات التي تتعامل مع التهديد الأمني وإعادة صياغة الخطاب الأمني الجديد والسياسات المصاحبة، ويمكن القول
أن عملية الأمننة الجماعية
الناجحة تحدث عندما يكتسب ممثل العملية قبول الجمهور وتبني سياسات مشتركة لاحقًا.(122)
وقد استخدمت القليل من الدراسات مصطلح الأمننة الجماعية لتحليل كيفية استجابة المنظمات الدولية للتحديات الأمنية وخاصة الاتحاد الأوروبي. في عام 2019، أجرى عدد خاص تحليلاً للأمننة الجماعية داخل الاتحاد الأوروبي عبر مجالات السياسة المختلفة، مثل سياسة الطاقة والفضاء الإلكتروني والإرهاب، حيث استخدم Hyttinen و Heinikoski الأمننة الجماعي لتوضيح كيف يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تأمين غسيل الأموال باستخدام خطاب يركز على الإرهاب.(123)
وعلى سبيل المثال كذلك، استكشف سبيرلينج وويبر دور الناتو ضمن عملية الأمننة الجماعية إزاء تعامل روسيا مع أزمات القرم وأوكرانيا.(124)
ثم جاءت تطورات الأزمة الروسية الأوكرانية، لتؤكد أنه من الطبيعي أن استراتيجية الأمن القومي للاتحاد الروسي، المعتمدة في 2 يوليو 2021، ليست استثناء من فرضيات نظرية الأمننة التي اقترحها بوزان. خاصة وأن النهج الروسي، يؤكد
أن البعد الأمني للعمليات المحلية والدولية يبقى هو المعيار الرئيسي مقارنة بجوانبها الأخرى.(125)
وفي ضوء الحالة الروسية وتطبيقاتها خلال الأزمة الروسية، فإن الأمننة تتضمن قبل كل شيء، تحليل الخطاب، وفي هذا الصدد، تقدم الإستراتيجية الروسية مواد عالية الجودة لأنها، تمثل "فعلAct" للخطاب كلاسيكي، فهي تحدد رسميًا مفاهيم التهديدات. وأغراض الأمننة، أي الهياكل أو المؤسسات أو الفئات التي تتعرض للتهديدات.(126)
وتظهر الاستراتيجية الروسية مدى التفاعل بين الأمننة الجماعية على المستوى
الدولي والصعيد المحلي، إذ اعتمدت على مفهومين هما، "التهديدات المناسبة" و "العوامل السلبية" التي تخلق إمكانية مباشرة أو غير مباشرة للإضرار بالمصالح الوطنية.(127)
لذلك، فإن الأهداف الرئيسية للأمننة في الاستراتيجية الروسية هي المصالح الوطنية لروسيا (والتي تتماشى تمامًا مع الخطاب الأمني التقليدي: "بالنسبة للدولة، يتعلق البقاء بالسيادة، وبالنسبة للأمة يتعلق بالهوية" فضلا عن حقيقة أن "المصلحة الوطنية" هي فئة رئيسية للمدرسة الواقعية للعلاقات الدولية، التي تهيمن على المناقشات الأكاديمية والعملية الروسية. ومع ذلك.(128)
وتظهر الاستراتيجية الروسية أيضا إلى أي مدى تم التوسع في مفهوم التهديد الذي اقتصره بوزان وويفر على التهديدات الوجودية لأشياء الأمننة، إذ أنه من الواضح أن "العامل السلبي" بالكاد يمكن اعتباره تهديدًا وجوديًا. فهو وفقًا لمفهوم Buzan-Wæver، نتيجة النشاط من قبل فاعلين وظيفيين مختلفين يؤثرون على ديناميكيات الصراع.(129)
لذلك، فإن الخطاب الروسي الرسمي والاستراتيجية يعرّفان العقوبات الاقتصادية ضد روسيا ليس كتهديد للاقتصاد الوطني، بل كعامل سلبي ؛ وينطبق الشيء نفسه، على سبيل المثال، على المشاكل البيئية، وتدني مؤهلات العاملين في المجال الطبي، وعلى مستوى التعليم، حيث تتمثل التهديدات، على سبيل المثال، في أنشطة الاستخبارات الأجنبية والخدمات الخاصة، وأنشطة المنظمات غير الحكومية الأجنبية والدولية التي تهدف إلى انتهاك وحدة الاتحاد الروسي وسلامته الإقليمية، وتآكل الروحانية والأخلاقية الروسية التقليدية. القيم وإضعاف وحدة الشعب متعدد الجنسيات في الاتحاد الروسي من خلال التوسع الثقافي والإعلامي الخارجي.(130)
الهوامش
1)
Lawrence Freedman,
“The Third World War,?” Survival, Vol. XLIII, No.
4, Winter 2001, p. 70
2)
Ibid, p73.
3)
المخاطر الكامنة هي
المخاطر والتهديدات التي تتميز بأنها غير مرئية كامنة، كوجود أسباب خلاف بين
دولتين أو أكثر دون وجود دلالات أو مظاهر مرئية على هذا الخلاف أو التوتر.
4)
Lawrence Freedman,
“The Third World War,?” Survival, Vol. XLIII, No.
4, Winter 2001, p. 70
5)
Michael C.
Williams, Words, Images, Enemies: Securitization and International Politics,
International Studies, Quarterly , 2003, 47, P. 513.
6)
Ibid, p 515.
7)
Lawrence Freedman,
“The Third World War,?” Survival , op.cit, p73.
8)
د. جهاد عودة، الصراع
الدولي: مفاهيم وقضايا، دار الهدى للنشر، الطبعة الأولى، القاهرة، 2005. ص 262.
9) المرجع السابق، ص 267.
10) د. جهاد عودة، تقدير الأزمة الاستراتيجية في العالم،
دار المكتب العربي للمعارف، الطبعة الأولى القاهرة، 2014، ص 81.
11) SEE: Barry
Buzan, Ole Waever, and Jaap de Wilde, Security: A New Framework for Analysis
(Boulder, CO: Lynne Rienner, 1998).
12) Carl
Schmitt, The Concept of The Political (The University of Chicago Press, Ltd.,
London, 1927), P 14.
13) Ibid, P 26.
14) Ibid, P 35.
15) Ibid, P21.
16) Ibid. P.25.
17) Eroukhmanoff,
Clara; Securitisation Theory; in: STEPHEN MCGLINCHEY,
ROSIE WALTERS & CHRISTIAN SCHEINPFLUG; International RelationsTheory
(E-International Relations Publishing, Bristol, England, 2017), p.104.
18) Barry Buzan,
Ole Waever, and Jaap de Wilde, Security: A New Framework for Analysis Op. cit.,
P.23.
19) Ibid.P.24.
20) Weiner, M.
International migration and security. (Colorado: Westview press, 1993), pp. 13.
21) مرسوم الوطنية:
22) The USA
PATRIOT Act (Patriot Act), Public Law 107-56, enacted by Congress and signed by
the President on October 26, 2001. See:
https://www.congress.gov/107/plaws/publ56/PLAW-107publ56.pdf.
23) Weiner, M.
International migration and security, Op. cit., P.16.
24) Ibid, P 38.
25) Ibid, P 39.
26) جورجيو
أجامبين Giorgio
Agamben،
فيلسوف إيطالي، إيطالي اشتهر بعمله في التحقيق في مفاهيم حالة الاستثناء.
27) GIORDANENGO. DAVIDE, "the State of Exception",
E-International Relations, 21 JUN 2016.
28) Taureck.
Rita,”Securitisation theory – The Story so far: Theoretical inheritance and
what it means to be a post-structural realist”. Paper for presentation at the
at the 4th annual CEEISA convention at University of Tartu, 25 -27 June 2006,
p.01.
29) Eroukhmanoff,
clara; Securitisation Theory; in: STEPHEN MCGLINCHEY, ROSIE WALTERS &
HRISTIAN SCHEINPFLUG; International Relations Theory (E-International Relations
Publishing, Bristol, England, 2017),pp.104 -105.
30) Waever. Ole,
Aberystwyth. Paris, Copenhagen: New 'Schools' in Security Theory and Their
Origins between Core and Periphery.International Studies Association
Conference, Montreal, March ,2004.
31) Ibid,.P.41.
32) Eroukhmanoff,
clara; Securitisation Theory; in: STEPHEN MCGLINCHEY, ROSIE WALTERS &
HRISTIAN SCHEINPFLUG; International Relations Theory, Op. cit., P. 106.
33) Balzacq.
Thierry, "Securitization revisited: Theory and cases", International
Relations, 2016,vol.30,No.4,p.499.
34) Ibid.,
p.504.
35) Buzan.
Barry, Waever. Ole, and Jaap de Wilde, Security: A New Framework for Analysis,
Op. cit., P. 41.
36) John
L.Austin, How to Do Things with Words (Oxford: ClarendonPress,1962),pp.94-108 .
37) Buzan,
Buzan. Regional Security Complex Theory in the Post-Cold War World. In: F.
Söderbaum, & T.M. Shaw (eds.), Theories of New Regionalism (New
York–London: Palgrave Macmillan, 2003), P.157.
38) Van Munster.
Rens, "Review Essay: Security on a Shoestring: A Hitchhiker's Guide to
Critical Schools of Security in Europe," Cooperation and Conflict 42, no.2
,2007.
39) Milliken.
Jennifer, “Ontological Security in World Politics: State Identity and the
Security Dilemma,” European Journal of International Relations 12 no.3 ,2006.
pp.351.
40) Bigo. Didier, "When Two Become One: Internal and External
Securitisations in Europe," in International Relations Theory and the
Politics of European Integration: Power, Security and Community, ed. Morten
Kelstrup and Michael C. Williams (London: Routledge, 2000),p.171
41) Bigo. Didier, "Security and Immigration: Toward a
Critique of the Governmentality of Unease," Alternatives: Global, Local;
Political 27, no. Special Issue (2002):,p.65,p.74.
42) Wyn Jones .Richard, "‘Message in a Bottle'? Theory and Praxis in
Critical Security Studies," Contemporary Security Policy 16, no. 3
,1995,p.299.
43) Booth. Ken,
Theory of World Security, Cambridge University Press,2008,p.272.
44) Ibid ,p.101.
45) Wyn Jones. Richard, op.,cit.,pp.303-304.
46) Booth.
Ken,op.,cit.,p.148.
47) Bilgin.
Pinar, "Beyond Statism in Security Studies? Human Agency and Security in
the Middle East," The Review of International Affairs 2, no. 1 ,2002.
48) Booth.
Ken,op.,cit.,p.249.
49) Rita. Floyd,
Stuart, "European Non-Traditional Security Theory: From Theory to
Practice," Geopolitics, History, and International Relations 3, no. 2,
2011.
50) Linklater. Andrew, "Global Civilizing Processes and the
Ambiguities of Human Interconnectedness," European Journal of International
Relations 16, no. 2. 2010,p.6, see also: Norbert Elias, The Civilizing Process:
The History of Manners and State Formation and Civilization (Oxford: Blackwell,
1994),pp.444-455.
51) Williams.
Michael C, The Continuing Evolution of Securitization Theory’, in Balzacq,
Securitization Theory, in Thierry Balzacq (ed.), Securitization Theory: How
Security Problems Emerge and Dissolve (London: Routledge, 2011). p.213.
52) Williams.
Michael C,‘Words, Images, Enemies: Securitization in International Politics’, International
Studies Quarterly, 47(4), 2003, p. 514.
53) Balzacq.
Thierry, op.,cit.,p.502.
54) الأنطولوجي
والأبستمولوجي
55) Ibid.
56) Ibid.
57) Ibid.
58) Barry. Buzan, Ole. Waever, and Jaap de Wilde, Security: A New
Framework for Analysis, Op. cit., P.26.
59) ريتا
فلويد: أستاذ العلوم السياسية والدراسات
الدولية في جامعة برمنجهام البريطانية.
60) [1] Rita.
Floyd, Stuart, op.cit.
61) [1] يعتبر كتاب يورجن هابرماس The Structural Transformation of the
Public Sphere
والذي صدر عام 1964 أفضل تأطير لنظرية المجال العام الحديثة.
62) Held.David,
Mcgrew.Anthony, The End of the Old Order ?: Globalization and the Prospects for
World Order, International political economy ; Vol. 4. - Los Angeles, Calif,
SAGE,2008, p. 280-307
63)
Koschnick.Wolfgang, "Standard
Dictionary of the Social Sciences/ GermanEnglish", Vol. 2, Paperback,
October 1, 1992, P.210.
64)
Oxford Basic English Dictionary,(Oxford
University press, USA, 2012).
ttps://www.oxfordlearnersdictionaries.com/definition/english/threat
65)
تيري ديبيل، استراتيجية
الشؤون الخارجية: منطق الحكم الأمريكي، ترجمة: وليد شحادة، (بيروت: دار الكتاب
العربي ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، 2009)، ص ص 258- 261.
66)
Buzan. Barry, People, States and Fear: The
National Security Problem in International Relations, Op. cit, p.16
67) Col Michael Norton, Symmetrical vs Asymmetrical
Threats: Balancing NORAD's full-spectrum air defense, "Eastern Air
Defense Sector", May 19, 2015.
68)
SEE:
https://www.un.org/ruleoflaw/thematic-areas/transnational-threats/.
69)
SEE:
https://www.un.org/ruleoflaw/thematic-areas/transnational-threats/counter-terrorism/
70)
SEE: https://www.un.org/ruleoflaw/thematic-areas/transnational-threats/transnational-organized-crime/
71)
SEE:
https://www.un.org/ruleoflaw/thematic-areas/transnational-threats/piracy/.
72)
SEE: https://www.un.org/sg/en/content/sg/speeches/2022-02-18/remarks-the-munich-security-conference-opening-segment.
73)
Ibid.
74) Ibid.
75)
Ibid.
76) Ole. Waever,
Barry. Buzan, Kelstrup. M, Identity, Migration and the New Security Agenda in
Europe, Palgrave Macmillan, London 1993, p. 23.
77) Buzan.
Barry, People, states and fear: An Agenda for security Analysis in the
Post-Cold War Era, Op. cit, P. 20.
78) Buzan.
Barry, People, states and fear: An Agenda for security Analysis in the
Post-Cold War Era, Op. cit, P. 22.
79) R.D. Burz ,
“The Concept of Social Security”. Paradigm Social Sciences Journal, Vol.5,
Issue 5 ,2012. Retrieved September 5, 2016, at:
www.eras.socio.uvt.ro>journal>eras>page>article>op.
80) Ibid.
81) Merton.
Robert K, Social Theory and Social Structure. Glencoe, (IL: Free Press, 1957),
p. 65.
82) Cole. Nicki
Lisa, “Manifest Function, Latent Function, and Dysfunction in Sociology”,
thoughtco, February 04, 2020. at:
https://www.thoughtco.com/manifest-function-definition-4144979
83) Barry. Buzan, Ole. Waever, and Jaap de Wilde, Security: A New
Framework for Analysis, Op. cit., P.31.
84) Eisenstadt,
Shmuel Noah and Bernhard Giesen. 1995. “The Construction of Collective
Identity.” Archive européenne de sociologie, Vol. 36, No. 1, pp. 75-102.
85) Katzenstein,
Peter J., ed.,The Culture of National Security: Norms and Identity in World
Politics. (New York: Columbia University Press, 1996).
86) Rita. Floyd,
‘Human Security and the Copenhagen School’s Securitization Approach:
Conceptualizing Human Security as a Securitizing Move’,
Human Security Journal, vol. 5, no. 37,2012, pp. 38–49.
87) Hayes.
Jarrod, "Identity and Securitization in the Democratic Peace: The United
States and the Divergence of Response to India and Iran’s Nuclear
Programs", International Studies Quarterly, Vol. 53, No. 4, Dec., 2009,
P.977.
88) Wæver. Ole,
Buzan. Barry, Kelstrup. Morten, and Lemaitre, Pierre, Op. cit.
89) Ibid.
90) Ibid.
91) Waever. Ole, "Securitization and Desecuritization", in
Barry Buzan and Lene Hansen (eds.),"International Security Studies:
Volume(3) Widening Security "(SAGE Publications, 2007), p. 63
92) Wæver. Ole,
Buzan. Barry, Kelstrup. Morten, and Lemaitre, Pierre, Op. cit.
93) Ibid.
94) Buzan.
Barry, People, states and fear: An Agenda for security Analysis in the
Post-Cold War Era, Op. cit, P. 25.
95) Luhmann,
Niklas. (Trans) Rhodes Barrett, Risk: A
Sociological Theory, (New Brunswick, NJ: AldineTransaction, 2005). P. 31.
96) Ibid. P.
171.
97) Ulrich Beck,
Risk Society: Towards a New Modernity. , Op. cit. p.19.
98) Adger, W. N.
“Vulnerability.” Global Environmental Change 16, no. 3 2006: 268 - 281. Doi:
https://doi.org/10.1016/j.gloenvcha.2006.02.006.
99) McCarthy, J,
O. Canziani, N. Leary, D. Dokken, and K. White. “Climate change 2001: impacts,
adaptation and vulnerability.” Cambridge: Cambridge University, 2001.
100) Does
COVID-19 Mean The End For Globalization?, Jan 8, 2021.at:
https://www.forbes.com/sites/imperialinsights/2021/01/08/does-covid-19-mean-the-end-for-globalization/?sh=56a73bc2671e
101) Ülgen.
Sinan, Sinan.Ceylan, "From the Local to the Global: The Politics of
Globalization", Rewriting Globalization, Carnegie Europe, February 17,
2022.
102) At:
https://carnegieeurope.eu/2022/02/17/from-local-to-global-politics-of-globalization-pub-86310
103) ibid.
104) Impact Of
The Covid-19 Pandemic On Trade And Development: transitioning to a New Normal,
United Nations Conference On Trade And Development, UNCTAD, Geneva, 2020, p.64.
105) Williams.
Michael C,op.cit. P. 515.
106) Ibid.
107) BAGGE.
LAUSTEN, C., AND waever. Ole, In Defence of Religion: Sacred Referent Objects
for Securitization. Millennium: Journal of International Studies, Vol. 29, No.
3, 2000, P.705.
108) Ibid.
109) Burgess, J.
Peter, Sissel Haugdal Jore, The Influence of Globalization on Societal
Security: The International Setting, PRIO Policy Brief, 3. Oslo: PRIO, 2008.
110) Amsden.
A.,Comment: Good-bye Dependency theory, hello dependency theory. Studies in
comparative international development, 2003-03, 38 (1), p.32-38.
111) Bickley.
Steve J, Chan. Ho Fai, Skali. Ahmed, Stadelmann. David & Torgler. Benno,
"How does globalization affect COVID-19 responses?", Globalization
and Health, volume 17, Article number: 57, 2021.
112) Sperling.James,
Webber. Mark, op.cit.p.231.
113) Ibid.
114) Haacke.
Jürgen, Williams, Paul D, op.cit.
115) Sperling.James,
Webber. Mark, op.cit.p.233.
116) Hyttinen.
Tatu, Heinikoski.Saila, Justification of supranational criminal law – Analysis
of zollective securitization in the EU-level harmonization of money laundering
provisions, Maastricht Journal of European and Comparative
Law, 9, Vol. 26(6) 815–832, 2019.
117) Webber.
Mark, Sperling. James, NATO and the Ukraine Crisis: Collective Securitisation,
European Journal of International Security, vol. 2, no.1, 2017, pp. 19-46
118) Julian
Cooper, “Russia’s updated National Security Strategy”, Nato Defence Colleage,
19 Jul. 2021.
119) Ibid.
120) SOLOVYOV.
ALEXANDER V, “National Securitization Strategy?”, Russia in Global Affairs, No.
3 2021 July/September, V.19 NO.03, pp. 164-172.
121) Ibid.
122) Ibid.
قائمة المراجع
المراجع العربية
1. د. جهاد عودة، الصراع الدولي: مفاهيم وقضايا، دار
الهدى للنشر، الطبعة الأولى، القاهرة، 2005. ص 262.
2. د. جهاد عودة، تقدير الأزمة الاستراتيجية في العالم،
دار المكتب العربي للمعارف، الطبعة الأولى القاهرة، 2014، ص 81.
3. د. جهاد عودة، محمد عبد العظيم، سرور جرمان سرور، "مفهوم الأمن
القومي : دراسة نظرية"، المجلة العلمية للبحوث والدراسات، المجلد 28 العدد الأول، الجزء
الثاني، القاهرة 2014.
4. د. حامد ربيع، نظرية الأمن القومي العربي والتطور
المعاصر للتعامل الدولي فى منطقة الشرق الأوسط، دار الموقف العربي، القاهرة، ١٩٨٤ .
5. د. زينب حسني عز الدين، أثر حروب الجيل الرابع على
الأمن القومي العربي دراسة حالة: تنظيم “الدولة الاسلامية”، المركز
الديموقراطي، يوليو 2016.
المراجع الأجنبية:
1.
Andrew Linklater, "Citizenship, Humanity, and Cosmopolitan Harm
Conventions," International Political Science Review 22, no. 3 (2001).,p.266.
2.
Barry Buzan, Ole Waever, and Jaap de Wilde, Security: A New Framework for
Analysis (Boulder, CO: Lynne Rienner, 1998).
3.
Carl Schmitt, The Concept of The Political (The University of Chicago
Press, Ltd., London, 1927 .
4.
Eroukhmanoff, Clara; Securitisation Theory; in: STEPHEN MCGLINCHEY, ROSIE WALTERS & CHRISTIAN SCHEINPFLUG; International
RelationsTheory (E-International Relations Publishing, Bristol, England, 2017).
5.
Eroukhmanoff, clara; Securitisation Theory; in: STEPHEN MCGLINCHEY, ROSIE
WALTERS & HRISTIAN SCHEINPFLUG; International Relations Theory
(E-International Relations Publishing, Bristol, England, 2017)
6.
GIORDANENGO. DAVIDE, "the State of Exception", E-International
Relations, 21 JUN 2016.
7.
Taureck. Rita,”Securitisation theory – The Story so far: Theoretical
inheritance and what it means to be a post-structural realist”. Paper for
presentation at the at the 4th annual CEEISA convention at University of Tartu,
25 -27 June 2006.
8.
Thomas Norman, Risk Analysis and Security Countermeasure Selection, Second
Edition, CRC Press, 2015.
9.
Ulrich Beck, Risk Society: Towards a New Modernity. Sage Publications ,2000.
10.
Waever. Ole, Aberystwyth. Paris, Copenhagen: New 'Schools' in Security
Theory and Their Origins between Core and Periphery.International Studies
Association Conference, Montreal, March ,2004.
11.
Webber, M & Sperling, J 2017, 'NATO and the Ukraine Crisis: Collective
Securitisation', European Journal of International Security , vol. 2, no. 1.
12.
Weiner, M. International migration and security. (Colorado: Westview press,
1993).
13.
Eroukhmanoff, clara; Securitisation Theory; in: STEPHEN MCGLINCHEY, ROSIE
WALTERS & HRISTIAN SCHEINPFLUG; International Relations Theor
14.
Balzacq. Thierry, "Securitization revisited: Theory and cases",
International Relations, 2016,vol.30,No.4.