عندما أسقطت المقاتلات التركية الطائرة الروسية الأسبوع الماضى تأكدت مرة أخرى المقولة العالمية أن ما يحدث فى منطقة الشرق الأوسط لا يقتصر بالمرة على هذه المنطقة. ثم عندما طلبت تركيا الاجتماع العاجل لمجلس حلف شمال الأطلنطى الناتو ـ تأكد أيضا أن الشرق الأوسط قد يكون المسئول عن عودة الحرب الباردة فى أقوى مظاهرها من التوتر السياسى الشديد إلى الصدام المسلح. السؤال الذى تردد فى الخارج كان ولايزال : هل هذا هو كل ما تستطيع منطقة «مهد الحضارات» ـ مثل منطقة الشرق الأوسط ـ أن تسهم به حاليا فى النظام العالمي؟ أليس هناك أفضل فى هذه المنطقة من الحرب الأهلية الوحشية فى سوريا؟ أو الدولة الفاشلة وعودة القبائلية فى ليبيا أو اليمن؟ هل هذا أفضل ما تستطيع تصديره هذه المنطقة للعالم؟
على غير العادة، جاء سلوك الناتو أكثر مسئولية من التصعيد التركى المفاجئ، وكان التلميح وحتى أحيانا التصريح فى أروقة الإجتماع المنعقد على عجل هو التساؤل لماذا مثلا لم تطارد المقاتلات التركية الطائرة الروسية وإرغامها على الهروب من شريحة الأرض التركية بدلا من رد فعل غشيم وإنفعالي، أى «الضرب فى المليان»؟
فى رأى الكثيرين أن هذا الصدام بين تركيا وروسيا كان فى الأفق منذ فترة وكان لابد أن ينفجر هذه المرة فوق الأراضى السورية. فكل من روسيا وتركيا إمبراطورية تاريخية ورثت أجزاء مهمة وخاصة ثقل من الإمبراطورية الرومانية.
ألم تكن اسطنبول ـ عاصمة الامبراطورية العثمانية ـ هى القسطنطينية عاصمة الامبراطورية الرومانية؟ وفعلا تجارب التاريخ تؤكد أن الشعور الإمبراطورى يشكل إلى حد كبير السلوك الدولي، ولمدة عقود وقرون بعد انهيار الامبراطورية. فلننظر لإيران أو حتى هذه الجزر المسماة «بريطانيا العظمي» لنرى فعلا تأثير هذا الشعور الإمبراطورى التاريخى على السلوك الحالي. وهكذا كانت تركيا فى أثناء الحرب الباردة أحد أهم أعمدة منظمة حلف الناتو ضد الاتحاد السوفيتي.
مع انتهاء الحرب الباردة شعرت أنقرة بأن أهميتها الإستراتيجية قد تقل وحتى يُصيبها النسيان، وهو شعور مؤلم ـ حتى على المستوى الشعبى لدولة تتذكر دائما ثقلها التاريخى ومجدها الامبراطوري. ولذلك توجهت تركيا وبقوة ناحية الدول الجديدة فى آسيا الوسطى التى فازت باستقلالها بعد انهيار الاتحاد ا لسوفيتي. ولكن موسكو ـ وكذلك طهران ـ وقفت لهذا التوسع الثقافى وقاومته. وبالرغم من بعض النجاح التركى السريع كرد فعل من جمهوريات آسيا الوسطى الوليدة لسيطرة الاتحاد السوفيتى القديمة وتشوقها للتواصل مع أنقرة، إلا أن شهر العسل كان قصيرا، وخاصة من دول مثل أرمينيا التى بدأت تُعيد إلى الأذهان السلوك الوحشى العثمانى فى ذبح الأمن. فازت أنقرة إقتصاديا بعض الشئ، ولكن شعرت بخيبة الأمل والفشل فى عودة الامبراطورية الثقافية «إلى معظم دول وسط آسيا».
يرتبط بالشعور الإمبراطورى الحالى وجود رئيس الجمهورية التركى رجب أردوغان. وباختصار شديد فهو أوضح تجسيد للعثمانية الجديدة فى السلوك التركى الحالي. فقد جاء من الداخل التركى حيث الهوية الإسلامية والشعور الإمبراطورى لا يزالان قويين فى مواجهة محاولة نخبة أتاتورك لنزع هذه الهوية وكتابة اللغة التركية بالحروب اللاتينية. ثم على عكس هذه النخبة الأتاتوركية جاء أردوغان من أصول اجتماعية متواضعة جدا ليرتفع نجمة بسرعة من عمدة إسطنبول ليكون رئيسا لحزب العدالة والتنمية، ثم رئيسا للوزراء والآن رئيسا للجمهورية. كفلت له هذه الأصول الإجتماعية المتواضعة وكذلك التوجه الإمبراطورى أو العثمانية الجديدة ـ قاعدة شعبية عريضة. ولكنه أيضا قائد إنفعالي، ويبدو أن هذه الشعبية والترقى السريع ـ إجتماعيا وسياسيا ـ زاد كثيرا من هذه السمة الإنفعالية. باختصار «طلعت فى دماغه»، وبالتالى يظهر ذلك كثيرا الآن فى سلوكيات أردوغان داخليا وخارجيا.
ما هو المستقبل إذن؟ هل ستستمر تركيا أردوغان فى تجسيد السلوك الإمبراطورى ولكن بطريقة انفعالية؟ هل انتهت نظرية داود أوغلو ـ وزير الخارجية السابق ورئيس الوزراء الحالى أو ما يعتبره البعض كيسنجر تركيا بسبب خلفيته الأكاديمية كأستاذ سابق للعلاقات الدولية؟ كما نتذكر فإن هذه النظرية تصر على عدم وجود أعداء أو خصوم. ما يحدث الآن فى السياسة الخارجية التركية العكس. وفى مواجهة أزمة الطائرة الروسية، تصطدم أنقره بخصم مشابه لها: سلوك إمبراطورى روسى ورئيس يُسيطر على مقاليد الأمور، حيث تخرج بوتين من جهاز الاستخبارات السوفيتية ـ الـ KGP ، ويتداول رئاسة الوزارة ورئاسة الجمهورية مع شريك أصغر منذ عدة سنوات.
كما تدل الأمور حاليا، فإنه قد يكون هناك بعض المظاهرات العسكرية، خاصة من الجانب الروسي، ولكن لن يكون هناك صدام عسكري. الحرب ستكون أساسا اقتصادية، وأوراقها القوية فى يد روسيا. تعتمد تركيا على حوالى 60% من وارداتها البترولية من روسيا، كما أن هناك أعداد متزايدة من السياح الروس يأتون إلى تركيا، وفى المقابل تحتل روسيا مكانا متقدما فى الصادرات التركية. فهل إذن سينتهى الأمر باعتذار أردوغان لموسكو؟ نقلا عن الأهرام