المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ طه عبد العليم
د‏.‏ طه عبد العليم

السياسة الاقتصادية فى مصر الليبرالية

الأحد 07/يونيو/2015 - 01:31 م
فى هجاء ثورة 23 يوليو، وضد حكم العسكر المزعوم، يتكرر ترديد مزاعم عن ازدهار ورخاء اقتصادى واجتماعى موهوم فى مصر المَلَكية. وعلى النقيض تكشف الحقائق أن إخفاقات التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى فترة ما بين الثورتين- ثورة 1919 وثورة 1952- كانت بين أهم مقدمات السياسة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة لثورة يوليو فى عهد عبد الناصر. بإيجاز، لأن أهداف ونتائج السياسة الاقتصادية والاجتماعية فيما يسمى مصر الليبرالية ـ وكأى سياسة فى كل مكان ـ كانت تعبيراً مكثفاً عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتحددت بالمصالح التى جسدتها الدولة.

وأسجل أولا، أنه منذ عشرينيات القرن العشرين، عقب الثورة الوطنية الديمقراطية فى عام 1919، وتأسيس بنك مصر فى عام 1920، استجابت إجراءات ونشاطات وتشريعات الدولة ـ وان جزئياً وتدريجياً- لمتطلبات تطور الرأسمالية فى الصناعة. بيد أن هذه الاستجابة جرت ضمن الحدود الضيقة التى عينها استمرار السيطرة الاستعمارية والأجنبية على اقتصاد مصر شبه المستعمرة، من جهة، وسيطرة طبقة كبار ملاك الأرض فى الزراعة وما كرسته من بقايا ثقيلة لعلاقات الإنتاج شبه الإقطاعية، من جهة ثانية، وخصائص ميلاد الرأسمالية وتركيب النخبة الرأسمالية الكبيرة فى الصناعة، من جهة ثالثة. أياً كانت الأحزاب السياسية، التى تولت الحكم فى عقب إعلان الاستقلال الشكلى لمصر فى عام 1922 وسواء جاءت الحكومات المتعاقبة بإرادة غالبية الأمة أو بانقلابات القصر والاستعمار، فإنه لم يكن بمقدور الأحزاب، وأياً كان تمثيلها لهذا القسم أو ذاك من الحلف الحاكم، أن تخرج عن المصالح المهيمنة والقيود المحددة لسياستها الاقتصادية والاجتماعية فى مصر شبه المستعمرة شبه الاقطاعية. ولا أنفى هنا واقع التأثير المحدد للأحزاب والحكومات والزعماء والمصالح المباشرة التى عبرت عنها، سواء بتسريع تطور الصناعة الحديثة القومية والاستجابة للمصلحة الوطنية فى تصنيع البلاد، أو عرقلة هذا التطور والتعبير السافر عن المصالح المعارضة والقوى المناوئة لتصنيع مصر.

وثانيا، أن الإدارة الاستعمارية البريطانية والاحتكارات الأجنبية المهيمنة كانتا المحدد الأهم للسياسة الاقتصادية والاجتماعية فى مصر ما بين الثورتين، وخاصة عبر تعاظم النهب المالى لمصر. وأما تنفيذ مشروعات البنية الأساسية وتشجيع تأسيس البنوك فقد استهدف تعظيم إنتاج ودعم تصدير مزرعة القطن المصرى اللازم لصناعة الغزل والنسيج البريطانية. وعلى نقيض زعم باتريك أوبريان استاذ الاقتصاد البريطانى فى كتابه ثورة النظام الاقتصادى فى مصر لم تقم الإدارة الاستعمارية السافرة بتنظيم أوضاع مصر المالية، ولم تكن محاربة التصنيع نتاج آراء وأمزجة الحكام البريطانيين، ولم يكن من ثمار الاحتلال تخفيف الضرائب على الفلاحين، وتحسين ميزان المبادلة بينهم وبين الوسطاء والسماسرة والمرابين، ووضع أسس الإصلاح الزراعى المقبل!! وإنما على العكس عمل الاحتلال على تكريس البقايا الثقيلة للاقطاع والاستغلال التجارى الربوى للفلاحين للحصول على القطن الرخيص، وفرض الضرائب الثقيلة التى اقتضى جمعها جلد الفلاحين ونهب محاصيلهم وأراضيهم فى أوقات انهيار أسعار القطن. والأهم أن الاستعمار قد عمل على عرقلة التصنيع، سواء عبر الإدارة المباشرة قبل عام 1922، أو عبر سيطرة رأس المال الأجنبى على مراكز الاقتصاد الرئيسية.

وثالثا، أن السياسة الاقتصادية قد تحددت أيضا بمصالح كبار ملاك الأرض أشباه الاقطاعيين، الذين مثلوا الرجعية المتواطئة مع الاستعمار من الناحية الوطنية، والمعرقلة للاصلاح، من الناحية الاجتماعية. وقد مارست هذه الطبقة تأثيرها عبر سيطرتها المستمرة على البرلمان وخاصة مجلس الشيوخ، وبواسطة القصر الذى مثل أهم مراكز الرجعية الحليفة مع الاستعمار وأكبر كبار ملاك الأرض، وبنفوذها فى جميع الأحزاب السياسية التى تولت الحكم مهما تفاوت هذا النفوذ. وقد كرست هذه الطبقة العقبات أمام التطور اللاحق للرأسمالية الصناعية الوطنية. وصحيح أن كبار ملاك الأرض لم يجسدوا الإقطاع فى منتصف القرن العشرين، كما يقول وهيب مسيحة فى دراسته عن تطور الصناعة المصرية خلال الخمسين سنة الأخيرة؛ لكنهم جسدوا مظالم البقايا الثقيلة للاقطاع فى الزراعة المصرية، وكرسوا محدودية تطور الرأسمالية فى الزراعة، وحرموا الرأسمالية الصناعية المصرية من الآثار الإيجابية لتصفية الإقطاع جذريا، وخاصة لمواجهة مشكلات التمويل والتسويق أمام التصنيع الرأسمالى الوطنى.

ورابعا، أن الدور وإن المحدود الذى لعبته الدولة فى مواجهة مشكلات التنمية، وخاصة التصنيع، قد استجاب- وإن تدريجياً وجزئياً- لمقتضيات نمو الرأسمالية الكبيرة فى الصناعة. وقد أمكن لهذه للرأسمالية الصناعية الوطنية أن تخفف عن كاهلها بعض القيود الاستعمارية، خاصة تلك التى حدت من نشاطها وقيدت تطورها اللاحق، ولكن عبر الصراع مع الإدارة الاستعمارية بالذات، بقدر ما استندت الى تنامى قوتها الاقتصادية والسياسية، وبقدر ما استفادت من تنازلات الاستعمار والرجعية أمام الحركة الوطنية الشعبية، ثم بقدر ما استطاعت أن توظف لمصلحتها محاولات رأس المال الأجنبى المسيطر رشوتها ببناء مصالح مشتركة بغية تلثيم تناقضاتهما. كما ساعدتها أيضاً مصاعب استيراد المنتجات الصناعية خلال الحربين العالميتين، والأزمات الزراعية التى وجهت الانظار الى أهمية بديل التوظيف الصناعى. لكن تقليص السوق اللازم للصناعة الوطنية استمر مقيدا بمقاومة ممثلى رأس المال الصناعى- الأجنبى الوافد المقيم والوطنى- صدور التشريعات العمالية، ودعم الدولة للاستغلال الوحشى لعمال الصناعة ونسائهم وأطفالهم، بتأخير إصدار التشريعات العمالية وتقنين شروط عمل قاسية وقمع الحركة النقابية والعمالية ونقض الشركات الصناعية اتفاقيات العمل التى انتزعها النضال العمالى. وأخيرا، يلفت الانتباه أن حكومة الوفد، التى مثلت الرأسمالية الوطنية الليبرالية وقيادة ثورة 1919، لم تكتف بعدم إصدار تشريع يحمى العمال من عسف رأس المال، وإنما واجهت الاضرابات العمالية التى شهدها عام 1924 بحل اتحاد النقابات وضرب الحركة العمالية، فمهدت عبر ضرب كل مظاهرة شعبية سياسية- كما أعلنت- للإطاحة بها هى نفسها، بعد إضعاف الحركة الشعبية والعمالية، التى كانت وقود الثورة، والتى أوصلتها الى الحكم.

وأما إخفاقات تلك السياسات، فقد سجلها صبحى وحيدة بكتابه فى أصول المسألة المصرية، الذى يستحق تناولا لاحقا.
نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟