تداعيات الاجتياح: مسارات العملية البرية الإسرائيلية في جنوب لبنان
أعلن الجيش الإسرائيلي في
30 سبتمبر 2024 بدء عملية برية محددة الهدف والدقة وفق تعبيره ضد أهداف لحزب الله
في المنطقة القريبة من الحدود في جنوب لبنان، وأن الجيش يعمل وفق خطة جرى إعدادها
في هيئة الأركان العامة وفي القيادة الشمالية والتي تدربت القوات لها على مدار
الأشهر الأخيرة، وأن عملية "سهام الشمال" مستمرة بناءً على تقييم
الوضع، بالتوازي مع القتال في غزة وجبهات أخرى.
وجاءت التحركات الإسرائيلية البرية في
أعقاب غارات مكثفة على لبنان على مدى الأسبوعين الماضيين، وأسفرت عن سقوط مئات
الضحايا المدنيين، في محاولة للقوات الإسرائيلية فرض واقع جديد مع حزب الله من أجل
تأمين عودة مستوطني الشمال إلى مستوطناتهم.
ويمكن الإشارة هنا، إلى أن إسرائيل من
قبل قامت باجتياح 2006 ولكن في ظروف
مختلفة للغاية، إذ أعقب هجومًا لحزب الله على الحدود مع إسرائيل قتل وأسر جنود
إسرائيليين، وهو ما دفع إلى حرب استمرت 5 أسابيع، شهدت تحرك القوات البرية
الإسرائيلية عبر الحدود إلى جنوب لبنان، وتبعتها الدبابات والمركبات المدرعة وجنود
المشاة، إلا أن مجموعات الحزب المتمركزة في قرى الجنوب اللبناني تصدت لدبابات
الميركافا، ودمرت عددا منها، مما شكل صدمة لجيش الاحتلال الذي أوقف عملياته البرية
وانسحب بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي استند للقرار 1701. وقد شكلت تلك التجربة أحد أهم المحددات التي يحاول جيش الاحتلال عبر
الأشهر الماضية لتفاديها عبر عمليات القصف الجوي المركز.
وكان نائب الأمين العام لحزب الله اللبناني، نعيم قاسم، قد قال إن الحزب مستعد لأي توغل بري إسرائيلي وسيتصدى له بقوة، وذلك في أول تصريح من مسؤول في حزب الله عقب مقتل نصر الله. ومع أول بيانات حزب الله بشأن تصديه لقوات إسرائيلية خاصة حاولت التسلل إلى قرى الجنوب اللبناني واعتراف الجيش الإسرائيلي بمقتل عدد من جنوده في أول اشتباكات مباشرة مع مقاتلي الحزب، تتضح معالم الاتجاه الأولي للعملية البرية المحددة التي أعلنت عنها تل أبيب.
أهداف إسرائيلية
أشارت إسرائيل إلى أن الهدف من التوغل
البري هو تطهير الحدود والسماح بعودة عشرات آلاف السكان، وإنه بمجرد القضاء على
وجود حزب الله بالقرب من الحدود، سيتمكن عشرات الآلاف من المواطنين الإسرائيليين
الذين نزحوا خلال الضربات عبر الحدود بعد 7 أكتوبر من العودة إلى منازلهم. والعمل
على إزالة مواقع حزب الله على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، ومنع ما يسميه
نتنياهو تكرار هجوم السابع من أكتوبر، وذلك بهدف خلق الظروف الملائمة لاتفاق
دبلوماسي يدفع قوات الجماعة اللبنانية إلى ما وراء نهر الليطاني، تماشيًا مع
قرارات الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن تحقيق هذه
الأهداف يتطلب سيطرة دائمة أو طويلة الأمد لمنطقة واسعة تصل إلى العمق اللبناني
وقد يشمل العاصمة بيروت، وهو الأمر الذي يشكك الكثير من المراقبين بقدرة جيش
الاحتلال على تنفيذه في ظل مقاومة حزب الله الذي أثبت في الساعات الأخيرة أن ما
يدعيه الاحتلال الإسرائيلي أنه أضعف قدراته القتالية بعد حملات القصف الجوي
المكثفة.
وعلى الرغم من النتائج الصعبة التي سجلتها المرحلة الأولى من العمليات البرية، فمن المتوقع أن يعمد الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ إستراتيجية توسيع متدرج لعملياته في جنوب لبنان، فقد سبق له أن أعلن أن الفرقة 98 في الجيش بما في ذلك لواء جولاني وقوات خاصة من مختلف القطاعات قد انضمت للقوات المحتشدة في الجبهة الشمالية للمشاركة في العمليات البرية جنوب لبنان. وبناءً على نتائج هذه المرحلة، من المرجح أن ينتقل جيش الاحتلال إلى اجتياح محدود بعمق أقل من 10 كيلومترات على طول الحدود الجنوبية للبنان، وتهدف هذه العملية إلى التأثير على قدرات حزب الله في استخدام الصواريخ قصيرة المدى ومضادات الدروع التي تستهدف القوات المحتشدة على طول الحدود الشمالية، مما يتيح لقوات الاحتلال حرية أوسع في تنظيم عمليات التمركز والحركة لتعزيز حملة الاجتياح في مرحلتها الثانية. وفي مرحلتها الثالثة، تهدف قوات الاحتلال الإسرائيلي للوصول لنهر الليطاني الذي بات يشكل حدًا فاصلًا فيما تعتقد إسرائيل أنه ضروري لتفكيك بينة حزب الله القتالية خاصة الصواريخ متوسطة المدى التي يمكن لها أن تستهدف العمق الإسرائيلي، وتعد هذه المرحلة في المنظور الإسرائيلي، مساحة الحرب الرئيسية والفاصلة في تحديد اتجاه الحملة البرية ضد لبنان، ومن المتوقع أن يحشد جيش الاحتلال فرقتين إضافيتين لهذه المرحلة.
استراتيجية حزب الله
يحاول مقاتلو الحزب الاقتراب إلى
النقطة صفر، بغرض تحييد دور المسيرات، والانخراط في قتال مباشر ومواجهات من مقاتل
إلى آخر، ويعتمد هذا القتال بشكل أساسي على المهارات الفردية لقوات المشاة. كما
يحاول منع الحشود من التقدم، عبر ضرب حشودها، علمًا بأن القوات الإسرائيلية
استأنفت التحشيد في مواقعها والبلدات والمستعمرات الحدودية، بعد أشهر على إخلائها.
وقد كشفت العمليات العسكرية التي
ينفذها حزب الله لمواجهة التوغل البري الإسرائيلي بجنوب لبنان، عن استراتيجية
القتال التي تقوم على إعداد الكمائن، وقصف خطوط الدعم، وضرب الحشود قبل انطلاقها. وقد أصدر
حزب الله في اليوم الأول من المواجهات المباشرة على الحدود الجنوبية، 27 بيانًا،
أعلن فيها عن التصدي لقوات من المشاة ومحاولات توغل، فضلاً عن قصف مواقع مدفعية
وتجمعات لجنود إسرائيليين قرب المواقع العسكرية الحدودية، إضافة إلى تفجير عبوات،
وإطلاق نيران الدفاع الجوي باتجاه مروحية وإنه فرض بهذا الاستهداف حظرًا جويًا على
المروحيات قرب المنطقة الحدودية.
وقد أظهرت هذه الاستراتيجية أن الحزب
أعد خططًا مسبقة لمواجهة التدخل العسكري البري تعتمد على مجموعات دفاعية ومجموعات
إسناد، وترتبط بآليات تنسيق، كون مجموعات الإسناد يُفترض أن تكون بعيدة عن مجموعات
الدفاع على الخط الأول، وترتبط أيضًا بمجموعات الرصد ومجموعات التحرك السريع التي
تعد الكمائن لمواجهة التوغل، وفق ما يقول خبراء عسكريون.
تصعيد إقليمي
إن القرار الإسرائيلي بتصعيد الصراع ضد حزب الله قد وجه ضربة
قاتلة لاستراتيجية الرئيس الأمريكي جو بايدن الرامية إلى وقف الحرب في غزة التي
تجتاح المنطقة على مدار الأحد عشر شهرًا الماضية. وبرغم ذلك أعلن بايدن إنه سيعزز الموقف الدفاعي الأمريكي في الشرق
الأوسط، بينما حذر البنتاغون الميليشيات المدعومة من إيران من محاولة استغلال هذه
اللحظة لمهاجمة القواعد الأمريكية. وعلى الرغم من المحاولات الأمريكية السابقة لكبح جماح نتنياهو وإقناع
حزب الله بالتوصل إلى هدنة، شدد رئيس الوزراء الإسرائيلي على أنه سوف يفعل ما يراه
مناسبًا مهما كانت الضغوط من واشنطن.
إن الوضع الميداني يشير إلى أن
المواجهة بين الطرفين باتت مفتوحة على كافة السيناريوهات. وبينما تضع إسرائيل
معادلة انسحاب حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني لإعادة نازحي الشمال إلى مساكنهم
بأمان، يتمسك حزب الله بمعادلة عدم عودة سكان شمال إسرائيل قبل وقف العمليات
العسكرية في غزة. كما أن دخول إيران على خط المواجهات مع إسرائيل يهدد بانزلاق
الأمور الى حرب اقليمية لا يمكن لأحد أن يتوقع كيف ستكون نهايتها، لكن الأمر مرهون
بالرد الإسرائيلي، وعلى الرغم من أن حجم رد طهران أظهر عدم رغبة إيرانية بالدخول
في حرب واسعة، إلا أن الهجوم الإيراني على إسرائيل لم توقف الحرب التي تشنها على
لبنان المتواصلة برًا وجوًا. ومن ناحية أخرى يمكن لإيران أن تطلب من الحوثيين
والجماعات الأخرى تكثيف هجماتهم على إسرائيل والقواعد الأمريكية في المنطقة. ولكن
أياً كان الرد الذي تختاره، فمن المرجح أن تعايره بحيث لا يؤدي إلى إشعال حرب
إقليمية من شأنها أن تجذب الولايات المتحدة ولا تستطيع الفوز بها.
في الختام: إن التصعيد الناشئ بعد
تنفيذ إيران لردها بتوجيه ضربة صاروخية وصفتها بالناجحة استهدف العمق الإسرائيلي
وما سينتج عن ذلك من خيارات لدى الاحتلال الإسرائيلي للرد، سيشكل محددًا أساسيًا
لطبيعة وحدود العملية البرية التي انطلقت وفقًا لمعطيات لم تشمل الرد الإيراني
الأخير. ومن جانب آخر، دفع الهجوم الإسرائيلي على حزب الله في لبنان بعض السياسيين
اللبنانيين البارزين إلى إطلاق مسعى جديد لإنهاء الشغور الرئاسي المستمر منذ
عامين، في محاولة لإعادة الحياة لبلد يعاني من الشلل، بينما يكافح للصمود في ظل
الصراع المتصاعد والتعامل ما تداعياته المحتملة في ظل اتساع رقعة الصراع الإقليمي.