تحالف مضطّرب: فرنسا وديمومة النزعة المُعادية للهيمنة الأمريكيَّة

مقدمة
تلوح بين الحين والآخر بوادر خلاف أو أزمة
دبلوماسيَّة بين فرنسا الولايات المتحدة الأمريكيَّة لتتصدر المشهد وتُلقي بظلالها
على مجرى العلاقات السياسيَّة بين الحليفين الغربيين اللذين ترتد جذورها تحالفهما
إلى سبعينيَّات القرن الثامن عشر عندما دعمت الحكومة الملكيَّة الفرنسيَّة قوات المُستعمرات
الأمريكيَّة الثلاثة عشرة في حربها ضد بريطانيا
إبان حرب الاستقلال الأمريكيَّة (1775- 1783)، تاركةً وراءها جملة من التساؤلات
حول طبيعة هذه العلاقة، وإلى أي مدى يُمكن لحكومتي هذين الحليفين التظاهر بأنهما
تُجدفان في سياستهما الخارجيَّة في اتجاه واحد وليس في اتجاهين مُتعارضين؟ وما إذا
كان مُمكنًا توصيف العلاقة بينهما، في ضوء هذه التوترات المتجددة، بأنها الأكثر
تقلبًا والأقل استقرارًا وانسجامًا في منظومة العلاقات المُتبادلة بين دول التحالف
الغربي، الذي يجمع الولايات المُتحدة بأوروبا الغربيَّة مُنذ الحرب العالميَّة
الأخيرة؟
إنَّ منشأ هذه الخلافات التي تثور بين الفينة والأخرى، وتتحول في
بعض الأحيان إلى ما يُشبه الحرب الباردة في خطابات الساسة الأمريكيين والفرنسيين
على حدٍ سواء، لا يعود بالأساس إلى تقاطع المصالح أو تعارض وجهات النظر بين
الجانبين حول مسائل الخلاف بينهما، بقدر ما يتعلق من ناحيةٍ أخرى، وبدرجةٍ أكبر،
بما يُمكن أن نُسميه التصور الفرنسي للاعتبارات أو المُحددات الحاكمة لعلاقة
أوروبا بالولايات المُتحدة الأمريكيَّة. فالشخصية الفرنسيَّة تميل إلى تأكيد
الاستقلالية، وتشعر بالانزعاج من فكرة التبعية، أو التسليم بمبدأ الهيمنة
الأمريكيَّة المُطلقة. واتساقًا مع ذلك، ترى باريس أنَّ العلاقة بين واشنطن
وأوروبا ينبغي لها أن تكون علاقة تشاركية قوامها الندية والاحترام المُتبادل،
كونها علاقة قائمة بين حليفين متساويين في السيادة دون الالتفات إلى اعتبارات
القوة، وأنَّ المصلحة الأمريكيَّة ليس بالضرورة أن تكون مصلحةً للأوروبيين أيضًا،
ومن هُنا يجدُر عدم الانسياق دائمًا خلف السياسة الخارجيَّة للولايات المُتحدة،
لأن ذلك من شأنه أن يُقلل فرص الأوروبيين في تبني سياسة مُستقلة، ويزيد من تورطهم
في المتاعب الناجمة عن السياسات الأمريكيَّة في العالم. في مُقابل ذلك، تبنت
الإدارات الأمريكيَّة، على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها الحزبيَّة، في سياستها
تجاه أوروبا، تصورًا يتقاطع بصورةٍ واضحةٍ مع الرؤية الفرنسيَّة، فأضحت القارة
العجوز، تبعًا لذلك، غارقةً في مُستنقع التبعية الأمريكيَّة حتى أخمص قدميها.
شكّل الموقف الأمريكي، المُناهض للاستعمار الأوروبي في العالم
الثالث بعد نهاية الحرب العالميَّة الثانية ومُحاولة الولايات المتحدة فرض نوع من
الوصاية على حلفائها الأوروبيين بداية الخلاف الفرنسي/ الأمريكي، وحمل في طياته
بذور النزعة الفرنسيَّة المُعادية للتسلط والهيمنة الأمريكيَّة، إذ كانت واشطن
ترمي إلى وضع حدٍ للوجود الفرنسي والبريطاني، لا سيَّما في منطقة الشرق الأوسط،
تمهيدًا لإفساح المجال أمام التغلغل والتدخل الأمريكي، من أجل إحكام السيطرة عليها
والحيلولة دون تسلل المد الشيوعي إليها، وبخاصةٍ بعد تزايد الأهمية الاستراتيجيَّة
والاقتصاديَّة للمنطقة في ظل تنامي الاعتماد العالمي على النفط وتصاعد وتيرة الحرب
الباردة. كانت فرنسا وغيرها من الدول الأوروبيَّة، في هذه الفترة، تُعاني من وقع
الدمار والانهيار الاقتصادي الذي خلَّفته الحرب العالميَّة الثانية، ومن ثم زاد
اعتمادها على المعونات والقروض الأمريكيَّة المُقدمة تحت مظلة "مشروع
مارشال" كي تتعافى من كبوتها، ولهذا كان القرار السياسي لأوروبا الغربية
برُمته مرهونًا بالموقف الأمريكي.
دفعت هذه الظروف الجديدة التي أفرزتها الحرب، الحكومة الفرنسيَّة،
إلى تنسيق المواقف وقيادة الجهود الأوروبيَّة الرامية إلى انشاء تكتل أوروبي، هذا
التكتل الذي تحول بحلول 1992 إلى ما بات يُعرف اليوم بالاتحاد الأوروبي، والذي
أُريد له موازنة النفوذ الاقتصادي للولايات المُتحدة، خشية أن تغرق أوروبا أكثر في
مأزق التبعية الاقتصاديَّة لواشنطن، وتتحول إلى مُجرد سوق أمريكيَّة.
طموحات شارل ديغول وتقاطعها
مع الغطرسة الأمريكية
إنَّ تعافي فرنسا اقتصاديًا وانتزاعها لأحد المقاعد الخمس الدائمة
في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة قد خلق لدى حكومتها دافعًا آخر، تمثل
في محاولة تعزيز قُدراتها العسكريَّة، ومحاولة تجاوز الانطباع السيء الذي تكون
عنها إبان الحرب العالميَّة الثانية والعودة مجددًا إلى مصاف القوى العُظمى، وكان
يُمكن تحقيق ذلك، من منظور شارل ديغول Charles de Gaulle الذي وصل إلى سُدة الحكم عام 1958 في إطار ما
يعرف بالجمهورية الفرنسية الخامسة، من خلال حيازة باريس للقُنبلة النووية، إدراكًا
منه أنه لا يمكن لأوروبا الاحتماء دائمًا خلف المظلة النوويَّة الأمريكيَّة، بل ينبغي
أن تكون لها مظلتها المُستقلة عوضًا عن ذلك، لأن المصالح ليست دائمة، بل متغيرة على
الدوام في السياسة الدوليَّة التي تحكمها توازنات محددة ومجردة من أي اعتبارات أخلاقيَّة
أو عقائديَّة.
غير أنَّ مساعي فرنسا في هذا المجال اصطدمت
برفض حليفتيها
النوويتين حينذاك؛ الولايات المُتحدة وبريطانيا العُظمى التعاون معها واعراضهما عن
إمدادها بالتقنية اللازمة لإنتاج القنبلة واللحاق بقاطرة القوى النوويَّة، بحجة
حرصهما على سياسة عدم الانتشار النووي، وأمام هذا الرفض الأمريكي قررت باريس
التعويل على قُدراتها الوطنية إذا ما أرادت اللحاق بالركب النووي، وهو ما تحقق في
عام 1960، عندما نجحت في تفجير أولى قنابلها الذرية بالصحراء الجزائرية، في عملية
سرية حملت اسم اليربوع الأزرق.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فلقد ازدادت الأمور تعقيدًا بين فرنسا
والولايات المُتحدة الأمريكيَّة، عندما عرض الجنرال ديغول على واشنطن ضرورة وجود
لجنة ثلاثية لحلف شمال الأطلسي، بقيادة كُل من الولايات المُتحدة، وبريطانيا
العظمى، وفرنسا تتولى اتخاذ القرارات المُتعلقة بعملية الدفاع واستخدام القوة
النوويَّة داخل الحلف، لكن الطلب الفرنسي قُوبل بالرفض، فقامت باريس على إثر ذلك
بإعلان انسحابها من القيادة العسكريَّة للحلف الأطلسي عام 1966.
عُدت هذه الخطوة التي اقدمت عليها فرنسا واحدة من أخطر الأزمات الداخلية
التي واجهها حلف الناتو خلال فترة الحرب الباردة، إذ شكلت صفعةً مدوية للمُعسكر الغربي والولايات المتُحدة الأمريكيَّة
على وجه الخصوص، لا سيَّما وأنَّ هذه الفترة كانت تشهد تصاعدًا متزايدًا في وتيرة الحرب
الباردة بين القطبيين العُظميين، الولايات المُتحدة والاتحاد السوفياتي، على خلفية
الحرب الأمريكيَّة في فيتنام وغيرها من قضايا الصراع الأخرى بين الجانبين.
وفي إطار سعيه لإعادة فرنسا الى واجهة القوى العظمى من جديد، بعد
سلسلة الهزائم العسكريَّة التي منيت بها في الهند الصينيَّة (1945- 1954) والجزائر
(1954- 1962)، أقدم ديغول على تبني سياسة جديدة، ترمي في شقها الأول الى التحرر من
القبضة الأمريكيَّة وفي شقها الثاني إلى تحقيق نوع من الموازنة بين نفوذ القطبين العُظميين
من خلال فرض قوة ثالثة تمثلها فرنسا، فاعترف ديغول بحكومة الصين الشعبيَّة التي رفضت
الولايات المُتحدة الاعتراف بها حتى عام 1970، وفي عام 1966 قام بزيارة الاتحاد السوفيتي
لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين، الأمر الذي اقلق واشنطن، خوفًا من أن تحذو بعض
الدول الأوربيَّة سياسة فرنسا المُتمردة. وهذا التحول في النهج الفرنسي على صعيد السياسة
الخارجيَّة لم يكن ليكتمل بالصورة التي ظهر عليها لو بقيت فرنسا ضمن القيادة العسكريَّة
الموحدة للناتو التي تنفرد واشنطن بتوجيه دفتها.
في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1967، وضعت فرنسا نظام بريتون
وودز Bretton
Woodsالنقدي، الذي تأسس مع
نهاية الحرب العالمية الثانيَّة وتحول بموجبه الدولار الأمريكي إلى غطاء للعملات
الأجنبية بدلاً من الذهب، أمام اختبار ومحك حقيقي، كونها الدولة الأولى التي طلبت
من حكومة الولايات المُتحدة الالتزام بتعهداتها، بموجب هذا النظام واعطائها ذهبًا
في مُقابل فائض الدولار الذي لديها. وبهذه الخطوة فتحت فرنسا الباب أمام بقية
الدول الأخرى كي تحذو حذوها، وهو ما سبب تناقصًا كبيرًا في مخزون الذهب الأمريكي،
الأمر الذي عجل بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون
Richard Nixon إلى الإعلان عن وقف
العمل تبعًا لاتفاقيات بريتون وودز، وهو ما كان يعني أن الولايات المتحدة لم تعد مُلزمةً
بعد اليوم بتوفير الذهب في مُقابل ما تكتنزه الدول من الدولار.
حروب الخليج وتعارض الرؤى
الفرنسيَّة الأمريكيَّة حول الشرق الأوسط
أظهرت حروب الخليج، وتحديدًا حربي الخليج الثانية (1990) والثالثة
(2003)، وجود اختلاف جوهري في الرؤى، وليس خلافًا سياسيًا، بين القيادتين
الفرنسيَّة والأمريكيَّة. ففي أثناء حرب الخليج الثانية، أو ما يُعرف بالغزو
العراقي للكويت في أغسطس 1990، كانت فرنسا إحدى دول التحالف الدولي الذي دعت
واشنطن إلى تشكيله لمواجهة التهديد العراقي، لكن باريس جاءت إلى الشرق الأوسط في
خضم هذه الأزمة تحمل معها رؤية مختلفة عن التصور الأمريكي بشأن الهدف العسكري لهذا
التحالف، ففي حين كان الأمريكيون، ويُشاركهم في ذلك حلفائهم من البريطانيين، يرون
ضرورة تدمير القوات العراقيَّة بعد انسحابها من الكويت، كانت فرنسا، من جانبها،
ترى بأن الهدف العسكري لا ينبغي أن يتجاوز، بأي حال من الأحوال، تحرير الأراضي
الكويتية من القوات العراقيَّة وتأمين حدود المملكة العربيَّة السعودية من أي اعتداء
عراقي قد تتعرض له، دون القيام بأي مُحاولة تستهدف تدمير القوات العراقيَّة، أو
توجيه ضربات جوية ضد أهداف عسكريَّة داخل العراق.
ولعل هذا الموقف الفرنسي كان نابعًا من قناعة الحكومة الفرنسيَّة
بأن الولايات المُتحدة ورطت النظام العراقي في هذه الأزمة من أجل اسقاطه، كونه
يُمثل في تصورها تهديدًا لأسواق النفط وأمن حلفائها في المنطقة، وفي مقدمتهم
إسرائيل. ومن ثم كان صدام حسين في نظر باريس ضحية مؤامرة أمريكية. وتفاديًا
لانخراط القوات الفرنسيَّة في أي عمل عسكري ضد العراق، ارتأت الحكومة الفرنسيَّة
ألا يتحرك أحد جنودها خطوةً واحدةً دون الحصول على موافقةٍ مُسبقةٍ منها. ولضمان
استقلالية الموقف الفرنسي في هذه الأزمة، قرر وزير الدفاع الفرنسي نشر قواته
بعيدًا عن منطقة تموضع القوات الأمريكيَّة داخل الأراضي السعودية، كما فضلت باريس
انضواء قواتها تحت قيادة الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز، قائد القوات
المُشتركة ومسرح العمليات، عوضًا عن انضوائها تحت لواء القيادة الأمريكيَّة برئاسة
الجنرال شوارتزكوف Schwarzkopf.
استمر الموقف الفرنسي، المُناهض للقيام بعمل عسكري ضد العراق
يستهدف تغيير نظامه السياسي بالقوة، قائمًا خلال أزمة الخليج الثالثة عام 2003، إذ
هددت باريس باللجوء إلى استخدام "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي، ردًا
على المساعي الأمريكيَّة الرامية إلى استصدار قرار من المجلس يُجيز لواشنطن
استخدام القوة ضد العراق تحت مظلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المُتحدة. وقد خلف
هذا الموقف الفرنسي ردود أفعال عنيفة وغاضبة من الجانب الأمريكي، وبدا أن بوادر
أزمة حقيقية بين البلدين تلوح في الأفق، يُمكن أن تصل بالجانبين إلى حد القطيعة السياسيَّة.
مشروع الجيش الأوروبي
والحرب الأوكرانية وعودة الصدام الفرنسي الأمريكي
مع وصول الرئيس نيكولا ساركوزي Nicolas Sarkozy إلى السلطة عام 2007، خلفًا
للرئيس المنتهية ولايته جاك شيراك (1995- 2007)، شهدت العلاقات الفرنسيَّة
الأمريكيَّة انفراجةً وتحسنًا ملحوظاً، راوحت على إثره العلاقات الثنائيَّة بين
البلدين مرحلة التقلب والفتور إلى مرحلة أكثر استقرارًا ودفئًا، توجت بعودة باريس
مُجددًا إلى القيادة العسكريَّة لحلف الناتو عام 2009، بعد انقطاع دام لاثنتين
وأربعين سنةً. إلا أنَّ مؤشر العلاقة بين الحكومتين انخفض بحلول عام 2018 إلى
مستوى أكثر برودة، عندما دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون
Emmanuel Macron، الأوروبيين إلى
التفكير في إنشاء جيش أوروبي موحد، موازي للناتو، يأخذ على عاتقه مسئولية تعزيز أمن
القارة الأوروبيَّة ضد مصادر الخطر التي تتهددها سواءً من جانب روسيا أو الصين، أو
حتى الولايات المُتحدة نفسها، بما يساعد الأوروبيين على توفير الحماية لأنفسهم بعيدًا
عن مظلة الحماية الأمريكيَّة، قبل أن يجدد الرئيس الفرنسي دعوته مرةً أخرى في
أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أنَّ دول الاتحاد الأوروبي لم تبد حماسةً لهذه المبادرة
الفرنسيَّة، باستثناء ألمانيا التي أظهرت تأييدًا نسبيًا لها. وقد لاقت هذه الدعوة
الماكرونية استياءً شديدًا من جانب الولايات المتحدة، حيث دعا الرئيس الأمريكي، دونالد
ترامب Donald
Trump، فرنسا ودول أوروبا الأطراف في الحلف إلى الالتزام أولاً بتعهداتها
حول زيادة نفقاتها الدفاعية في ميزانية الحلف إلى النسبة المُتفق عليها وهي 2% من إجمالي
الناتج المحلي لكل عضو، بدلاً من التفكير في بناء جيش أوروبي لا قيمة له.
وجاء اقصاء باريس في منتصف سبتمبر 2021 وعدم دعوتها للانضمام إلى
التحالف الثلاثي "أوكوس AUKUS" الذي دشنته الولايات المتحدة مع بريطانيا العظمى واستراليا
بغرض احتواء النفوذ الصيني ومُحاصرته في منطقة المُحيطين الهندي
والهادئ، ليؤكد حقيقة تباعد الرؤى وتقاطع المصالح الفرنسيَّة الأمريكيَّة من جديد،
ولقد جاء الإعلان عن هذا الحلف غداة إعلان الحكومة الاسترالية تراجعها عن اتفاق
كانت قد أبرمته مع نظيرتها الفرنسية لشراء غواصات غير نووية تعمل بالديزل واتجاهها
بدلاً من ذلك لشراء غواصات نوويَّة من الولايات المتحدة وهو ما اعتبرته فرنسا
طعنةً أمريكية في الظهر.
إذ تدرك الإدارة الأمريكيَّة جيدًا أن فرنسا، وعلى النقيض تمامًا
من بريطانيا، لا تنوي الانخراط في أي تحالفات أمنية وعسكريَّة موجهة ضد الصين، كون
هذه الأخيرة لا تُشكل تهديدًا لأمن الاتحاد الأوروبي أو مصالحه من منظور الحكومة
الفرنسيَّة، وهو ما دفعها إلى استبعاد فرنسا من حلف أوكوس. علاوةً إلى ذلك، ترى
باريس أنّ تنامي النفوذ الاقتصادي للصين يُمكن التكيف معه، بل والاستفادة منه، عبر
تفعيل الشراكة الاستراتيجيَّة في مجال التجارة الخارجية بين بكين والاتحاد
الأوروبي، وأنَّ هذه الشراكة يُمكن توظيفها أيضًا كورقة ضغط ضد الأمريكيين،
وقد تأكدت هذه الرؤية الأمريكية، عندما قام الرئيس ماكرون بزيارة الصين في أبريل
2023، وعاد من هناك برسائل وجهها لنظرائه الأوروبيين مؤداها أن الصين لا تشكل
خطرًا أو تهديدًا لأوروبا، وأنَّ المصلحة الاستراتيجية لهذه الأخيرة تقتضي منها
الناي بالنفس عن الصراع الأمريكي الصيني حول تايوان التي ترفض بكين
استقلالها وتعتبرها جزءًا لا يتجزأ من إقليمها.
وأخيرًا، أدى موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في أعقاب إعادة
انتخابه لولاية رئاسية ثانية، من الحرب الأوكرانيَّة ومحاولة التقارب مع روسيا
والدخول معها في مباحثات مباشرة للتوصل إلى اتفاق دائم للسلام، إلى إثارة مخاوف
فرنسا ومعها دول الاتحاد الأوروبي بشأن إمكانية رضوخ الإدارة الأمريكيَّة للإملاءات
الروسيَّة واعترافها ضمنيًا بروسية الأراضي الأوكرانيَّة المُحتلة منذ عام 2014، وهو
ما يعني تجاهل حقيقة أنَّ الصراع المُسلح في شرق أوكرانيا يُمثل أحد بؤر التنافس الجيوسياسي
بين روسيا والغرب وخسارته تعني منح الطرف الأخر هيمنةً مطلقةً في الشرق الأوروبي،
كما تخشى فرنسا من أنَّ اتفاقًا هشًا للسلام بشأن الحرب في أوكرانيا قد يمنح روسيا
الفرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق، استعدادًا لشن هجوم عسكري موَّسع قد
لا تقوى كييف وحلفاؤها على مواجهته، بدلًا من ذلك، تدعو باريس إلى جانب شركائها
الأوروبيين، إلى ضرورة اعتماد خطة عمل مشتركة لإنهاء الحرب في أوكرانيا وإقرار سلام
دائم وعادل، شريطةً أن يكون هذا السلام مقرونًا بضمانات أمنية موثوقة لكييف.
ختامًا، فإنَّ هامش المُناورة يبدو ضيقًا ومحدودًا بالنسبة لفرنسا بحكم تراجع نفوذها وثقلها الدوليين واتساع الفجوة بين طموحاتها السياسيَّة في التحرر من الهيمنة الأمريكية من ناحية، والواقع الاقتصادي والعسكري "الضعيف" لأوروبا من ناحية أخرى، ومع ذلك يتعين على الولايات المتحدة الأخذ بعين الاعتبار ضرورة احتواء النزعة الفرنسيَّة المُعادية لها والعمل على منع تصاعدها، والالتفات إلى حقيقة أن سجل الوقائع التاريخية لفرنسا في هذا المضمار يُعضد الفرضية القائلة بأن السُلوك الفرنسي فيما يتعلق بمساعي باريس الرامية إلى تأكيد استقلال القرار الأوروبي وتقليل اعتماد الأوروبيين على البيت الأبيض، هو سلوك يتسم بالجدية ولا يمكن التنبؤ بمساره، خاصةً بعد انسحاب المملكة المُتحدة من الاتحاد الأوروبي، واضطلاع فرنسا بدور قيادي فيه.