قراءة في اتجاهات الحزب الديموقراطي ومسارات الانتخابات الأمريكية
أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في 21 يوليو 2024 انسحابه
من السباق الرئاسي ودعمه الكامل لنائبته كمالا هاريس كمرشحة للحزب الديمقراطي
بانتخابات الرئاسة المقبلة، في إعلان مفاجئ قبل أقل من 4 أشهر على الانتخابات
والمقررة في 5 نوفمبر 2024، وبعد أسابيع من الشكوك التي أحاطت بوضعه الجسدي
والذهني أعقاب صدمة مناظرة 27 يونيو 2024 مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
ويمكن الإشارة هنا إلى إن
قرار التنحي ارتبط بالضغوط المتعددة التي مارستها العديد من القيادات الكبيرة
للحزب، من بينهم الرئيس الأسبق باراك أوباما والرئيس السابق لمجلس النواب نانسي
بيلوسي، وهو الأمر الذي دفع بايدن إلى اتخاذ القرار لصالح الحزب ونزولًا على رغبة
قياداته في ضوء قناعات قيادات الحزب الديمقراطي بأنه في حالة ترشح الرئيس بايدن لفترة
ثانية للرئاسة فإن فرص نجاح المرشح الجمهوري المنافس سوف تتزايد في ضوء مجموعة من
العوامل أهمها التذبذب الواضح للحالة الصحية للرئيس بايدن وأدائه السيء خلال
المناظرة السابقة أمام ترامب، بالإضافة إلى الصعود التدريجي لشعبية ترامب عقب
نجاته من محاولة الاغتيال.
وقد جعلت هذه الخطوة بايدن أول رئيس في تاريخ
الولايات المتحدة ينسحب في وقت متأخر من السباق الانتخابي، وأول رئيس ينسحب بسبب
مخاوف بشأن صحته العقلية. وتحظى الانتخابات الرئاسية
الامريكية بأهمية كبيرة لما لها من خصوصية داخلية وتداعيات دولية وإقليمية، وعلى الرغم
من عدم تسمية المرشح المحتمل من جانب الحزب الديموقراطي إلا أن هاريس تحاول الحصول
على دعم الحزب في هذه الانتخابات، ويمكن القول إن سياسة هاريس في حال ترشحها أو
فوزها أو ترشيح غيرها من كوادر الحزب ستبقى بصورة عامة بمثابة امتدادًا لسياسة
بايدن فيما يتعلق بإدارته وتعامله مع هذه الملفات، وعلى الرغم من ذلك فقد اصطف خلف
هاريس جميع الديمقراطيين البارزين اللذين كان يُنظر إليهم على أنهم منافسون
محتملون لها، بما في ذلك غريتشن ويتمر حاكم ولاية ميشيجان وجافين نيوسوم حاكم
كاليفورنيا وآندي بشير حاكم كنتاكي. ومن ثم من المتوقع أن تحافظ نائبة الرئيس
الأميركي كامالا هاريس إلى حد كبير على نهج الرئيس جو بايدن في السياسة الخارجية
إزاء ملفات مثل الصين وإيران وأوكرانيا، لكنها قد تتبنى لهجة أكثر صرامة مع
إسرائيل بشأن حرب غزة إذا حصلت على ترشيح الحزب الديمقراطي وفازت في انتخابات
نوفمبر. من ناحية أخرى، يتهيأ العالم للتعامل مع إدارة جمهورية برئاسة دونالد ترامب الذي يمتلك
سياسات واضحة تتعارض مع سياسات الإدارة الديمقراطية لبايدن.
إن انسحاب الرئيس الأميركي
من السباق الرئاسي يثير مزيدًا من عدم اليقين بشأن حربي غزة وأوكرانيا ونزاعات تجارية
فضلا عن تحديات أخرى كالعلاقات مع الصين وإيران، وفيما
يلي أبرز هذه القضايا خاصة تلك التي تم تناولها في المناظرة الرئاسية أو في خطابات
المرشحين:
* الحرب بين حماس وإسرائيل.
انتقد ترامب سياسات بايدن التي زعم أنها تسببت في حدوث
هجوم السابع من أكتوبر، قائلًا إن إدارته السابقة جففت كل الإيرادات لطهران، وهو ما
جعلها غير قادرة على دعم حماس أو أي جماعات مسلحة في المنطقة. في المقابل، قال
بايدن إنه في عهد ترامب هاجمت إيران مئات الجنود الأمريكيين وتسببت في إصاباتهم،
مضيفًا أن "مجلس الأمن ومجموعة السبع وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي،
بنيامين نتانياهو، وافقوا على خطة مقترحة بثلاث مراحل، وأشار إلى أنه يضغط بشدة
لجعل حماس توافق على الخطة، كما دافع بايدن عن قراره بتعليق إرسال قنابل تزن 2000
طن (أكثر من 900 كيلو جرام)، لأنه من الصعب أن تستخدم في مناطق مأهولة. وأكد أن
الولايات المتحدة أكبر داعم لإسرائيل، مشيرًا إلى أنه تم إضعاف حماس وعلينا القضاء
على الحركة.
ومن المتوقع أن يسعى بايدن إلى أن يحصل من رئيس الوزراء
بنيامين نتنياهو على موقف واضح بشأن موافقته على التوصل إلى هدنة في قطاع غزة، وهو
ما يمكن أن يضيف بعض الإيجابيات النسبية لحملة الحزب الديموقراطي.
من ناحية أخرى، تتجه الأنظار إلى نائبة الرئيس كمالا
هاريس كبديل محتمل لبايدن في حين تواجه إسرائيل عزلة عالمية متزايدة بسبب حملتهم
العسكرية على حركة حماس في غزة وأن هناك ضعف في سجل دعم هاريس لإسرائيل خاصة أنها وجهت
اللوم إلى إسرائيل بسبب هجومها على غزة. وفي الأشهر الأخيرة، ذهبت
هاريس إلى أبعد من بايدن في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وإدانة الغزو الإسرائيلي
لرفح، والتعبير عن الرعب إزاء عدد القتلى المدنيين في غزة؛ حيث سيحتل الصراع
الإسرائيلي الفلسطيني مكانة متقدمة على جدول أعمالها وخاصة إذا كانت حرب غزة لا
تزال مستعرة.
* الحرب الروسية على أوكرانيا
اختلف بايدن وترامب بشدة
حول موقفهما من الحرب الروسية الأوكرانية، ونطاق المساعدات الأميركية لكييف،
ومساهمات واشنطن في حلف الناتو؛ حيث انتقد ترامب سياسات بايدن تجاه حرب أوكرانيا،
وقال: "لو كان هناك رئيس حقيقي يحترمه (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين لما
غزا بوتين أوكرانيا"، مضيفًا: "كان بايدن سيئًا في أفغانستان، وبوتين
راقب هذا وراقب عدم الكفاءة"، وعندما "شاهد بوتين ذلك، قال إنه سيذهب
ليغزو أوكرانيا فهذا حلمه". وأكد أن شروط بوتين غير مقبولة، ولكن الحرب كان
يجب ألا تبدأ، وأن بايدن أعطى "200 مليار دولار لأوكرانيا"، واصفا
الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، بـ"أفضل بائع" لأنه كلما يأتي
لواشنطن يحصل على المليارات. وقال موجها حديثه لبايدن: "ما كان يجب أن تنفق
هذه المليارات"، وأكد أن الحرب ستنتهي قبل استلامه لمنصبه.
من جانبه رد بايدن بأن ما يحدث في أوكرانيا كان بتشجيع
"ترامب بوتين ليفعل كل ما يريد". وقال إن "بوتين أراد السيطرة على
كييف في أيام، ولكنه لم يتمكن من ذلك وخسر الآلاف". ووصف بايدن بوتين
بـ"مجرم حرب قتل الآلاف، ويريد إعادة الإمبراطورية السوفيتية ولن يتوقف عند
أوكرانيا لو نجح في الحرب سيستمر إلى دول أخرى".
من المرجح أن يلتزم أي مرشح
ديمقراطي بإرث بايدن المتمثل في الدعم العسكري الصارم لأوكرانيا. لكن الإحباط من
إدارة بايدن تزايد في أوكرانيا وأوروبا بسبب بطء وتيرة إرسال المساعدات العسكرية
الأميركية، بالإضافة للقيود المفروضة على استخدام الأسلحة الغربية.
* الموقف من الصين
أظهر كل من بايدن وترامب
خلال الأشهر الماضية للناخبين قدرة كل منهما على الوقوف بشكل أفضل في مواجهة القوة
العسكرية المتنامية والجرأة المتزايدة لبكين، وحماية الشركات والموظفين الأميركيين
من الواردات الصينية منخفضة الأسعار. وقد رفع بايدن الرسوم الجمركية
على السيارات الكهربائية المستوردة من الصين، ووعد ترامب بفرض رسوم جمركية نسبتها
60% على جميع المنتجات الصينية. كما أدى شعار ترامب أميركا أولًا
إلى تفاقم التوترات مع بكين خلال فترة رئاسته. لكن الخلافات مع المنافس الجيوسياسي
والعملاق الاقتصادي حول الحروب والتجارة والتكنولوجيا والأمن استمرت خلال ولاية
بايدن.
بالنسبة لهاريس فقد أبقت نفسها
منذ فترة طويلة ضمن التيار السائد بين الحزبين في واشنطن بشأن حاجة الولايات
المتحدة لمواجهة نفوذ الصين، خاصة في آسيا. ويقول محللون إنها من المرجح أن تحافظ على موقف بايدن المتمثل في
مواجهة بكين عند الضرورة بينما تسعى أيضًا إلى إيجاد مجالات التعاون. وضمن السياق
ذاته، قادت هاريس الجهود الدبلوماسية الأمريكية لتعزيز علاقات واشنطن في منطقة
آسيا المهمة اقتصاديًا، كما اتهمت هاريس الصين بمحاولة إجبار جيرانها الأصغر على
مزاعم سيادتها على مناطق في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه. كما عملت هاريس على تعزيز تحالفات واشنطن مع اليابان وكوريا
الجنوبية، الحليفتين الرئيسيتين اللتين يساورهما القلق إزاء التزام ترامب بأمنهما.
* الموقف من إيران
مع انخراط وكلاء إيران
بالشرق الأوسط على نحو متزايد في الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، تواجه الولايات
المتحدة منطقة تعاني من الفوضى؛ حيث قصف الحوثيون المدعومون من إيران، تل أبيب
للمرة الأولى، وهو ما أدى إلى ضربات إسرائيلية انتقامية داخل اليمن.
كما أثارت التوترات
المتصاعدة والهجمات العابرة للحدود بين حزب الله اللبناني - المدعوم من إيران أيضا
- والجيش الإسرائيلي مخاوف من اندلاع حرب إقليمية شاملة. كما اتهمت الولايات
المتحدة وحلفاؤها إيران بتوسيع برنامجها النووي، وتخصيب اليورانيوم إلى مستويات
غير مسبوقة تصل إلى 60%، والتي تقترب من مستوى تصنيع الأسلحة. بعد انسحاب ترامب
عام 2018 من الاتفاق النووي، قال بايدن إنه يريد التراجع عن موقف سلفه المتشدد
المناهض لإيران.
لكن إدارة بايدن أبقت على
عقوبات اقتصادية صارمة بحق إيران، وأشرفت على محاولات فاشلة لإعادة التفاوض على
الاتفاق النووي. أدت الوفاة المفاجئة لإبراهيم رئيسي إلى وصول إصلاحي جديد إلى
منصب الرئاسة في إيران، ما ولد فرصا ومخاطر جديدة، في حين قال الرئيس الجديد مسعود
بزشكيان إنه يريد مساعدة إيران على الانفتاح على العالم، لكنه التزم بلهجة تحدي
الولايات المتحدة.
من المتوقع أيضًا أن تحافظ
هاريس على ثباتها في مواجهة إيران، العدو اللدود لإسرائيل في المنطقة، والتي أثارت
تطوراتها النووية الأخيرة إدانة أميركية متزايدة، وإن التهديد المتزايد المتمثل في
تسليح البرنامج النووي الإيراني قد يمثل تحديًا كبيرًا ومبكرًا لإدارة هاريس، لا
سيما إذا قررت طهران اختبار الزعيمة الأميركية الجديدة.
* العلاقات مع أوروبا والناتو
كان العديد من قادة أوروبا سعداء برؤية ترامب يرحل بعد
السنوات التي قضاها مستخفًا بالاتحاد الأوروبي، ومقوضًا لحلف شمال الأطلسي، خاصة
أن ترامب لم ينجح في تهدئة هذه المخاوف، وهذا الاتجاه خلال المناظرة الرئاسية، ومن
ناحية أخرى، دعم بايدن العلاقات الأميركية الوثيقة مع زعماء الاتحاد الأوروبي.
وظهر هذا التقارب بقوة عقب قرار بايدن الانسحاب من السباق الرئاسي وهو ما أعلنه
قادة الدول الأوروبية بأن بايدن حافظ على وحدة القيم المشتركة، في حين يدرك معظم
الأوروبيين أن أوكرانيا ستصبح عبئا عليهم بشكل متزايد في حال فوز ترامب والجميع
يحاول الاستعداد لكل النتائج المحتملة، وإنهم لا يريدون أن يروا دونالد ترامب رئيسًا،
هناك قدر كبير من التوتر بشأن قرار بايدن بالانسحاب من دعم الحلف، ولمواجهة هذه
المخاوف أشارت هاريس إلى أنها لن تحيد عن دعم بايدن القوي لحلف شمال الأطلسي
وستواصل دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا. ويتناقض هذا بشكل حاد وسط تعهد الرئيس السابق ترامب بإجراء تغيير جذري
في علاقة الولايات المتحدة مع التحالف والشكوك التي أثارها بشأن إمدادات الأسلحة
المستقبلية إلى كييف. في الوقت نفسه، رفضت روسيا أهمية الانتخابات الأميركية
بالنسبة للحرب، وشددت على أنه بغض النظر عما سيحدث، فإن موسكو ستواصل الضغط على
أوكرانيا.
* الانسحاب من أفغانستان
وصفه ترامب بأنه أسوء يوم في تاريخ الولايات المتحدة
الأمريكية والأكثر إحراجًا؛ حيث برر أن إدارة بايدن تركت خلفها في أفغانستان آلاف
الجنود والعديد من المعدات التي تقدر بمليارات الدولارات، أما بايدن فقد تفاخر
بأنه الرئيس الوحيد في هذا العقد الذي لم يمت في عهده أي جندي أمريكي. كما أعلن
بايدن إنه عندما تسلم منصبه "كانوا لا يزالون يُقتَلون في أفغانستان، ولم
يفعل (ترامب) شيئًا حيال ذلك"، قاصدًا بذلك الجنود الأمريكيين هناك، مشيرًا
إلى أنه الرئيس الأمريكي الوحيد في هذا العقد الذي لم يقتل فيه أي جندي في أي مكان
في العالم، كما فعل هو في إشارة إلى ترامب.
ومن المحتمل أن يكون هناك استمرارًا لإعادة توجيه
الانتشار العسكري الأمريكي في كثير من مناطق العالم في حال فوز كمالا هاريس أو أي
مرشح للحرب الديموقراطي، وهذا الاتجاه سيرتكز على البعد المناطقي؛ أي أنه الولايات
المتحدة في حال وصول إدارة أمريكية ديموقراطية على سبيل المثال ستتجه واشنطن إلى إعادة
توجيه قواتها العسكرية من الشرق الأوسط إلى منطقة الاندوباسيفك أو دول شرق أوروبا.
في الختام: يبدو أن الساحة الأمريكية بصدد سباق رئاسي
محتدم سيساهم في تعقيد المشهد على الساحة الأمريكية التي تعاني بالفعل مجموعة من
المشكلات المركبة والمعقدة التي تضر بالنموذج الذي تقدمه والمكانة التي تحتلها على
الساحة الدولية. وعلى هذا النحو، يتضح أن السباق الرئاسي الأمريكي لعام 2024 لا
يزال مرشح للمزيد من المفاجآت والتطورات غير المتوقعة التي لن تضع قيودًا على
استشراف المسار الذي سيسير فيه السباق الرئاسي فحسب، وإنما ستفرض عوائقًا أيضًا
أمام استشراف النتائج المرتبة على وصول الفائز إلى البيت الأبيض في الملفات
والقضايا المختلفة المطروحة.