يوما بعد يوم تتجه تركيا إلى التقارب
مع الدول العربية، وتغيير سياستها تجاه عدد من البلدان في المنطقة بما فيها سوريا؛
حيث أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، انفتاحه على فرص إعادة علاقات بلاده مع
السلطات في سوريا ورئيسها بشار الأسد، وإنه لا يوجد أي سبب لعدم إقامة علاقات بين
تركيا وسوريا، مشيرًا إلى أنه لا يستبعد احتمال عقد اجتماع مع نظيره السوري بشار
الأسد للمساعدة في استعادة العلاقات الثنائية بين البلدين. في حين كشفت مصادر
سورية عن خطوات مرتقبة وجدية لعودة جلوس الطرفين السوري والتركي على طاولة الحوار،
وأن هناك اجتماع مرتقب بين سوريا وتركيا يجري التحضير له في العراق.
ويمكن الإشارة هنا، إلى أن عملية
التفاوض مع تركيا ستكون طويلة، لكن ستؤدي لتفاهمات سياسية وميدانية، وهو ما دفع
الجانب التركي إلى الطلب من موسكو وبغداد الجلوس على طاولة حوار ثنائية مع الجانب
السوري ومن دون حضور أي طرف ثالث وبعيدًا عن الإعلام للبحث في كل التفاصيل التي من
المفترض أن تعيد العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها والاتفاق حول المناطق
الحدودية. بالإضافة إلى ذلك، تلقى خطوة إعادة التفاوض والحوار للتقريب بين أنقرة
ودمشق، دعمًا عربيًا واسعًا، كما تلقى دعمًا من جانب روسيا والصين وإيران؛ حيث
تعتبر هذه الدول أن الظروف تبدو حاليًا مناسبة لنجاح هذه المفاوضات.
توترات متصاعدة
شهدت سوريا منذ بداية الحرب في مارس 2011 تدخلات عسكرية متعددة
من قِبل تركيا، تركزت في مناطق شمال البلاد. واستهدفت العمليات العسكرية التركية في سوريا تنظيمات مثل تنظيم الدولة
الإسلامية ووحدات حماية الشعب الكردية الموالية لحزب العمال الكردستاني "بي
كي كي"، وكانت هذه العمليات تهدف لتحقيق ضرورات أمنية وسياسية واقتصادية،
بحسب الرؤية التركية؛ حيث شنت عملية درع الفرات (2016-2017)، ثم عملية غصن الزيتون
(2018)، بالإضافة إلى عملية نبع السلام (2019).
وعلى الرغم من التوترات المستمرة، إلا أن هناك بعض المحاولات
لتحقيق تقارب بين البلدين والتي بدأت منذ عام 2016 على المستوى الثنائي أو من خلال
2017 محادثات مسار أستانا بشأن سوريا، برعاية الدول الضامنة تركيا وروسيا وإيران،
بالإضافة إلى ممثلي الحكومة والمعارضة السورية، والتي وهدفت إلى إيجاد حل للأزمة
في سوريا.
من ناحية أخرى، وفي ظل الجهود المتواصلة لتطبيع العلاقات
التركية السورية، لا تزال هناك تحديات كبيرة تعترض طريق التقارب بين البلدين،
أهمها التواجد العسكري التركي في شمال سوريا، والذي تراه دمشق احتلالًا لأراضيها
وتشترط زواله لتطبيع العلاقات، وهو ما ترفضه أنقرة حتى الآن بذريعة وجود قواتٍ
كردية على حدودها الجنوبية تشكل خطرًا على أمنها القومي. كما أن هناك انعدام ثقة
متبادلة بين البلدين نتيجة سنوات من الصراع والدعم التركي للمعارضة السورية.
بالإضافة إلى ذلك، وبعد الإعلان عن إمكانية تحقيق التقارب بين
سوريا وتركيا، اندلعت موجات عنف داخل كل من تركيا وسوريا؛ حيث أوقفت السلطات
التركية، ما يقارب 500 شخصًا بعد أعمال عنف طالت مصالح سوريين في تركيا إثر اتهام
سوري بالتحرش بطفلة، وهو ما أدى تعزيز التحريض ضد اللاجئين السوريين والاستفزازات
التي تسبب التوتر الشعبي بين الجانبين كما حدث في أحياء مدينة قيصري، ويمكن الإشارة هنا إلى أعمال
الشغب واستهداف السوريين هو أمر يتكرر دومًا، والسبب في ذلك يعود لعدم اكتراث
السلطات التركية لحقوق اللاجئين السوريين خشية إزعاج القوميين الأتراك الذين يقفون
خلف هذه الهجمات ويحظون بامتيازات في تركيا، ولعل هذه الأحداث دفعت المواطنين في
شمال سوريا إلى التظاهر تعبيرًا عن استيائهم من استهداف مصالح سوريين في تركيا
بجانب اقتحام المتظاهرين نقاط تركية وإنزال الأعلام التركية.
مسارات وتحديات
يمكن القول إن السياسة التركية تجاه
سوريا هي جزء من سياسة إقليمية أوسع تتعلق بإنهاء حالة التوتر والخلافات مع دول
المنطقة إلا أن ذلك لا يعني انسيابية العودة مجددًا للتوافق التركي السوري فلسوريا
حالتها الخاصة وملفاتها الشائكة والتي تتميز بتداخل أكثر من قوى إقليمية ودولية
وهو ما يعني وجود صعوبات كثيرة تحيط بمسار هذه العملية، وبالتالي فسيقع على تركيا
بعد تصريح أردوغان بالانفتاح على كافة المبادرات أن تتعامل بصورة صادقة مع هذه
الدعوات سواء من الجانب السوري أو الإقليمي والدولي ولعل هذا التصريح يدل على
إمكانية إشراك أطراف أخرى في هذا المسار وعدم اقتصاره على تركيا وسوريا.
على الجانب الآخر، هناك معضلات كبيرة
تقع حائلًا أمام تطوير هذه العلاقات أهمها التدخل العسكري التركي في مناطق الشمال
حيث تمركز الأكراد ودعم الجماعات المسلحة في إدلب بالإضافة إلى مشاكل اللاجئين وهو
ما يتطلب وضع تصورات شاملة حول كل قضية وما يمكن أن يقدمه كل طرف للآخر والضمانات
المحيطة بتلك العملية.
ومن المتوقع أن يكون هناك زخم
كبير في الزيارات المتبادلة بين الجانبين وبمشاركة أطراف ثالثة لتسهيل عمليات
التفاوض والخروج بتوصيات حول كل ملف عالق
بينهما، ويمكن الإشارة هنا أن ما يعزز احتمالية حدوث هذا التقارب يتمثل في الرغبة
التركية للعودة مجددًا إلى تسوية الخلافات مع جيرانها خاصة أن التفاهمات التركية
العراقية الأخيرة ستنعكس على مسار هذا التفاوض، وبالنسبة لسوريا فإنها وضعت مجموعة
من الشروط التي يجب العمل عليها قبل الشروع في الدخول إلى هذه العملية ومن ثم
سيتعين على تركيا تقديم تنازلات أولية في هذه الملفات في محاولة لاستمالة الجانب
السوري نحو الانخراط في هذه العملية، وبالتالي من غير المرجح أن يكون هناك لقاء
على مستوى الرؤساء وإن حدث سيكون بهدف السماح للجان الفنية من الجانبين لمناقشة
القضايا العالقة والسماح بحرية أكبر في تناولها من جانب وفود الدولتين.
استجابات متعددة
أثارت تصريحات للرئيس التركي عن
استعداد أنقرة لتطبيع العلاقات مع النظام السوري، بعد أيام من كلام مماثل للرئيس
السوري بشار الأسد، مخاوف كثير من أوساط المعارضة السورية، وخاصة الإدارة الذاتية
الكردية التي تسيطر على مناطق واسعة من البلاد؛ ويتوجس أكراد سوريا من التقارب بين
تركيا والنظام السوري، بعد سنوات من العداء والقطيعة قد تهدد مكاسب الإدارة
الذاتية، واحتمال شن أنقرة عملية عسكرية جديدة ضد مناطق نفوذ الإدارة شمال شرقي
سوريا. كما أن هناك مخاوف وهواجس حقيقية
لدى المعارضة السورية، وخاصة التي لديها وجود على الأراضي التركية مثل (الائتلاف
الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وغيره).
ويمكن الإشارة هنا إلى أن هذا الإعلان
التركي جاء بعدما طلبت أنقرة من دمشق مرارًا بمنع إجراء الانتخابات المحلية في
مناطق نفوذ الإدارة الذاتية بعد إعلان الأخيرة تأجيل تنظيم الانتخابات إلى شهر
أغسطس 2024؛ حيث أن روسيا تعمل على استثمار الغضب التركي من الانتخابات المحلية
التي تعتزم قسد إجراءها في تحقيق اختراق نوعي لتحقيق التقارب بين سوريا وتركيا؛
حيث بدا واضحًا الغضب التركي من الانتخابات بعدما لوح الرئيس رجب طيب أردوغان
بالخيار العسكري لمنع حدوث هذا السيناريو.
ويستند الطرح الروسي على إعطاء زخم
جديد لمسار أستانا وتفعيل الآلية من أجل معالجة مخاوف تركيا الأمنية، والعمل على
تطبيق مذكرات التفاهم السابقة التي تتضمن إبعاد التنظيمات الإرهابية من المناطق
الحدودية التركية مثل تل رفعت ومحيطها، ومنبج. بالمقابل، يتم العمل على حل
الخلافات العالقة في إدلب وتنفيذ الاتفاقيات بخصوصها وتسهيل عمل مؤسسات الدولة
فيها، وفتح الطرقات الدولية. وبحسب الرؤية الروسية، فإن العودة إلى طاولة
المفاوضات بين أنقرة ودمشق يجب أن تكون بلا شروط من طرف سوريا، ثم يتم نقاش إعادة
انتشار القوات التركية بشكل تدريجي، بعد بناء الثقة بين الجانبين.
في الختام: هناك الكثير من الملفات
المشتركة بين سوريا وتركيا خاصة فيما يتعلق بأمنها القومي بداية من الأكراد
واللاجئين وأخرى مثل إعادة الإعمار، إذ سيعود التقارب على أنقرة بالحصول على مكاسب
وإيقاف تفاقم الأوضاع الداخلية، ومن غير المستبعد أن تتطور التفاهمات في كثير من
الملفات العالقة بين الجانبين، وعلى الرغم من أن أنقرة تركز جهودها على تقويض
سيطرة حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، فإنها تبدو مستعدة للخيار العسكري في
سوريا، لأنها ترى في الانتخابات التي تريد قسد إجراءها خطوة لفرض أمر واقع جديد.
وهذا يدفع بطبيعة الحال إلى تفعيل التفاهمات مع الدول الفاعلة في الملف السوري،
خاصة الجانب الروسي، إلا أنه من المبكر الحديث عن توافقات كاملة.