أكثر من أربعين سنة من الخطاب الثورجي والقومجي في ليبيا لم يغيّر شيئاً من البنية التقليدية للبلاد، فقد ظلّت محكومةً بمنطق القبيلة، لأنّ النظام السابق لم يبنِ الدولة. ومن هنا، فانفجار العامل القبلي لم يكن إلاّ نتيجة منطقية لسياسات الماضي، أضيفت إليها أطماع الحاضر من الأطراف الليبية والأجنبية معاً.
لا شكّ أنّ هذا العامل القبلي سيمثل التحدّي الأكبر لحكومة فائز السرّاج، التي تتقدّم بخطى وطيدة لاحتلال الريادة في المرحلة المقبلة، بعدما فشلت عملية الانتقال الديموقراطي في ليبيا منذ 2013، ثم فشل مشروع الإخوان («فجر ليبيا») في السيطرة على البلد بالميليشيات، ثم فشل خليفة حفتر في السيطرة عليه بقوات الجيش الموالية له.
فالمرحلة التي تدخلها ليبيا اليوم مختلفة نوعياً، لكنّها تواجه كمّاً من التحديات لا يقلّ ثقلا عن تحديات المراحل السابقة. ويمكن لدولة قوية أن تستوعب شيئا فشيئا العامل القبلي، أما ضعف الدولة فيؤدّي دائما إلى العكس، حيث تعتصم الجماعات بروابطها القديمة، بسبب فقدان حماية الدولة، ثم تدور الأحداث في حلقة مفرغة: عودة نظام الدولة تقتضي تجاوز الروح القبلية، لكن الإحساس بالخطر يدفع أكثر الناس إلى الاعتصام بتلك الروابط تحقيقا لأمانٍ حقيقي أو نفسي. ولهذا السبب تدخل المجتمعات في صراعات داخلية طويلة يصعب حلّها.
ويبدو أن الغرب اعتمد في ليبيا منهجاً يقوم على فكرة «دعهم يستنفدون ذخائرهم»، فترك الفرقاء يتحاربون بعدما أخضعهم لحظر السلاح، وتركهم ينفقون المدخرات المالية للبلاد بعدما جمّد الأصول الليبية في الخارج. والنتيجة ما نراه اليوم: فقد البلد السيولة المالية وأصبح الشغل الشاغل لليبيين الاصطفاف يوميا أمام المصارف لعلّهم يحصلون على بعض المال، وتراجع الإنتاج النفطي إلى أدنى مستوياته التاريخية، فلم يعد يتجاوز بضع مئات من آلاف البراميل يومياً على رغم المخزون النفطي الهائل للبلاد.
لا يمكن فهم السهولة النسبية التي استطاع بها فائز السراج فرض نفسه خارج هذا الضغط الطويل المدى الذي حاصر به الغرب الميليشيات المتنازعة، فأدرك الجميع أنّ السرّاج لا تسنده قوّة السلاح ولا قوّة السياسة، لكنه يمسك بمفتاح المال. وليس من الصدفة أن أوّل مستقبليه والمعترفين بسلطته رئيس المصرف المركزي وقائد حرس المنشآت النفطية.
فائز السراج، المتحدر من أسرة من العاصمة، ليس وراءه أيضاً سند قبلي قوي، لكن كل رهانه يقوم على تحويل هذا الأمر إلى عامل قوّة. فهو أيضاً غير مرفوض من أي طرف قبلي، ويمكن أن يكون الجامع لكلّ القوى القبلية.
من المهم متابعة هذه التجربة الجديدة، لأنّها قد تؤدّي للمرة الأولى إلى تحقيق بعض النجاح. فقد فشلت تجربتان سابقاً وانتهتا إلى فشل ذريع: في أفغانسان، وبعد الحرب الأهلية التي أعقبت الانسحاب السوفياتي، شجعت الولايات المتحدة حركة طالبان المسنودة بالفصيل القبلي الأقوى، قبائل الباشتون، لتحقيق شيء من الاستقرار، وبدا الأمر كذلك لفترة قصيرة، إذ نجحت طالبان في تخفيف العنف وفرضت سيطرتها على القبائل المتنازعة، بيد أن الثمن كان باهظا، دفعه الأفغان أوّلاً بالخضوع إلى حكم بربري مناف للحدّ الأدنى من مقوّمات الإنسانية والحرية، ثم دفعه الغرب عندما فرّخ المناخ الطالباني تنظيم «القاعدة». وفي العراق، دفعت الولايات المتحدة إلى تسليح القبائل السنية في ما عرف بتجربة «الصحوات»، لتواجه بها «القاعدة» وتحقّق نوعا من التوازن مع الميليشيات الشيعية، لكنها لم تُقم حساباً للمستقبل، فتحوّل العراق ساحة حرب بلا هوادة بين الميليشيات المسلّحة.
الرئيس أوباما عمل منذ البداية على ألاّ يكون في واجهة الأحداث الليبية، فهو يعلم جيداً أن بلده يحمل مسؤولية هزيمتين مدوّيتين وعشرات آلاف الضحايا البشرية، وقد انتخبه شعبه ليغلق هذه الصفحات غير المشرقة من التاريخ الأميركي. وأوروبا تعمل على إثبات أنها أكثر حكمة من الأميركيين وإن كانت أقلّ منهم قوّة، وأنّ طرقها أنجع وأقلّ تكلفةً من الناحية الإنسانية. سيناريو التدخّل في ليبيا جاء مختلفاً، فقد ارتكز على تنسيق ندّي بين القوّة الأعظم وحلفائها الأوروبيين، وعلى الخضوع لمرجعية الأمم المتحدة التي تعتبر لدى الأوروبيين غير قابلة للمساومة، وعلى إشراك البلدان الأخرى المعنية بالأزمة، خصوصاً بلدان المغرب العربي التي لعبت كلّ منها على حدة دوراً مهماً في هذا الملف، وعلى عدم المسارعة في استعمال الحلول العسكرية مع التلويح بها دائماً، وعلى ترجيح القوّة الناعمة والأسلحة المالية، إلى غير ذلك من متغيرات تستحقّ أن تدرس بتفصيل لأنها تعبّر عن الطرق الجديدة المعتمدة في سياسات القوة الناعمة التي يلتقي حولها اليوم الأميركيون والأوروبيون.
هكذا يقع على عاتق السراج إنجاح تجربة جديدة في الحلّ السياسي القائم على ترويض العامل القبلي، غير ما جُرّب ففشل حتى الآن. لكنّ السرّاج سيواجه أيضا قوى سياسية تتسم بالمكر والخديعة، وفي مقدمها «الإخوان» أو «فجر ليبيا»، إذ ما فتئت مواقفهم تنقلب رأسا على عقب في كلّ أسبوع.
فقد أغلقوا المجال الجوّي لمنع السرّاج من العودة إلى ليبيا، واضطرّوه للعودة عن طريق البحر، وأصدر مفتي الإخوان الصادق الغرياني موقفاً مناهضاً لعودته، وتعالت الدعوات لمنعه متهمة إياه بكل النعوت. ولا يستبعد أن تكون عملية «بنقردان» الإرهابية في تونس ضربة تحذيرية أو انتقامية من تونس التي كانت تؤوي السرّاج وأعضاء مجلسه الرئاسي ومنها كان يتصل بمؤيديه في ليبيا. ثم لما أيقنوا أنه أصبح أمراً واقعاً أصدروا، بكل بساطة، بياناً يعلنون فيه التخلّي عن السلطة لمصلحته، فيما غيّر المفتي غير الشرعي فتواه بعد وساطة قام بها مبعوث تركي إلى المنطقة! وبعد أقلّ من 24 ساعة أعلنوا استعادة الحكم من جديد!
وفي بلد يعيش على نفط تستخرجه الشركات الغربية وتشتريه البلدان الغربية، يمكن لمن حظي بدعم الغرب أن يصبح الفاعل الأساسي في الأحداث، لكن ذلك ليس ضمانةً كافية لنجاحه. لكن لأوّل مرّة، يبدو كأنّ الغرب يتصرّف ببعض الحكمة، لا سيما الأوروبيين الذين يدركون جديّة التهديد الذي يواجههم في حالة تواصل انهيار الأمن في ليبيا، وقد كانت عمليتا باريس وبروكسيل بمثابة تنبيهات مبكّرة. نقلا عن الحياة