ربما كان لسان أصحاب السلطة في تونس العبارة المشهورة «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن». ففيما حرصوا على جعل التسلم الرسمي للرباعي الراعي للحوار جائزة نوبل للسلام، يوم 10 كانون الأول (ديسمبر)، فرصة لمحو الصورة السلبية التي علقت بالبلد وأضرّت باقتصاده، جاء غير حدث ليقلب الأمور رأسًا على عقب. فالمفاوضات بين النقابة العمالية والقطاع الخاص فشلت، واستفحلت أزمة الحزب الحاكم، «نداء تونس»، وأشرفت على القطيعة بين الشقين المتناحرين، ثم بخاصة عاد الإرهاب مجدداً ليضرب بقوة: فبعد أول عملية قطع رأس ذهب ضحيتها راعٍ اتهمه الإرهابيون بالتخابر مع الأمن (13/11)، سجلت أوّل عملية ضدّ الحرس الرئاسي ذي الكفاءة التدريبية العالية ذهب ضحيتها 12 عنصراً (24/11).
التونسيون ردّوا على التحدّي بإقبال غير مسبوق على أيام قرطاج السينمائية في الفترة ذاتها، حتى أنّ الشريط المغربي «الزين اللّي فيك» الممنوع في بلاده بتهمة الإباحية، شهد إقبالاً غير طبيعي يفسَّر بعزم الكثيرين على تحدّي التهديدات بتفجير قاعة عرضه. كذلك شهدت مقابلة نهائي كرة القدم لكأس إفريقيا للأبطال حضوراً لافتاً، وقد نظمت في مدينة سوسة التي اكتوت بالإرهاب في العملية السابقة (26/6)، وانتصر فيها الفريق الذي تعرّض رئيسه لمحاولة اغتيال قبل أسابيع ونجا منها بأعجوبة.
مقابل ردود الشعب المتحدّية، توجد حكومة شبه عاجزة، قليلة الإبداع والنجاعة، ليس بسبب تقصير رئيسها وإنما لأنّ من المفترض أن يسندها الحزب الذي حظي بالغالبية في الانتخابات الأخيرة، لكنه ظل مشلولاً بصراعاته الداخلية على الزعامات والمواقع، وبتنافس رجال الأعمال الذين موّلوه في استثمار تمويلاتهم الانتخابية. أما حزب «النهضة» فيكفيه ألاّ يفعل شيئاً كي يكون المستفيد الأكبر من الوضع المنهار لمنافسه الذي أثبت أنه ليس أقلّ عجزاً منه على التصدّي للإرهاب وإنعاش الاقتصاد.
ليس عسيراً فهم سبب الإرهاب في تونس، فالظاهرة نفسها تكرّرت في غير بلد: ضعف الدولة يتزامن وعودة مكثفة من بؤر صراع أجنبية لجهاديين مرتبطين بتنظيماتهم الدولية، بخاصة «القاعدة» و»داعش». فعشرات التونسيين شاركوا في العمليات الإرهابية المتواصلة للعقدين الأخيرين، ويكفي أن نتذكّر أنّ اغتيال الزعيم الأفغاني أحمد شاه مسعود كان قد نفّذه شاب تونسي، وأن شابين شاركا مشاركة لوجستية في تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
بيد أنّ سياسة النظام السابق لم تكن تمنح أي فرصة لهؤلاء للعودة إلى الوطن، فتعاظم عددهم في الخارج من دون أن يكون لهم تأثير كبير في تونس ذاتها، عدا ثلاث عمليات مشهورة خلال عشرين سنة. لكن بعد الثورة، عاد غالبية هؤلاء معزّزاً مكرّماً، والتحقوا بزملائهم الذي تمتعوا بالعفو العام، واستفاد هؤلاء وأولئك من تعويضات صرفت لضحايا العهد السابق وبرامج تشغيل وضعت من أجلهم. ومع أنّ الخطر كان واضح المعالم منذ البداية، فإنّ أسباباً عدة تفسّر التراخي في الاحتياط والتصدّي، كالنزاعات الكبيرة داخل الأجهزة والقيادات الأمنية التي تحوّلت إلى تصفية حسابات منذ الثورة وقبل بداية حكم «الترويكا» ثم بعدها وإلى الآن، وكالرؤية الضالة التي فرضتها «النهضة» على «الترويكا» عندما اعتبرت الإرهاب ظاهرة عرضية ومحدودة ومجرّد «فزّاعة» يحرّكها «أزلام» النظام السابق، وكتشكيك جزء من الحقوقيين بماضي الإرهاب واتهام النظام السابق أنه اختلق الظاهرة ليتخذها مبرّراً لضرب الحريات العامة.
ولم تكف كارثة فتح الحدود التي حالت دون مراقبة الإرهابيين العائدين، فأضيفت إليها كارثة تسفير الشبان التونسيين للقتال ضدّ النظام السوري، لا بصفته نظام قهر واستبداد ولكن بصفته نظام أقلية مارقة دينياً، فتحوّل الصراع السوري في مخيال التونسيين صراعاً دينياً، واستتبعه «تديين» السياسة التونسية ذاتها، واغتيل الزعيم اليساري شكري بلعيد في 6/2/2013، وهي جريمة يُرجح ارتباطها بشبكات التسفير إلى سورية، إذ يبدو أن بعض المتحمّسين تعجّل بالجهاد القريب قبل بلوغ الهدف الأصلي.
منذ ذلك الحين، انقسم الرأي العام إلى قسمين: قسم يتهم زعماء «النهضة» برعاية الإرهاب ضدّ المعارضة، وقسم يتهم معارضي «النهضة» بالوقوف وراءه لإطاحتها. والحقيقة أنّ الإرهاب كان يعمل لحسابه الخاص مستفيداً من قصر النظر لدى هؤلاء وأولئك معًا.
لكن، إذا كان من اليسير أن نفهم النشأة، فمن العسير أن نفهم تواصل عجز الدولة بعدما اتضحت الأمور وسقط حكم «النهضة» الذي يتحمّل المسؤولية التاريخية لفتح البلاد على الإرهاب. لقد تمّ تغيير المسؤولين الأمنيين غير مرة، ووضعت الخطط وأعلنت الإجراءات، وسنّ قانون للإرهاب، كلّ ذلك دون جدوى. فالحقيقة أنّ قضية الإرهاب لا يمكن أن تعالج معالجة ناجعة إلاّ بطرح قضية تسيير الدولة بعامة، إذ تبدو الحكومات حتى الآن وكأنها حكومات تسيير أعمال، ويسود ضعف فادح في التنسيق بين أجهزة الدولة المختلفة (التنسيق بين الأمن والقضاء مثلاً)، ويهتم الوزراء بدعم صورتهم في الإعلام تحسّباً للانتخابات المقبلة أكثر من اهتمامهم بالنجاح في المهمات المنوطة بهم، ويهتم الإعلاميون بالإثارة أكثر من اهتمامهم بالمساهمة في حلّ قضايا الشعب، وتضطلع رئاسة الجمهورية بدور محوري في نظام سياسي لم يعد نظاماً رئاسياً، وتغيّب الكفاءات في كلّ الميادين لحساب المحسوبية الحزبية والتملق والتهريج، ويتقاسم العائدون من النظام السابق و»الثورجيون» الجدد والخبراء المزيّفون منابر الإعلام، ويتحكم رجال الظلّ في كل القرارات، وتغيب الشفافية والوضوح في الخطابات الرسمية (ما معنى إعلان المجلس الأعلى للأمن القومي بعد العملية الإرهابية الأخيرة عن «تفعيل قانون الإرهاب في أسرع وقت ممكن»، مع أنّ كلّ التونسيين كانوا يظنون أنّ هذا القانون «مفعّل» منذ إقراره بعد العملية الإرهابية في باردو؟).
فالأمن لا يستقيم أمره خارج العلاقة بالوضع العام للبلد والحوكمة الرشيدة لشؤونه، ومهما كانت أهمية الجهود التي يبذلها الأمنيون في مواجهة الإرهاب المدمّر فإنها لن تثمر في وضع سياسي متردّد ومختلّ. من هنا تكون البداية.
حذار، فالوقت لم يعد يتسع لمزيد من التراخي، لأنّ تصاعد الضربات ضدّ «داعش» في العراق وسورية يدفع جزءاً مهماً من الإرهابيين إلى التحوّل نحو ليبيا، وتموقعهم على بعد مئات الكيلومترات من الحدود التونسية، وتنمية قدراتهم على تحريك الخلايا الإرهابية النائمة واستقطاب تونسيين آخرين للإرهاب. نقلا عن الحياة