المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

سيناريوهات محتملة للعلاقة بين الدولة والبابا تواضروس الثاني من التعاون إلى الصراع

الأحد 29/ديسمبر/2013 - 11:43 ص
د. يسري العزباوي - هاني سليمان
لقد جاء تنصيب نيافة الأنبا تواضرس، أسقف محافظة البحيرة، ليكون بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية رقم 118، ليحمل في طياته مسئوليات جسام تجاه الأقباط في الداخل والخارج من ناحية، والوطن من ناحية أخرى. وفي ظل ظروف صعبة للغاية، تمر بها مصر حاليًّا، أنهى اختيار الأنبا تواضروس فترة ثمانية أشهر ممتدة من الترتيبات المصحوبة بجدل متصاعد منذ رحيل البابا شنودة الثالث، فالانتخابات أتت في سياقات متشابكة ومعقدة، في خضم مرحلة المد الثوري، شهدت مغايرة هيكلية في السلطة الحاكمة، وخريطة التفاعل بين القوى السياسية الفاعلة في المجتمع، وبعض التوترات الطائفية التي أعقبت اندلاع الثورة، في تطور غير متوقع، وصياغة دستور جديد يمثل مخاضًا عصيبًا لضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، ما يضفي مزيدًا من التعقيد على التحديات المستقبلية التي يواجهها البابا الجديد.

وبعد تنصيب نيافة البابا تواضروس الثاني، كان أول قرار على الصعيد السياسي، هو انسحاب ممثلي الكنائس المصرية من الجمعية التأسيسة لوضع الدستور؛ مما شجع الكثير من ممثلي المؤسسات والقوى المدنية للانسحاب، وهو ما يعد مؤشرًا على بداية تحول جديد في طبيعة العلاقة بين الدولة بالكنيسة، خاصة بعد الجدل الإعلامي الكبير حول جدلية حضور الرئيس مرسي حفل تنصيب البابا، وما صاحبه من جدل فقهي من بعض التيارات السلفية المتشددة، والذي حسمته مؤسسة الرئيس بإرسال مندوب عنها لحضور حفل التنصيب.

ومن الأهمية هنا الإشارة إلى أننا نقصد في هذا التحليل بـ“,”الدولة“,” “,”النظام السياسي“,”، الذي يتولى مقاليد الحكم ويتغير من آن إلى آخر؛ وذلك لأن هناك فرقًا كبيرًا بين المفهومين في العلوم السياسية، حيث إن “,”الدولة“,” هي تجمع سياسي يؤسس كيانًا ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد، ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة. أما “,” النظام السياسي“,”: فهو نظام اجتماعي يقوم بعدة أدوار، أو وظائف متعددة، استنادًا إلى سلطة مخولة له أو قوة يستند إليها، منها إدارة موارد المجتمع، وتحقيق الأمن الداخلي والخارجي، وتحقيق أكبر قدر من المصالح العامة والعمل على الحد من التناقضات الاجتماعية .

وبناء عليه، فإننا سوف نتناول هنا الخبرة التاريخية في تعامل الدولة مع الكنيسة، وكيف استطاعت الدولة التعامل مع الأقباط من خلال الكنيسة، وهل سيضفي البابا تواضروس أبعادًا جديدة على طبيعة هذه العلاقة، ومحددات العلاقة بين البابا والدولة، وأخيرًا السيناريوهات المحتملة للعلاقة بين الطرفين.

الخبرة الماضوية في علاقة الدولة بالكنيسة

منذ أوائل القرن الثامن عشر، كان –ولا يزال- البطريرك حلقة الوصل في العلاقة بين الدولة ورعاياها من الأقباط؛ ولذا حرصت الدولة العثمانية بادئ الأمر، بعد أن يتم انتخاب البطريرك انتخابًا حرًّا سليمًا من رعايا الكنيسة، أن تصدر مرسومًا أو توقيعًا سلطانيًّا يخرج من ديوان الإنشاء بتوليته مهام منصبه، مما يعطي إحساسًا بأن له صفة رسمية في الدولة، وبأنه مسئول أمامها عن مصالح جزء له اعتباره من رعاياه، وهو ما استمر مع تولي جميع البطاركة حتى الآن، وهو أيضًا ما حدث مؤخرًا من قبل الدكتور محمد مرسي بتعيين البابا تواضروس الثاني.

في العهد الناصري: اختلف الأقباط أنفسهم حول طبيعة العلاقة بين عبد الناصر وكنيستهم. فيفرق بعض الدارسين بين العلاقة الحميمة التي جمعت رأس الكنيسة بالرئيس عبد الناصر، وبين علاقة الشد والجذب بين عبد الناصر والأقباط. ويرى البعض أن عبد الناصر كان يفكر في البلد دون تفرقة بين مسيحي ومسلم، وعندما قام بالإجراءات الاجتماعية من تمصير وتأميم كانت سياسته وطنية عامة، أعطته شهرة عربية ودولية، وأن التطرف وانعكاسه المباشر على الأقباط لم يبدأ إلا في عهد السادات.

أما البعض الآخر، فقد رأى أنه كان من الطبيعي أن يتم عزل الأقباط عن الحياة العامة، نتيجة للإجراءات والتشريعات التي أكدت الطابع الديني للدولة، مثل إنشاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بتبعية مباشرة لرئيس الجمهورية، وصدور قانون إعادة تنظيم الأزهر، الذي بمقتضاه تحول الأزهر من معهد ديني إلى هيئة علمية تحمل أمانة إمامة الإسلام إلى كل الشعوب، وإنشاء إذاعة القرآن الكريم. وهكذا ازدادت الصبغة الدينية في الخطاب الرسمي، ومن ثم الدوائر الحكومية المختلفة، وانزوى الأقباط داخل حضن الكنيسة. ونتيجة لهذا كله صارت علاقة الدولة بالأقباط تمر من خلال الكنيسة وتحكمها علاقة رئيس الدولة بالبابا.

وفي مجمل العلاقة بين الكنيسة والعهد الناصري، يمكن القول إن الصراعات الكنسية والطائفية خلال الثلاثين عامًا التي قبل ثورة يوليو قد طبعت بصيغة الصراع السياسي العام وقتها. والكنيسة تمثل الطرف “,”الأوتوقراطي“,” المحافظ في هذا الصراع، والمجلس الملّي يمثل الطرف “,”الديمقراطي“,” الإصلاحي، ثم انقلبت الأوضاع السياسية هذا الانقلاب الكبير بعد ثورة 23 يوليو، التي تبنت نمطًا من الإصلاح يتم بغير الأسلوب الديمقراطي، ويتم من خلال السلطة وبالقرارات العلوية.

وفي العهد الساداتي: جرت تغيرات عميقة على الجانبين-الدولة والكنيسة- قبل رحيل عبد الناصر والبابا كيرلس. وقد تسلم البابا شنودة الثالث مهام السلطة العليا في الكنيسة قبل ستة أشهر على وجه التقريب من انفراد الرئيس السادات بالسلطة السياسية العليا في الدولة، وإقصائه للأجنحة التي كان وجودها من علامات “,”الاستمرار“,” في المخيلة الشعبية، وهذه الحالة هي أشبه بالحالة التي تمر بها مصر ثورة 25 يناير، حيث إن تولي البابا تواضروس الثاني جاء بعد خمسة أشهر من تولي الرئيس مرسي شئون الحكم والعباد في مصر المحروسة.

وفي الواقع، شهدت العلاقة بين السادات والبابا شنودة الثالث توترًا شديدًا، وهو ما انعكس بأشكال عديدة على علاقة مكونات المجتمع المصري ببعضه البعض. وقد دعم التوتر في هذه العلاقة ما شهده المجتمع المصري من احتقان طائفي وصل إلى ذروته في نهاية السبعينيات، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الرئيس أنور السادات. أما الكنيسة فقد اهتمت عندما وصل شنودة إلى كرسي البابوية بقضية تنظيم الأقباط وربطهم ببعضهم البعض وبالكنيسة. فمن خلال مدارس الأحد والأسر الجامعية، استطاعت الكنيسة أن تنظم وتجمع الشباب في مجموعات، لكل مجموعة قائد. وكما سبق القول آنفًا، ساعد الكنيسةَ على تقوقع الأقباط بها تشجيعُ أنور السادات للجماعات الدينية الإسلامية –ومنها المتطرف- وأصبح فيها مناخ طائفي وصل إلى ذروته في إعلان السادات أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة، كل هذه الأمور وغيرها كثير جعل الأقباط يهاجرون إلى الكنيسة باعتبار أنها الملجأ والملاذ.

وتعتبر فترة تولي البابا شنودة للكنيسة فاصلاً مهمًّا في علاقة الكنيسة بالدولة. فالبابا شنودة اختط أسلوبًا مختلفًا في علاقته مع الدولة والنظام السياسي جعلته أحيانًا مقربًا وأحيانًا مبعدًا إلى درجة النفي. وقد اتخذت الكنيسة في عهد السادات منحى جديدًا في سياستها إزاء لنظام وإزاء رؤيتها لذاتها كمؤسسة وتاريخ في علاقتها بالأقباط وحدودها، ثم علاقتها بالنظام وسياساته، خاصة في مجال الحقوق والحريات الأساسية، لا سيما الدينية. واللافت للنظر أن العلاقة بين الرئيس السادات والبابا لم تكن صراعًا شخصيًّا محضًا كما يتصوره البعض، فالمسألة كانت أكثر تعقيدًا وتركيبًا. فمن الأهمية الإشارة إلى أنه قبل البابا شنودة كان البطاركة في العادة بعيدين تمامًا عن السياسة، ولا يدلون بآرائهم إلا فيما يخص القضايا الوطنية العامة، بل إنهم لم يكونوا يخوضون في قضايا الأقباط نفسها أو مشاكلهم أو مطالبهم، فقد كانت تلك مهمة العلمانيين يتولونها بعيدًا عن أهل الأكليروس. وهكذا لم يحدث أبدًا صدام ما بين البابا والسلطة، إلا في حالة البابا كيرلس الخامس، الذي جرده الخديوي توفيق من منصبه ونفاه إلى أحد الأديرة، وكان ذلك بسبب خلافات بين كل من الأقباط العلمانيين ورجال الأكليروس حول المجلس الملي وطريقة إدارة الكنيسة، وعلى هذا لم يحدث صدام مطلقًا بين الباباوات والسلطة بسبب أي مطالب قبطية حتى جاء البابا شنودة.

وفي العهد المباركي: شهدت العلاقة بين نظام مبارك والكنيسة نوعًا من إعادة التوازن في العلاقات بقدر لم يكن متوفرًا في المرحلة السابقة بنسبة كبيرة، وهو التوازن الذي كان يحتاج إلى المزيد من التدعيم لكي تعيد الدولة لأبنائها المسيحيين مرة ثانية ثقتهم فيها، وأن الدولة وحدها فقط هي التي تستطيع أن تحميهم، وتحافظ عليهم في إطار من الالتزام بالحقوق والواجبات في ظل المساواة التامة، خاصة في ظل الأزمات الطارئة.

ولكن يمكن القول إن بذور تديين المجتمع والسياسة، التي حدثت في عهد السادات، أتت بثمارها في عهد مبارك، مما صبغ هذا العهد بعدد كبير من الاعتداءات التي تعرض لها الأقباط، على الرغم من ترحيب الأقباط بنظام مبارك ترحيبًا شديدًا، وبالرغم أيضًا من العلاقة الجيدة بين البابا ونظام مبارك. فقد قام الرئيس مبارك بإصدار قرار بإعادة تعيين البابا شنودة بطريركًا للأقباط، وليس قرارًا بعودته إلى ممارسة مهام منصبه، على خلاف ما يظن كثيرون؛ وهو أمر أدى إلى بعض الخلافات، حيث كان يصر البابا على أن يأتي القرار بإعادة البابا إلى منصبه وليس إعادة تعيينه. وعمومًا فإن العلاقات الطيبة بين البابا والحكومة أدت إلى انتقاد عدد من الأقباط المتشددين له، خاصة أقباط المهجر الذين وصفوه في بعض المنشورات بأنه تابع للحكومة منذ عودته إلى منصبه، وأنه حريص على المنصب أكثر من حرصه على الأقباط.

ونافلة القول: إنه على الرغم من أن البابا شنودة فقد جزءًا من الإجماع عليه منذ آواخر الثمانينيات، ونتيجة طبيعية للأحداث التي مرت بها مصر منذ السبعينيات حتي ثورة 25 يناير، فإن البابا أصبح زعيمًا شعبيًّا، وليس روحيًّا فقط، بل إن شعبيته ازدادت بين المسلمين أيضًا. وهكذا حكم البابا شنودة على البطريرك الجديد بأن يكون له موقف سياسي، وأن يكون حذرًا في آرائه بحيث يكون مع الأغلبية الشعبية وليس في جانب الحكومة. وفي نفس الوقت فإن موقف البابا من الحكومة أصبح مأزقًا: فهو إن هادنها فقد جزءًا من شعبيته بين الأقباط، وإن هاجمها فإنه لا يطمئن إلى رد فعلها الذي قد يكون متهورًا، خاصة أن الحاكم الجديد لا يعرف أحد كيف ستكون ردود أفعاله.



محددات العلاقة بين الدولة والبابا تواضروس



وفي ظل الخبرة الماضوية السابقة لعلاقة البابا مع الدولة منذ الخمسينيات من القرن الماضي، فإن هناك مجموعة من المحددات والعوامل التي سيتوقف عليها مستقبل العلاقة بين البابا تواضروس الثاني والنظام السياسي الجديد، منها على سبيل المثال ما يلي :

أولاً: الدستور الجديد: نعلم جميعًا أن انسحاب الكنيسة من الاستمرار في المشاركة في الجميع التأسيسية وضع القائمين عليه في مأزق حقيقي، لأنها المرة الأولى التي ينسحب فيها ممثل الكنيسة منذ دستور 1923، على الرغم من وضع بعضها من قبل لجان متخصصة. كما أن تمرير الدستور بالموافقة بنسبة بسيطة يضعه محل شك ليس فقط من الأقباط ولكن من عموم المصريين؛ وبالتالي فإن التوافق الذي لم يحدث على مستوى النخبة لم يحدث أيضًا على مستوى القاعدة أو الجماهير.

ثانيًا: طبيعة العلاقة بين البابا والرئيس: فإذا كانت العلاقة صراعية أو تعاونية بين الرئيس مرسي وقداسة البابا تواضرس، كما كانت العلاقة بين الرئيس السابق مبارك والمتنيح البابا شنودة، فستنعكس بالضرورة على جميع المشاكل المستقبلية. وعلى الرغم من تأكيد الرئيس والبابا، في اللقاء الذي جرى بينهمافي 21 نوفمبر الماضي، على وحدة النسيج الوطني، وعلى أن الرئيس هو أب للعائلة المصرية كلها بغير تفريق ولا تمييز، وتعهد الرئيس بأن حقوق المصريين جميعًا أمانة في عنقه، وأنه لا يقبل مطلقًا أي تمييز ضد أي مصري، والتشديد على ضرورة التكاتف جميعًا من أجل المستقبل، وحرصه على مساهمة الجميع في الوصول إلى توافق حول دستور مصري يفتح أبواب المستقبل في أسرع وقت ممكن، فإن الكنيسة قد سحبت ممثليها في الجمعية التأسيسية، والرئيس حصنها، في مفارقة دالة على مستقبل العلاقة بين الطرفين.

ثالثًا: منظمات أقباط المهجر: والتي بادرت بوقفة احتجاجية ضد الدكتور مرسي أثناء زيارته في الولايات المتحدة لإلقاء كلمة مصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ورفض بعض هذه المنظمات حضور الاجتماع الذي نظمته السفارة المصرية للقاء الرئيس بالجالية المصرية بنيويورك. ومن الأهمية هنا الإشارة إلى موقف بعض المنظمات القبطية من زيارة الرئيس مرسي للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أعربت 18 منظمة قبطية بأمريكا، عن استيائها من بدء بعض الكنائس القبطية في أمريكا التعاون مع السفارة المصرية في دعوة الأقباط للذهاب للترحيب بالرئيس، ورفضت لقاء الرئيس، فضلاً عن رفضها تدخل الكنيسة في الشأن السياسي والحقوقي، أو أن تكون أداة أجهزة الدولة لتكبيل الأقباط، وهو ما أسمته “,”تكرار اللعبة“,” التي استمرت لسنوات في عهد مبارك وكان حصادها مُرًّا ضد الأقباط، وأن الهدف من لقاءات مرسي، والتي ليس لها هدف سوى تقسيم الأقباط في الخارج، وإعطاء إيحاء كاذب للعالم بأن الأقباط في توافق مع حكم الإخوان المسلمين.

رابعًا: تعامل الدولة مع الحوادث التي يتعرض لها الأقباط في الداخل: حيث سيكون البابا الجديد مطالبًا باتخاذ موقف واضح وحازم يتماشى مع رغبات عموم الأقباط؛ مما سيشكل ضغطًا إضافيًّا على البابا الجديد، والذي سيكون مطالبًا، في الوقت ذاته، بالتهدئة والحكمة في التعامل مع كل الأحداث الداخلية قبل المبادرة باتخاذ مواقف قد يترتب عليها مزيد من الاحتقان الطائفي بين عموم المصريين .

خامسًا: طبيعة العلاقة بين البابا الجديد وشعبه من الأقباط: خاصة أن المقارنات التي ستنشأ دائمًا بين شخص البابا الجديد والبابا المتنيح شنودة، ستشكل عبئًا على تصرفات البابا الجديد. فلا شك في أن هناك العديد من الخصائص والسمات الشخصية المميزة من قوة الشخصية والحكمة ووضع المصلحة الوطنية العليا في الاعتبار لكليهما، ولكن البابا شنودة لم يكن فقط الراعي الروحي والسياسي المحنك، ولكنه وصل إلى درجة كبيرة للغاية من الكارزمية التي كانت تجعل الجميع يقف أمامه منصاعًا منفذًا لقراراته دون محاولة النقاش أو التملص منها. وربما لو تولى البابا تواضروس في سياق آخر أو بعد شخصية غير البابا شنودة، لكانت الأمور بالتأكيد أفضل من الآن .

وفي الواقع، فإن العوامل والمحددات السابقة، ستشكل، لا محالة، طبيعة العلاقة بين الدولة والكنيسة في المرحلة القادمة، وستحدد أيضًا السيناريوهات المستقبلية بين الطرفين.



سيناريوهات العلاقة.. بين الوئام والصدام

من خلال تلك التحديات، والعلاقة المعقدة بين الكنيسة والدولة، ووفقًا لما عرض من مقدمات، يمكن تصور مستقبل العلاقة بين البابا والدولة في سيناريوهات ثلاثة محتملة ، وهي كما يلي:

السيناريو الأول: التوافق والوئام الكامل: حيث يتطلب هذا السيناريو من الدولة تحقيق جميع مطالب الأقباط من الإسراع بإصدار قانون بناء موحد لدور العبادة، وإصدار قانون يجرم التمييز على أساس الدين في الوظائف العامة وفي شتى أنحاء وظائف الدولة، والقضاء على كل أشكال التمييز وتحقيق المواطنة الكاملة، وتمثيل الأقباط تمثيلاً سياسيًّا متوازنًا ومتناسبًا مع عددهم... الخ.

فداخليًا، سيترتب على هذا السيناريو انسحاب الكنيسة من المجال السياسي لتحل محلها مؤسسات مجتمع مدني وقوى سياسية معبرة عن مطالب المسيحيين، واندماج المسيحيين في إطار الأحزاب الجديدة الصاعدة، وإقرار دولة القانون والمؤسسات، التي تمثل أهم مبادئ وأهداف ثورة 25 يناير. وفي هذا السيناريو ستتفرغ الكنيسة إلى دورها الطبيعي الروحي في رعاية شئون المسيحيين، وهذا مطلب عموم الأقباط في مصر.

وخارجيًّا، سوف تعمل الكنيسة على مساندة الدولة والنظام الجديد، من خلال أبنائها بالخارج، في تحقيق مطالبه، وتحسين صورته في العالم الخارجى، وربما المساعدة في حل ملفات شائكة، مثل ملف الأزمة مع دول حوض النيل، خاصة دولة أثيوبيا، كما حدث في العهد الناصري.

السيناريو الثاني: استمرار الشراكة بين الدولة والكنيسة: أو بتعبير أدق: إبقاء الوضع كما هو عليه، بين الشد تارة والجذب تارة أخرى، وتعامل الدولة مع الأقباط من خلال شخص البابا تواضروس.

وسيترتب على هذا السيناريو، داخليًا، وعلى مستوى الكنيسة، الاستمرار في أداء دورها السياسي بالشكل التقليدي المعتاد، واستمرار تقوقع الأقباط داخلها؛ وبالتالي ستكون الكنيسة ليست فقط الراعي لمطالب واحتباجات الأقباط الروحية ولكن الدنيوية أيضًا. أما من جانب الدولة، فسوف تستمر المماطلة في إصدار القانون الموحد لدور العبادة، وتمثيل شكلي للأقباط في مؤسسات الدولة، وسوف تتعامل الدولة مع كل الأقباط من خلال شخص البابا.

أما خارجيًّا ، فإن الكنيسة ستسعى لاستخدام أبنائها في الخارج للضغط على النظام الجديد للاستجابة لجميع مطالبها على الصعيد الداخلي، وسوف تستمر الكنيسة في افتتاح المزيد من الإبراشيات والكنائس في الخارج.

أما السيناريو الثالث: فيتمثل في الصراع والصدام بين الطرفين ، حيث ما زالت المعركة محتدمة حول الدستوري الجديد، وتحصين الرئيس لكل قراراته السابقة، والصراعات الجديد التي ربما تتفجر بناء على القوانين التي ستنتج عن الدستور الجديد، والتي يقدرها البعض بحوالي 90 قانون.

فداخليًّا ، سيترتب على هذا السيناريو العديد من المواجهات بين الطرفين، واستمرار الاحتقان الطائفي والسياسي، وربما حرق كنائس من قبل تيارات الإسلام السياسي المتطرفة، وزيادة حوادث التمييز الديني في مؤسسات الدولة، واستمرار ضعف تمثيل الأقباط في المجالس النيابية المنتخبة، وغياب الأقباط عن المناصب العليا في الدولة.

وخارجيًّا ، سوف تشتعل المعركة بين أقباط المهجر والدولة من جديد، وسوف تكون هناك مطالبات بتدويل القبطية في مصر، خاصة أن هذه الدعوات ظهرت منذ مطلع الألفية الجديدة، ومطالبة الولايات المتحدة بقطع المعونات عن مصر، أو -على أقل تقدير- ربطها بالتزام الدولة بتطبيق الحقوق والحريات في الداخل، وربما تكون هناك محاولات للتحالف بين النشطاء النوبيين والأقباط في الخارج في مثل هذه المطالبات.

ومجمل القول: إن السيناريو الثاني «استمرار الوضع كما هو عليه» هو الأقرب إلى الواقع، على الرغم من بداية ظهور رفض من الكنيسة لتعامل الدولة مع بعض ملفات المرحلة الانتقالية الحالية. ويمكن القول أيضًا إن السيناريوهات الثلاثة لا يمكن الفصل بينها؛ لأنها تقع على خط مستقيم واحد، ولن يحدث أحدها إلا بعد المرور بالاثنين الآخرين، وبعد أن تتضح الرؤية الكلية لقداسة البابا تواضروس، ومنهجه في التعامل مع الكثير من الأمور المطروحة داخليًّا وخارجيًّا، ولكن الأمر المؤكد، ولا لبس فيه، هو أن البابا الجديد سيحاول دومًا جعل جميع الأبواب مفتوحة أمام الجميع، سواء كان الأقباط في الداخل أو في الخارج؛ لأنهم من المصادر الرئيسية للتبرعات للكنسية، وأبنائها، كما أنهم الامتداد الطبيعي بالخارج، ليس فقط لمصر، ولكن للكنيسة أيضًا، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، سيحافظ البابا الجديد على شعرة معاوية مع النظام السياسي الجديد في مصر، حتى ولو اعتلاه أكثر التيارات الدينية تشددًا؛ لأنه من مصلحة جميع الأطراف.

ومن المؤكد أنه سيكون هناك تعاون وثيقة بين البابا الجديد وفضيلة الإمام الأكبر، والذي سيتخذ منحى مؤسسيًّا ذا فاعلية أكثر، ونقصد هنا تفعيل مبادرة “,”بيت العائلة“,”، للوصول إلى وفاق وطني حقيقي، ورؤية مؤسسية موحدة لمستقبل هذا البلد.

وأخيرًا، فإن مدى قدرة الدولة على جذب الأقباط وإدماجهم في المجتمع سيؤثر بلا شك إيجابيًّا في طبيعة العلاقة بين الدولة والكنيسة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟